الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أهلاً بكم في الجحيم.. فرع الحمقى!

أهلاً بكم في الجحيم.. فرع الحمقى!
5 سبتمبر 2014 20:00
السبت 26/04/1986، الكسندر فويسكونفيلانسكي، استمع للتو لنشرة الأخبار التي حملت خبر وقوع كارثة نووية في محطة «تشيرنوبل» بسبب خلل بإحدى المولدات التوربينية. وقبل أن يغلق الكسندر التلفزيون ويأوي إلى فراشه، جاءه اتصال من محرر جريدة «البرافدا»، يطلب منه كتابة مقالة عن الكارثة، بدلاً من المقالة التي أرسلها صباحاً والتي يتحدث فيها عن جمال الربيع في الأرياف. وبعد شد وجذب، صرخ المحرر قائلاً: هل أنت فعلاً بليد إلى هذا الحد؟! تريد منا نشر مقالة عن سخافة الربيع بينما البلاد تمر بأسوأ كارثة نووية عرفها العالم؟! اسمع! أمامك ساعة واحدة فقط. . لا أحد في «البرافدا» يعرف أي شيء عن المفاعلات. . ونعرف أنك لا تعرف حتى معنى المولدات التوربينية. . لكن يجب أن نقول شيئاً للناس. . دا سبيدانييا سيد فويسكونفيلانسكي! وقف الكسندر للحظات مشدوهاً أمام التلفزيون، ثم خرج مسرعاً من شقته البائسة في ضواحي موسكو. وفي المكتبة العامة القريبة، أخذ يقرأ في الكتب التي تتحدث عن الطاقة، وعن المفاعلات، وعن البيئة، وعن الكوارث، وعن التقدم العلمي لبلاده، وأخذ يسجل في ورقة صغيرة بعض الملاحظات. وحين عاد إلى شقته، بدأ النقر على الآلة الطابعة بسرعة، بينما ذهنه موزّع بين ما يكتبه وما يسمعه في الأخبار عن آخر مستجدات الكارثة. وقبل مهلة التسليم بدقائق، سحب الكسندر الورقة من الآلة ووضعها في الفاكس، وكانت عبارة «أهلاً بكم في الجحيم. . فرع تشيرنوبل!» التي اختارها عنواناً لمقالته، آخر ما رآه قبل أن تنزلق الورقة في فتحة الجهاز. وفي الصباح، التقط الكسندر الجريدة الملقاة أمام باب شقته، وفوجئ بأن مقالته منشورة على الصفحة الأولى، رغم أن مقالاته تنشر أصلاً في الصفحات الداخلية. وقبل أن يتحرك نحو السلالم، سمع رنين الهاتف يأتي من شقته، فعاد إليها، وإذ برئيس التحرير على الطرف الآخر يهنئه على مقالته ويخبره بأن وكالات الأنباء العالمية طلبت منه الإذن في نشر المقالة لديها، وفوجئ الكسندر برئيس التحرير يعرض عليه العمل في الجريدة، لكن الكسندر ردّ بأنه يفضّل أن يبقى متعاوناً مع الجريدة يكتب فيها مقالة يومية، حسب الاتفاق السابق بينه وبين الجريدة. وفي الحافلة، لاحظ الكسندر تجمع الركاب على شكل مجموعات، وفي وسط كل مجموعة يجلس شخص يحمل الجريدة ويقرأ لهم مقالته بصوت عال، بينما الجميع ينصتون بحزن على ما جرى في «تشيرنوبل»، ويهزون رأسهم بين الحين والآخر موافقين على ما جاء في المقالة. وبينما كان الكسندر يحمل جردل ماء بيد، وفرشاة كبيرة باليد الأخرى، وأمامه حمار يقاوم عملية تنظيفه، سمع شخصاً من ورائه يهتف قائلاً: فويسكونفيلانسكي! الجميع في أوكرانيا يتحدثون عنك. فنظر الكسندر إلى الخلف، ورأى مدير حديقة الحيوان يأتي إليه مسرعاً وهو يحمل مذياعاً بيده، ويطلب منه إلقاء الجردل ومرافقته إلى مكتبه. وفي مكتب مدير الحديقة، الذي لم يسبق لالكسندر أن دخله إلا مرة واحدة قبل 15 سنة حين التقى به المدير وطلب منه أن يقوم بمهام عمله الجديد على أتم وجه، أخذ المدير ينظر تارة إلى الكسندر بنظرات رجل يكتشف للمرة الأولى أن الذي أمامه من جنس البشر وليس من فصيلة الخيليات، وتارة أخرى ينظر إلى جهاز الراديو الموضوع على طاولته، والذي كان يبث على الهواء مباشرة من منطقة «تشيرنوبل»، وكلما التقى مراسل الإذاعة بأحد سكّان المنطقة، وقال إن مقالة الكسندر تلخّص ما حدث قبل وقوع الكارثة، وتلخّص ما يجب أن يحدث بعد وقوع الكارثة، أشار المدير بإصبعه نحو الراديو، بما يعني أن الجميع