الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كنت مع جهيمان

كنت مع جهيمان
20 يوليو 2011 19:36
أهمية هذا الكتاب تكمن في أنه يروي أحداث الحرم المكي قبل أكثر من ثلاثين سنة، عبر شاهد ومشارك، بل ومن المحسوبين على جماعة جهيمان التي نفذت عملية اقتحام الحرم آنذاك، تلك الأحداث التي تلخصها مقدمة كتاب “أيام مع جهيمان” وبعنوان جانبي “كنت مع الجماعة السلفية المحتسبة” لناصر الحزيمي ويقول فيها: في عام 1980 تقريباً ـ 1401 هجري ـ حين دخل جهيمان مع مجموعة من أتباعه، وكانوا يسمون أنفسهم الجماعة السلفية المحتسبة إلى الحرم المكي، وكان دخولهم بسبب إدعائهم بوجود المهدي المنتظر، وهو محمد القحطاني آنذاك، كما يشير الكتاب، وكان من أسباب هجومهم آنذاك إدعاء أنهم قادمون للإصلاح ورفض الحياة الجديدة والمتسارعة التي بدأت آنذاك تشق طريقها بقوة مع الطفرة الاقتصادية في السعودية، بل ورفض كل ماهو حديث مثل التلفزيون والراديو وغيره. ذاكرة أليمة كانت ذاكرة مؤلمة وبقيت في وجدان وروح من عايشها حتى اليوم، حيث كانت الصدمة تأتي من جهات عديدة، أولها وأهمها الاعتداء على الأبرياء في الحرم المكي، وسادت وقتذاك قراءات ودراسات ومقالات تأتي من خارج السعودية في محاولة لقراءة ما حدث. والحقيقة أن معظمها كان يخفق في قراءة خلفيات ما حدث بشكل دقيق وكانت بعيدة عن خصوصية هذا الصراع، بل وعن توجهات جهيمان غير المقبولة إنسانياً. لكن ما يميز هذا الكتاب هو إلمامه بتفاصيل كثيرة من شاهد عيان بل وفي صميم هذه الظاهرة منذ بدئها، فهو يعرض ملامح الصحوة في الخليج والسعودية وحيثيات الالتحاق بالجماعة وبالفكر السلفي المعاصر، وبدء شيوع التسجيلات الإسلامية، وأنواع النشاط الدعوي وكذلك الجانب الاجتماعي وقتذاك، كل ذلك تمهيداً ليبدأ في حكاية تفاصيل رحلته مع جهيمان وكيف تعرفا إلى بعض حسب ظروف حياتية شخصية، وكأننا أمام فيلم واقعي وثائقي، حسبما يشير عبدالعزيز الخضر مقدم الكتاب. لكن أهمية الكتاب أيضاً لاتتوقف عند هذه التفاصيل فقط، بل يمكننا أن نقرأ شيئاً ما بين الأسطر يشير إلى ما يعالجه الكتاب سواء ما كان يخص التصورات الخاطئة حول جهيمان نفسه وشخصيته التي كانت متقلبة ومضطربة وتعتد بالقبيلة أكثر من الديني في كثير من المواقف، وقضية الرؤى والأحلام وكيف أدت إلى تصديق كثيرين مسألة ظهور المهدي والتي هي جوهر القضية، كما قدمها جهيمان عبر خطاباته ومراسلاته بين وقت وآخر. جيل كامل عاصر هذه القضية وتأثر بها، بل واعتبرها البعض نقطة تحول في مسيرة شعب ودولة، نقطة أكثر حساسية من غيرها كيف لا وهي مسّت المكان المقدس من جهة، ومن جهة أخرى خلقت مساحة مرتبكة ومقلقة تجاه ما هو إسلامي وقتذاك، وربما لم يكن أحد ينتظر مثل هذه الواقعة الأليمة في ظل وجود تهيئة واسعة لخلق كيان حضاري ومدنية وطفرة وغيرها من أسباب جعلت الصدمة أكبر والمسافة أكثر استطالة. لن نستشعر هذه الملامح المؤثرة في حديث ناصر الحزيمي فهو كما يبدو كان يريد أن يكون الشاهد المجرد والمحايد والذي ينقل لنا تلك الحادثة وكله ألم فيقول في إحدى حواشي الكتاب: “وليعذرني الجميع فأنا أكتب من ذاكرتي بعد ربع قرن من حادث اقتحام الحرم، وبعد ثماني عشرة سنة من خروجي من السجن”. لكن الحزيمي يبدي أسفه على انضمامه لفكرة جهيمان وأتباعه، لذا يروي للتاريخ حكايته بكل شفافية وبساطة بلغة خالية من التعقيد، بل هي مشوقة وكأنها مشافهة وبوح الذاكرة بمكنونها. رحلة طويلة مع الفكر السلفي وهذه الجماعة في الرياض ومكة والمدينة المنورة والكويت ومصر وغيرها، ومع تيارات كثيرة وجماعات بعدة أسماء: السلفي والقطبي والبناوي والتبليغ والإخوان وهكذا.. وعدد