الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوسف غريب المعلم الأول

يوسف غريب المعلم الأول
31 يوليو 2013 22:44
هذا النورس، هذا الحارس لغابة الكلمة، هذا الكليم، الفهيم، الحاضر في تلافيف الفكرة، السارد لأنشودة الحياة المتطور نسلاً من سلالة النجباء، يغيب الآن، في حضور الذاكرة راسماً صورة المشهد الإماراتي على اللوح المحفوظ والجدل الإنساني حول من علم، وكلم، وساهم، وبنى، واعتلى عرش الفصاحة والحصافة واللغة المقروءة، على لسان السماء، وصفحات النجوم، ووجه اللجين المسكين الحصين الأمين. هو في البدء، قرأ واستقرأ الواقع ثم قال اقرأ.. قرأ الناس على يديه حروف الأبجدية. قرؤوا ملامح البلاغة والنبوغ، صاغ لهم، كيف تكون الحياة كتاباً مشروحاً عندما يقترب الناس من الكتاب، فسدوا ثغرة في السؤال الأبدي، فكان الجواب أن التلاميذ كانوا من رعيل، أسس المعنى وشيد نسيج الأخلاق بحرير الفطرة فأحاطوه بالتوقير بعد أن طوق الأعناق بشيم الوعي، ويقظة الخواطر. يوسف غريب.. مثل أرسطو في اليونان القديم، مثل معلم عانق الكون بنظرة صوفية مخضبة، بالمعرفة جزيلة في الولوج نحو فضاءات أرفع بكثير من جبال رأس الخيمة، أكثر اتساعاً من صحرائها، أبعد مدى من بحرها المترامي. عاشق اللغة يوسف غريب.. الكائن اللبيب، حبيب الكلمة عاشق اللغة بحيوية الموجة البيضاء على شطآن التفتح.. في ذلك الزمان، كان الرجل يحف التراب، بقدمين جورتين ويمشط التضاريس بنظرة المتأمل، خاطباً ود الله أن يمنحه المزيد من المعرفة ليزفها قلادة وضاءة على صدر الحياة، ويقرضها قصيدة فريدة، ثم ينشدها، ولاء وانتماء، واحتواء. يوسف غريب.. من موئله عند منطقة “الندود” حتى جمارك رأس الخيمة، كان يمضي كفارس على جواد العزيمة، والإرادة المبجلة، يمضي مزملاً بالصحائف والكتب، وتراتيل الأولين، وتلاوة ملأت صدره الرحب، يحيي بها عنصر الحياة ويهش بها وسوسة العزلة الموحشة. يوسف غريب.. في بيته المنصوب كوكر النسر، كان يجول بجسده الناهل العظيم، وملامح وجهه الأبوية، يسطر وجه الوجود، ببسملة، وحمد له، وينادي السماء كي تعشب الأرض وعياً بشرياً يزيح عن كاهل الأهل والأقارب صدأ جهل وعلل، وملل، وكلل.. يوسف غريب.. المسافر في تضاريس الأسئلة، المثابر في صحاري الإجابات المسترسلة كان وحده في المكان كجندي فرَّ من قسورة، كمحارب يتأبّط سلاح معرفته، ويمضي بشيم الصالحين، يجيد الفصيح من حرف الضاد وآخر من كلام الإنجليزية، غارفاً من بحور ودهور وجسور وثغور، سابقاً زمنه بأزمنة، ملتصقاً بالمكان، كأنه الجذر الرهيب.. يغيب الرجل الآن، ويحضر منزله، عند التلة الخفيضة محتفظاً بذاكرة أخصب من عناقيد النخل، متوجهاً بذكر من ذَكَر وذكَّر، وبادر، وسطَّر، وثابر، وجذَّر، وسهر، وصوَّر.. يوسف غريب.. يذهب الآن نحو أفق الغيب يغيب وتحضر ذكراه كأنها النجمة العالية يضيء ذاكرتنا بمآثر ومخابر، وخواطر ومشاعر، كأنه الرواية، المكنونة في مخبأ الحلم، كأنه القصّة الأزلية، في الحضارات القديمة، كأنه الأسطورة محفورة، في نسق القيم الأبدية. يوسف غريب.. وحده الآن يحضر متشظياً في قلب من أحبوه، وأجلوه وقدروه، واعترفوا له بالجميل، والبوح النبيل. يوسف غريب.. فارس الكلمة، حارس النعمة، هو القابس، النابس، الطارس، بحدس الأفزاز الجهابذة، فكر النوابغ الذين وضعوا النقطة على الحرف ثم أكملوا العبارة بطلاقة السرد، والكد، هو الآن وحده يستوقف العقل، ليشير إليه بالبنان والبيان والتبيان، أن الحياة ليس سوى عجلة، لكي تحتفظ في توازنها لا بد من الحركة وهكذا لأنه حرَّك الفكرة نحو بناء المسافات الطويلة نحو الدرجات العلا، نحو أغصان أورفت بالحب، وتفرعت بالوعي، وتسامقت بالحلم. يوسف غريب.. القلم الذي توقف، وما جف مداده، كونه يبل الريش من حبر القدرات الغامضة. يوسف غريب.. الأديب الأريب، المهيب الرهيب، يخرج الآن من غرفة الحياة، ليذهب إلى فناء الغيب، ولا يغيب لأنه الرجل الذي أوحي بأن يكون حياف الذاكرة. النون والقلم يوسف غريب.. علّم