يتحدثون عن مقالتك يا سيد فويسكونفيلانسكي! وبعد أن أنهى الكسندر احتساء الشاي الذي قدمه له المدير بنفسه، سحب الأخير ورقة وأخذ يدون عليها بعض العبارات، ثم وضع عليها ختمه وتوقيعه، وقام مصافحاً الكسندر وطلب منه أخذ الورقة إلى مصلحة الحدائق في مجمع الوزارات في موسكو، فقد منحه المدير تفرغاً للكتابة مدى الحياة مدفوع الأجر، ثم قال له وهو يودّعه أمام بوابة الحديقة: لن تمسح أرضية الحظائر بعد الآن. ولم أكن لأسمح بذلك أصلاً لو كنت أعلم أنك تكتب في «البرافدا». . لكن أرجوك يا سيد فويسكونفيلانسكي، لا تنسى الجرذان من أمثالنا. . تستطيع بقلمك أن تنتشل هذا الجرذ البائس الواقف أمامك من هذه الخربة، وتجلسه على كرسي مصلحة الحدائق في موسكو. . دا سبيدانييا عزيزي فويسكونفيلانسكي! في مساء اليوم نفسه، وجد الكسندر نفسه في موكب من السيارات تنطلق في شوارع موسكو، ثم تتوقف فجأة أمام إحدى المباني الضخمة، ويقوده مجموعة من الرجال الذين يلبسون زياً موحداً إلى قاعة كبيرة، وهناك، وجد أعضاء الحزب الشيوعي السوفييتي الحاكم يجلسون إلى طاولة دائرية كبيرة وأمام كل واحد منهم نسخة من «البرافدا»، بالإضافة إلى مجموعة من أبرز علماء الفضاء الروس، وفوجئ برئيس الحزب ميخائيل غورباتشوف يلوّح له بيده ويطلب منه التفضّل بالجلوس وشرح ما جاء في مقالته بشكل تفصيلي. وبعد أن زالت الرهبة من الكسندر، أخذ يشرح ما كتبه، ولاحظ أن الجميع يهزون رؤوسهم موافقين، وقال العلماء الروس إن المقالة سردت أدق تفاصيل المفاعل النووي، ووصفت بشكل علمي الخلل الذي حدث في المولدات التوربينية، وأنهم يتفقون مع ما جاء فيها عن التدابير التي يفترض أن تقوم بها الحكومة لمنع تسرب الإشعاع النووي، والإجراءات التي يفترض القيام بها لإنقاذ المصابين، وإجلاء المنكوبين، وتعويض المتضررين. كما وعد العلماء الروس بإجراء دراسات مستفيضة وتجارب معمّقة لإيجاد طريقة تمنع حدوث مثل ذلك الخلل في المولدات التوربينية، وطلبوا من القيادة الروسية التنسيق مع الحكومة الأميركية لتسهيل سفرهم إلى الولايات المتحدة لإجراء بحوث مشتركة حول خلل المولدات التوربينية في المحطات النووية. أصبح الكسندر فويسكونفيلانسكي أشهر كاتب في الاتحاد السوفييتي، وأدرجت مقالته في المناهج الدراسية، وطلب الحزب الحاكم من جميع الجهات الحكومية المعنية أخذ التدابير والإجراءات التي ذكرها الكسندر في مقالته بعين الاعتبار، وعلقت مقالته في أروقة جميع المفاعلات النووية في العالم بأسره، وكانت المفاجأة أن جائزة «نوبل» في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والآداب والسلام لسنة 1986، كلها ذهبت لالكسندر فويسكونفيلانسكي، وكانت المرة الأولى التي تمنح فيها «نوبل» جوائزها بناء على مقالة واحدة فقط. وذهب عنوان مقالة الكسندر مثلاً بين المتكلمين باللغة الروسية، فإذا أراد الروسي أن يقول إن شخصاً ما محظوظ، قال: «أهلاً بكم في الجحيم. . فرع تشيرنوبل!»، وإذا أراد أن يصف شخصاً بأنه عبقري قال: «أهلاً بكم في الجحيم. . فرع تشيرنوبل!»، لدرجة أن رجلاً روسياً أطلق كلمات العبارة على أولاده السبعة كأسماء لهم، فكان اسم ولده البكر «أهلاً»، وآخر العنقود «تشيرنوبل». توفي الكسندر فويسكونفيلانسكي في الصيف الماضي، واختير أحد رفاقه ليكتب على شاهد قبره، فكتب الآتي: هنا يرقد صاحب المقال الذي كتب عن الذي حدث قبل وقوع الانفجار في «تشيرنوبل»، وعن الذي يجب أن يحدث، لكن كان عليه أن يخرس ويواصل تنظيف الحظائر ما دام لا يعرف الحل لمنع حدوث الخلل في المولدات التوربينية! ما قيمة الكاتب الذي يكتب عن المشكلة، ولا يكتب عن الحل؟!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©