الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صدر الصين.. واسع

صدر الصين.. واسع
18 يوليو 2018 19:52
«القطيعة» ليست وصفة صينية. نال كثير من النقد تجربة الصين الحديثة، أي ما بعد الإمبراطورية وحكم العائلات السلالية الضاربة جذورها في أعماق خمسة آلاف سنة. لكن لم تقع معالجة نقدية جدية، على قطيعة فعلية مع الإرث الحضاري الهائل. حتى في عزّ «الوثبة الكبرى إلى الأمام» التي قادها ماو تسي تونغ، وأتبعها بالتحولات الاقتصادية الجذرية من نظام إقطاعي متماسك إلى نظام اشتراكي ممسك بكل مفاصل الحياة، ومن ثم إلى «الثورة الثقافية» التي رفعت الشعار الفاجع: «اهدموا كل شيء والبناء سوف يتكفل بنفسه».. في كل تلك المحطات، حافظت الصين على صياغتها المتفردة للحياة. صانت تلك الخلطة السحرية بين الإنسان والمكان، والتي بثت الروح في التنين العملاق. هذه التوطئة عن انتفاء «القطيعة» بصيغة الماضي، تمهد للحديث عن غياب «القطيعة» بصيغة الحاضر، والتي تتجلى في أكثر معانيها على صفحات كتاب «حول الحكم والإدارة» للرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي أطلقت نسخته العربية في أبوظبي صباح الأحد الفائت. اشتراكية بلون صيني يعتقد كثيرون أن الصين المعاصرة، بحضورها الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي والدبلوماسي الكبير، في قارات العالم الخمس، هي غير الصين التي قاتلت من أجل تحررها في النصف الأول من القرن الماضي، وفرضت وحدتها، وخلّصت شعبها من حروب الأفيون والمجاعة والمرض.. هي غير الصين، التي انتمت إلى نادي الدول الكبرى، بقوتها العسكرية والاقتصادية وبنهجها الاشتراكي. يخلص كثير من المحللين إلى أن ما أحدث هذه النقلة النوعية في الصين، هو اختيارها اقتصاد السوق على قاعدة رأسمالية فضفاضة. لكن الرئيس الصيني، في كتابه، يسرع، ومن الصفحات الأولى، لكي يؤكد ويفصّل فلسفة الصين الاقتصادية. يمنحها الاسم والهوية، فهي «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، وحينما يتقصى جذورها يجدها في تعاليم ماو تسي تونغ وفي سياسات سلفه دنغ شياو بينغ المؤسس الحقيقي لتحولات الصين الحديثة. بهذا المعنى فإن الماركسية، التي انبنت عليها الاشتراكية العلمية، هي في العرف الصيني الراهن، مسألة أكاديمية، يمكن للدارسين أن يقتفوا في أطروحاتها أثر «الحتميات التاريخية» و«الجدلية المادية»، أما فيما يتعلق بإدارة مصالح الدول والشعوب، وفي حجم كحجم الصين، فإن التجربة هي الحجة وليست النظريات. والملفت أن كارل ماركس نفسه أدرك هذه الحقيقة، فاستلحق نظرياته في «رأس المال» بأطروحته عن «النمط الآسيوي للإنتاج»، وكانت عينه آنذاك على الصين وعلى شبيهاتها من دول القارة. وقد وعى الصينيون، ربما قبل غيرهم، عجز الماركسية عن توفير حلول ناجعة لكل معضلة في كل آن وكل مكان، وهو ما يشير إليه الرئيس بينغ في كتابه بقوله: «من الضروري أن تتطور الماركسية بلا انقطاع مع تطور العصر والممارسة والتقدم العلمي، ولا يمكنها أن تكون جامدة بلا تغيير» (ص25). وبتبسيط لمعاني هذه الكلمات، يمكن القول إن الماركسية طوّعت حقائق الواقع لكي تتواءم مع محدداتها النظرية، وإن الرفاق في الصين يريدون للنظرية أن تصبح تعبيراً عن الواقع. إذن، يتمثل عدم الانقطاع التاريخي في كتاب الرئيس الصيني بحضور ارثين فاعلين في صياغة راهن البلاد: البعد الحضاري الروحي الفلسفي العريق، والتجربة الاشتراكية المتصلة، والتي يعرّفها شي جين بينغ بكلماته عام 2012: «الاشتراكية وحدها هي القادرة على إنقاذ الصين، والاشتراكية ذات الخصائص الصينية وحدها هي القادرة على تنمية الصين. برفع الراية العظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية فقط، يمكننا أن نوحّد ونقود كل الحزب وأبناء الشعب من القوميات المختلفة في البلاد كلها لإنجاز بناء مجتمع رغيد» (ص7). فالاشتراكية، بهذا المعنى هي رافعة التنمية وعامل التوحيد، بالنسبة للصينيين، ولكن برؤية براغماتية واضحة فإن «نظام الاشتراكية ذات الخصائص الصينية (...) ليس في ذروة الكمال ولا ناضجاً كاملاً ولا ثابت الشكل» (ص10). فما الذي يقصده الرئيس الصيني بهذا الاستدراك؟ من الواضح أنه يريد أن يخلّص التجربة، تجربة البناء والتنمية، من أدران الممارسة، والتي تتمثل بالدرجة الأولى بما تجرّه عليها ممارسات الفساد. وفي ذلك يستعير كلمات ماو «الأشياء تتعفن أولاً، ثم تنمو فيها الديدان» (ص17). ثقة وشفافية بشفافية عالية، تحتاج الصين لأن تحكم نفسها، وتؤكد حضورها الفاعل، سواء في محيطها الحيوي أو على المستوى الدولي. وهي حاجة تتضاعف مع الحجم الهائل للبلاد والذي يعبّر عنه الرئيس الصيني بقوله: «نقف على الأراضي الشاسعة المترامية البالغة مساحتها 9?6 مليون كيلومتر مربع، ونمتص الغذاء الثقافي المتراكم خلال نضال الأمة الصينية الطويل، ونمتلك القوة العظمى المحتشدة من 1?3 مليار نسمة من الشعب الصيني، ونسلك طريقنا، ونمتلك مسرحاً كبيراً، وموروثاً تاريخياً عميقاً غير مسبوق، وثبوتاً قوياً غير محدود للتقدم. من الضروري أن يتمتع الشعب الصيني بهذه الثقة، بل ينبغي لكل صيني أن يمتلك هذه الثقة» (ص31). هذا الشعب الملياري، لا يمكن وضعه في قالب واحد، أو أن يحكم في إطار فردي، وهذه الحقيقة يؤكدها الرئيس الصيني بقوله: «لكل فرد مثله العليا وطموحاته وأيضاً حلمه الذاتي. وفي الوقت الحاضر، يناقش الجميع حلم الصين، وباعتقادي أن تحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية هو أكبر حلم منذ بداية العصر الحديث. إن هذا الحلم يبلور أمنيات عدة أجيال من الصينيين (...) ويبرهن لنا التاريخ على أن مستقبل كل فرد ومصيره يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بمثيلهما للبلاد والأمة. (...) التشدق بالحديث الفارغ يضر الدولة، والعمل المضني يحقق ازدهار البلاد» (ص38). الحقوق الفردية ذلك هو إقرار من لدن نظام شمولي، بحقوق الفرد الأساسية، والتي يسميها الرئيس الصيني «الحلم الذاتي»، ثم يفصّلها في كلمة له عام 2013، بقول: «يجب التمسك باحترام العمل وإسعاد العاملين، إذ إن العمل مصدر للثروة والسعادة (...) يجب على المجتمع كله أن يطبّق المبدأ المهم وهو احترام العمل واحترام المعرفة واحترام الأكفاء واحترام الاختراع» (ص49). يقدم الرئيس بينغ في هذه الصياغة، رؤى تستحق التوقف عندها، فالأدبيات المعتمدة في المجتمعات الشيوعية دأبت على تغييب الفرد لمصلحة الجماعة، وتسييد المؤسسة على حساب المجتمع، وانفراد الحزب ونخبته بشؤون العامة والخاصة. فالصين الحديثة، التي يروّج لها رئيسها، هي الصين التي اعتمدت في تاريخها الطويل على منظومة قيم، كانت قبل الأيديولوجيات، أو ربما هي تكون الأيديولوجية الحقيقية. وفي حديثه للشباب يشدد الرئيس بينغ على هذا الأمر بقوله: «إن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، هي الاشتراكية التي شهدت تطوراً كاملاً من الحضارتين المادية والروحية، فالأمة التي تنقصها القوة الروحية من الصعب أن تحقق القوة الذاتية، والقضية الخالية من الارتكاز على الثقافة من الصعب أن تبقى طويلاً (...) إن التجارب المتحضرة المكتسبة لأمة تتجسد إلى حد كبير، في المستوى الأخلاقي والملامح الروحية للشباب. ينبغي للشباب أن يجمعوا وثيقي الإدراك والتأكيد الأخلاقي الصحيح والتربية الواعية والممارسة الأخلاقية الإيجابية (...) ويكونوا رواداً في تعميم الأجواء الاجتماعية الحميدة (...) ويدعوا بنشاط إلى الأخلاق المهنية والأخلاق الأسرية الحميدة» (ص57). القوة الناعمة إن بناء الصين الحديثة، باقتصادها العملاق، وحضورها الكوني، هو مثال حيّ ما درج علماء السياسة