الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حفل الختان

حفل الختان
26 فبراير 2009 00:08
احتفلنا بختان الولدين وعدت للخرطوم· تركت زوجتي وابنتي في البلد، وسافرت في الطريق الصحراوي في سيارة من سيارات المشروع التي ذكرها محجوب· كنت أسافر عادة بالباخرة الى ميناء كريمة النهري، ومن هناك آخذ القطار ماراً بأبي حمد واتبرا إلى الخرطوم· لكنني هذه المرة كنت في عجلة من امري دون سبب واضح، ففضلت اختصار الطريق· وقامت السيارة في أول الصباح، وسارت شرقاً حذاء النيل نحو ساعتين، ثم اتجهت جنوباً في زاوية مستقيمة وضربت في الصحراء· لا يوجد مأوى من الشمس التي تصعد في السماء بخطوات بطيئة وتصب أشعتها على الأرض كأن بينها وبين أهل الأرض ثأراً قديماً· لا مأوى سوى الظل الساخن في جوف السيارة، وهو ليس ظلاً· طريق ممل يصعد ويهبط، لا شيء يغري العين· شجيرات مبعثرة في الصحراء، كلها أشواك، ليست لها أوراق، أشجار بائسة ليست حية ولا ميتة· تسير السيارة ساعات دون أن يعترض طريقها إنسان أو حيوان· ثم نمر بقطيع من الجمال هي الأخرى عجفاء ضامرة· لا توجد سحابة واحدة تبشر بالأمل في هذه السماء الحارة، كأنها غطاء الجحيم· اليوم هنا شيء لا قيمة له، مجرد عذاب يتعذبه الكائن الحي في انتظار الليل· الليل هو الخلاص· وفي حالة تقرب من الحمى طافت برأسي نتف من أفكار، كلمات من جمل، وصور لوجوه وأصوات تجيء كلها يابسة كالأعاصير الصغيرة التي تهب في الحقول البور· فيم العجلة؟ سألتني ''فيم العجلة؟''قالت: ولماذا تمكث أسبوعاً آخر؟''· قالت·· الحمارة السوداء، إعرابي غش عمك وباعه الحمارة السوداء· وقال أبي: ''هل هذا شيء يثير الغضب؟'' عقل الإنسان ليس محفوظاً في ثلاجة· إنها هذه الشمس التي لا تطاق· تذوب المخ تشل التفكير· مصطفى سعيد، وجهه ينبع واضحاً في خيالي كما رأيته أول يوم، ثم يضيع في أزيز محركات السيارة، وصوت احتكاك بحصى الصحراء، وأحاول جاهداً استعادته فلا استطيع· يوم الاحتفال بختان الولدين خلعت حسنه الثوب عن رأسها ورقصت كما تفعل الأم يوم ختان ولديها· يا لها من امرأة· لماذا لا تتزوجها أنت؟ كيف كانت ايزابيلا سيمور تناجيه؟ ''اغتلني أيها الغول الأفريقي· احرقني في نار معبدك· دعني اتلوى في طقوس صلواتك''· وها هنا منبع النار· ها هو المعبد· لا شيء· الشمس والصحراء ونباتات يابسة وحيوانات عجفاء ويهتز كيان السيارة حين تنحدر في وادٍ صغير· وتمر بعظام جمل نفق من العطش في هذا التيه· ويعود إلى خيالي وجه مصطفى سعيد في وجه ابنه الأكبر· إنه أكثر الولدين شبهاً به· يوم حفلة الختان أنا ومحجوب شربنا أكثر مما يجب· الناس في بلدنا لرتابة الحياة عندهم يجعلون من أي حدث سعيد مهما صغر عذراً لإقامة حفل كحفل العرس· جررته من يده في الليل، والمغنون يغنون والرجال يصفقون في قلب الدار· وقفنا أمام باب الغرفة تلك· قلت له: ؟أنا وحدي عندي المفتاح· باب من الحديد''· قال لي محجوب بصوته المخمور: ؟هل تدري ما بداخلها؟'' قلت له: ؟نعم'' قال: ؟ماذا؟'' فقلت وأنا أضحك تحت وطأة الخمر: ؟لا شيء· لا شيء إطلاقاً''· هذه الغرفة عبارة عن نكتة كبيرة كالحياة، تحسب فيها سراً وليس فيها شيء· لا شيء إطلاقاً''· وقال محجوب: أنت سكران، هذه الغرفة ملأى من أرضها إلى سقفها بالكنوز· ذهب، وجواهر، ودرر ولآلئ· هل تعلم من هو مصطفى سعيد؟ قلت له إن مصطفى سعيد كان أكذوبة، وضحكت مرة أخرى، وقلت له: ؟هل تريد أن تعرف حقيقة مصطفى سعيد؟''· فقال محجوب: ؟ أنت لست سكراناً بل مجنوناً أيضاً· مصطفى سعيد هو في الحقيقة نبي الله الخضر· يظهر فجأة ويغيب فجأة· والكنوز التي في هذه الغرفة هي كنوز الملك سليمان حملها الجان إلى هنا· وأنت عندك مفتاح الكنز· افتح يا سمسم ودعنا نفرق الذهب والجواهر على الناس''· وكاد محجوب يصرخ ويجمع الناس لولا أنني أغلقت فمه بيدي· وفي الصباح استيقظ كل واحد منا في بيته لا ندري كيف وصلنا· الطريق لا ينتهي عند حد، والشمس لا تكل· لا غرو أن مصطفى سعيد هرب إلى زمهرير الشمال· برز لنا من وراء التل إعرابي جاء يهرول نحونا، وقطع الطريق على السيارة فتوقفنا· بدنه وثيابه بلون الأرض· وسأله السائق ماذا يريد؟ قال: ''أعوني سيجارة أو تنباك لوجه الله· لي يومان لم أذق طعم التنباك''· لم يكن عندنا تنباك فأعطيته سيجارة· وقلنا بالمرة نقف قليلاً ونستريح من عناء الجلوس· لم أر في حياتي إنساناً يشرب السجائر بتلك اللهفة· جلس الإعرابي على مؤخرته وأخذ يشفط الدخان بنهم فوق الوصف· بعد دقيقتين مد لي يده فأعطيته سيجارة أخرى· التهمها كما فعل مع الأولى· ثم أخذ يتلوى على الأرض كأنه مصاب بالصرع· ويعدها تمدد على الأرض وطوق رأسه بيديه وهمد تماماً كأنه ميت· وظل هكذا طول مكوثنا، زهاء ثلث ساعة· ولما دارت محركات السيارة، هب واقفاً ، إنساناً بعث إلى الحياة، وأخذ يحمدني ويدعو الله لي بطول العمر، فرميت له علبة السجائر بما بقي فيها· وثار الغبار خلفنا، وراقبت الإعرابي يجري نحو خيام مهلهلة عند شجيرات ناحية الجنوب، عندها غنيمات وأطفال عراة· أين الظل يا إلهي؟ مثل هذه الارض لا تنبت إلا الأنبياء· هذا القحط لا تداويه إلا السماء· والطريق لا ينتهي والشمس لا ترحم، والسيارة الآن تولول ولولة على أرض من الحصى مبسوطة كالمائدة· ؟إنا قوم منقطع بنا فحدثونا أحاديث نتجمل بها''· من قال هذا؟ ثم : ؟كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً ابقى''· والسائق لا يتكلم· امتداد للمكنة التي يديرها، يلعنها أحياناً ويشتمها، والأرض حولنا دائرة غرقى في السراب· ؟وظل يرفعنا آل ويخفضنا آل وتلفظنا بيد إلى بيد''· محمد سعيد العباسي، يا له من شاعر· وأبو نواس ''شربنا شرب قوم ظمئوا من عهد عاد''· هذه أرض اليأس والشعر ولا أحد يغني· ولقينا سيارة حكومية معطلة حولها خمسة عساكر وشاويش متدرعين بالبنادق· وقفنا· شربوا من مائنا وأكلوا من زادنا وأعطيناهم البنزين· قالوا إن امرأة من قبيلة المريصاب قتلت زوجها والحكومة ذاهبة لتقبض عليها· ما اسمها؟ ما اسمه؟ لماذا قتلته؟ لا يعلمون ؟ فقط إنها من قبيلة المريصاب وأنها قتلته وأنه زوجها ؟ ولكنهم سيعرفونه· قبائل المريصاب والهواوير والكبابيش· القضاة المقيم منهم والمتنقل· مفتش شمالي كردفان، مفتش جنوبي الشمالية، مفتش شرقي الخرطوم· الرعاة على مساقط الماء· المشايخ والنظار· البدو في خيام الشعر، في مفارق الوديان· كلهم سيعرفون اسمها، فليس كل يوم تقتل امرأة رجلا، له زوجها، في هذه الأرض التي لم تترك فيها الشمس قتلاً لقاتل·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©