كبير من الأسماء الصريحة لأشخاص كان لهم شأن في توهج خطاب هذه الجماعة آنذاك ـ وربما لم ترد منذ ذلك الزمن إلا في هذا الكتاب ـ تفاصيل دقيقة بلقاءات وردات فعل وخلافات بين أعضاء الجماعة على جوانب فقهية أو تعليمية أو فتاوى. تفكير ساذج ويروي الكتاب كيف قاد التعصب الديني أعضاء الجماعة إلى حملات تكفيرية وتحريم الكثير من المنتجات الحديثة التي طالت حتى الساعات وبعض الملابس وخصوصاً تلك المستوردة من أوروبا ومن الدول غير الإسلامية. حوادث جانبية أخرى يرويها مثل حادثة سميت آنذاك تكسير الصور، وصراعات أخرى مع جهات اسلامية كانت الجماعة ترفض وجودها أساساً لأسباب عقدية أو سياسية مثلًا، فنقرأ ناصر الحزيمي وهو يروي: “في عام 1978 بدأت الأزمة تشتد بين المشايخ والاخوان. “الجماعة السلفية المحتسبة” طبعاً بدأت هذه الأزمة منذ عام 1976 حينما أفتى علي المزروعي في الحرم المكي في رمضان بجواز الأكل بعد أذان الفجر لأن الأذان لايدل على دخول وقت الفجر المنهي عن الأكل فيه في شهر رمضان، وإنما يدل على دخول وقت صلاة الفجر...” إلى آخره من نماذج ومرويات يرويها الحزيمي للتعبير عن نوعية الحوار السائد آنذاك، والذي كان يؤدي إلى مزيد من الخلافات والاختلافات، مما سمح بتمهيد أرضية خصبة لأفكار جهيمان وجماعته، كواحدة من أهم الأسباب. كل هذا إلى أن يصل الكاتب إلى حيثيات الدخول إلى الحرم وهو يروي القصة هنا عن رجل آخر يدعى فيصل محمد فيصل، وكيف ازدادت فكرة المهدي شيوعاً في هذا الوسط، وبدأت المعاهدات والمبايعات تتم لمصلحة هذه الفكرة، بل وبدأت أساليب الإقناع لمجموعة كانوا متذبذبين، وحدد موعد دخول الحرم وموعد المبايعة تماماً من حيث التاريخ والساعة والمكان داخل الحرم. وشرح الكاتب الطريقة المتفق عليها آنذاك للدخول والحيلة التي تمت لدخول أكبر عدد من الجماعة في توابيت الموتى وبدء الخطبة التي ألقاها أحد رجال جهيمان، وإطلاق النار على من أثار أي اعتراض على وجودهم، فانتهكت الأرواح دون أدنى سبب . ومن ثم يروي الأحداث التي دارت في الحرم وكيف ألقي القبض عليه وأودع في السجن والتقى هناك بعدة أشخاص قبض عليهم أيضاً. واعتقد أن قراءة ملامح جهيمان الفكرية وجذوره ونشأته كانت من أهم أبواب الكتاب، فهي تقرأ هذه الخلفيات والتكونات الثقافية سواء كانت تلك الحادة أو الساذجة منها في أفكار جهيمان، من الحاكمية أو رؤيته للآخر أياً كان ليس من خلال الفهم والتصور الاسلامي، بل هو مبني على فهم ساذج، أو حتى بدوي للإسلام كما يعبر الحزيمي. ومن امثلة ذلك ينقل الحزيمي عن جهيمان قوله: “لابد لنا من التنبيه على فساد طلب العلم في هذه المدارس والمعاهد والكليات التي انخدع بها الكثير من الناس”، ويواصل حديثه: “ووجوه إبطالها كثيرة قد تحتمل رسالة مستقلة ولكنها يكفي أن تقوم أولًا على معصية الله بالصور المحرمة، ويجد فيها الدارس من جلساء السوء ولايتعلم فيها الكتاب والسنة إلا على طريقة التقليد المذموم، ثم لاتخلو من المنكرات وتجد الدارس فيها يسكت عن انكار المنكر ويداهن...” إلى آخره من مقولات تنم وتدل على أفكار جهيمان الساذجة، والتي لم تكن لتتوافق مع بدء حداثة التفكير واتساع التعليم وإنشاء الجامعات والمدارس في مجتمع مستعد آنذاك لتقبل الأفكار الجديدة، والتي يرى فيها مستقبله وتطوره واستجابته الطبيعية للمتغيرات. كان جهيمان شخصية تفهم الدين بسذاجة وسطحية، بل ويفهم حميته للدين على أنها تسمح له أن يتجاوز ويتعدى، بل ويقتل باسم الدين وتحت مظلته. ينهي المؤلف الكتاب الشائق بملاحق مهمة تحتوي على خطبة الحرم كاملة وحوارات أجريت معه بهذا الشأن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©