الآباء والأجداد، النون والقلم وما يسطرون ويتلو الآن الأحفاد المعنى في العصامية، والمغزى في الإيثار، والوقار، وحسن الجوار. يوسف غريب.. الشادي على غصن المعرفة كان حفيد الفلاسفة والمتكلمين، والعابدين حدود الوعي إلى لذّة الاستيعاب والاستقطاب، والاحتطاب في ميادين الكتاب المقدس، والليل وما عسعس، والنهار وما قبس، كان الجائل على خشبة الحياة، باحثاً عن ثيمة تمنح الفكرة عبرة، وتهدي للعِبرة نبرة تنقح البوح من شوائب وخرائب وعواقب ونواكب وسواكب، ومثالب. يوسف غيب.. الشهاب المنظم لضوء الحياة، السحاب المنعم على وجوه الناس، وما فاهت به قرائحهم، ومشاعرهم، هو ذاك الهيثم، والضرغام، في ازدحام الناس، في حضرة الحاجة إلى كلمة، إلى نجمة تتلألأ عند شغاف الأرض، وتسدي للكون نصيحة البقاء بنقاء وصفاء وبهاء. يوسف غريب.. مثل عراف قرأ فنجان الغموض، فشرح، وأوضح، وأفصح، ونافح، وصدح، وطرح، وجمع ما بين السيرة والسيرورة، فأبدع، ونصع، وصنع من الكلمة، وجداً، ومجداً، وجداً، وحداً، وصداً، ورداً، وقاد تلاميذه إلى فصول الجزالة، والبذل والعطاء، حتى رست مراكبه عند سواحل الاسترخاء الأخير. يوسف غريب.. في زمن شح فيه مطر العطاء كان غيثاً، وليثاً، ونثاً، وحثاً، كان الساعة المتدفقة بحركة الزمن، ونبضات الحيوية، كان الطريق المؤدية إلى نوافذ الأفق الوسيع، كان الشجرة المسقوفة بأوراق النمو والازدهار. يوسف غريب.. في ذلك الزمن، في ذلك السطر الأخير من رواية وطن عانى من الشح، وفقر الكلمة، كان الرجل المداد والمدى، كان المد والامتداد، كان الطور والدور، والسور، والنور، كان الفكرة القابضة على جمرة الحلم، كان الحلم، المتكئ على أريكة الأمل، كان الأمل الممدود في التاريخ، ذاكرة لا تنضب. يوسف غريب.. بعد رحيله تبقى الهالة والجزالة، تبقى الفكرة المؤجلة حتى أجل غير مسمى، لأنه لم يكن طارئاً بل أجل يستمد وجوده من أحلام الناس، وحب الناس، وتقدير الناس، وذاكرة الناس، التي لم تزل تحفظ ماذا كان يجري في حلقات العلم، وماذا كان يوصي الرجل لرواده، بأن يكونوا أوصياء على الكلمة، أوفياء للكتاب، نبلاء في توارث “كفهيص”. يوسف غريب.. الجالس الآن على رخام الذاكرة، المقتعد ناصية العقل، لم يزل يسرد الحكاية من البداية حتى النهاية، لأن قصة الوجود لا تنتهي بمطاردة الروح الجسد، كون الروح الأبد المتوهج في سويداء القلوب الذاهبة باتجاه خلود لا يأفل ولا يندمل، ولا يسدل ستارته حتى وإن أغمضت العيون جفونها، وناخ بعير الجسد. يوسف غريب.. كدرب لم ينقطع مداه، كخطوات ممتدة في المدى كشراع لم تردعه عاصفة الموت، كيراع يضيف صفاء صفاء كلما قدِم به الزمان، كجوهر لا يغشيه الصدأ، كعمر لا يحده زمن، كخارطة أوسع من تضاريس الأرض. يوسف غريب.. ذلك النهل والسهل، والبحر، والمطر، هو القدرة الفائقة والنبرة الرائقة، والشجرة العاشقة، هو اليقظة الليطفة في تجاويف المكان، هو الندرة في زمن كان يبحث عن نفسه في صفحات التاريخ. يوسف غريب.. مالئ السمع والبصر، ساكن المدار والأطوار، قابض على سمعة الماضي، بأنامل بللت ريق المتشظين بالماء والبرود. يوسف غريب.. يبتعد الآن مكتسياً بوقار الشيمة والقيمة، مزملاً برداء الاستراحة بعد أن حطت نوقه عند مضارب المثوى الأخير، وها نحن نكتب عن المعلم الأول، عن مملكة رجل ناخت ركابه بعد كد وكدح، وتعب وسغب، ونحت في جدران الذاكرة، ونقش على صفحات الزمن. يوسف غريب.. لم يغب بقدر ما هو، حاضر يرتب وجداننا ويعيد تهذيب أشجاننا ويخصب الفكرة، بإعادة تهجي حروف من أعطوا بإسهاب، ومن أسخوا بلا كلل. يوسف غريب.. يحضر بقوة الكلمة التي رسخها معنى في الأذهان، يحضر بقوة العبارة التي سجلها على صفحات وعينا. يوسف غريب.. قفز من قارب الحياة، ليسبح في بحار ذاكرتنا، ويؤجج حلمنا، بأن تستدعي الأجيال صدرة هذا الرجل، وتضعها ناقوساً يدق في عالم النسيان. يوسف غريب.. رجل لا ينسى لأنه قلم لم ينشف حبره، وكتاب لم يطوي سجله.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©