والاجتماع على تسميته القوة الناعمة. وهو مفهوم تعيه القيادة الصينية، ويعبر عنه الرئيس بينغ بسلسلة من المهام. من أبرزها: يتطلب رفع القوة الناعمة الثقافية للبلاد وإرساء أساس متين لهذه القوة. يتعين علينا التمسك بطريق التنمية الثقافية الاشتراكي ذي الخصائص الصينية، وتعميق إصلاح النظام الاشتراكي. وإذكاء الروح الوطنية والعصرية. وتحقيق الازدهار الشامل لخدمات الثقافة العامة والتنمية السريعة للصناعات الثقافية. كل تلك الرؤى الداخلية تحتاج، وفق قراءة متأنية لكتاب «حول الحكم والإدارة»، إلى بعد دولي ترفده مواقف مدروسة لحكومة بكين، من قضايا التعاون الدولي، والسلم في العالم، خصوصاً الحد من انتشار الأسلحة النووية، وهو يفرد له صاحب الكتاب فصولاً كاملة تلقي الضوء على مواقف بلاده في هذه الشؤون. ولعل الفلسفة الكامنة وراء ذلك، هو ما يجمله الرئيس الصيني في كلمته بتاريخ 27 مارس 2014 في مقر اليونيسكو، بقوله: «بفضل التبادلات أصبحت الحضارات ملونة، وبفضل الاستفادة المتبادلة أصبحت الحضارات غنية. التبادلات والاستفادة والتعلم المتبادل بين الحضارات، هي قوة دافعة مهمة لتقدم الحضارة الإنسانية والسلام والتنمية (...) أشعة الشمس من سبعة ألوان، والعالم كذلك ملون (...) إذا كان في العالم نوع واحد من الزهور فقط، فسيكون العالم روتينياً مهما كان جمال هذا النوع من الزهور (...) الحضارات متساوية، وبفضل المساواة فقط، أصبحت للحضارات البشرية إمكانية التبادل والتعلم (...) منذ أكثر من 2000 سنة، دخلت البوذية والإسلام والمسيحية إلى الصين على التوالي، كما استفادت الموسيقى والرسم والأدب الصيني من مزايا الحضارات الأجنبية باستمرار». تلك هي الصين التي لا تقطع مع ماضيها، ولا تقاطع العالم، كما يقدمها رئيسها شي جين بينغ في كتابه «حول الحكم والإدارة». وبكلمات يستعيرها الرئيس شي جين بينغ من أديب فرنسا فيكتور هيجو، نستطيع أن نفهم الصين، وفلسفتها الجديدة، على نحو أمثل: «إن أوسع ما في العالم هو المحيط، وما أوسع من المحيط هي السماء، وما أوسع من السماء هو صدر الإنسان». هوايات ورياضات في حوار مع التلفزيون الروسي بتاريخ 7 فبراير 2014، يتحدث الرئيس شي جين بينغ عن هواياته فيقول: «أنا أحب القراءة، ومشاهدة الأفلام، والسياحة والتمشي. إن أعمالي أخذت كل وقتي، الآن ما يمكنني فعله في وقت الفراغ هو قراءة الكتب، وقد أصبحت قراءة الكتب أسلوباً لحياتي. قرأت أعمالاً لكتّاب روس، مثل كريلوف وبوشكين وغوول ويرمنتوف وتورجنيف ودوستوفسكي ونكراسوف وتشيرنيفسكي وتوليستوي وتشيخوف وشولوخوف». ويضيف: «أحب السباحة وتسلق الجبال. أحب أيضاً كرة القدم، وكرة السلّة والتنس وألعاب الووشو، وغيرها». ويقول الرئيس الصيني: «أحب مشاهدة هوكي الجليد، والتزلج السريع على الجليد، والتزلج التشكيلي، والمهارات على الثلج». عن الكتاب كتاب الرئيس الصيني شي جين بينغ «حول الحكم والإدارة»، الذي جرى إطلاق نسخته العربية قبل أيام في أبوظبي، بمناسبة زيارته الرسمية إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، هو تجميع لكلمات ألقاها الرئيس الصيني في مناسبات مختلفة، داخلياً وخارجياً، وهو يتضمن 79 عملاً مهماً له، في الفترة ما بين 15 نوفمبر 2012 إلى 13 يونيو 2014، بما فيها الكلمات والأحاديث والخطب والأجوبة للأسئلة والتعليقات والرسائل. وتم تقسيم الكتاب إلى 18 موضوعاً، بحيث رُتبت مضامين كل موضوع حسب الترتيب الزمني، مع وضع بعض الهوامش الضرورية في نهاية كل مقال، ليسهل على القراء معرفة نظام الصين الاجتماعي وثقافتها وتاريخها. وتجمع في الكتاب 45 صورة لشي جين بينغ، مأخوذة من مراحل مختلفة. ويقع الكتاب في 500 صفحة، وهو صادر عن دار النشر باللغات الأجنبية في بكين عام 2014.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©