تكمن إحدى مفارقات الاقتصاد الأميركي في أن مسببات الأزمة المالية هي نفسها الحلول، حيث أن الإفراط في الثقة والإقراض والاقتراض، وكذلك الإنفاق، لا يمكن معالجتها إلا من خلال المزيد من الثقة والإقراض والاقتراض وزيادة الإنفاق. وتنبع معظم الإخفاقات السياسية في أميركا من عدم إدراك هذه الحقيقة البدهية، وبالتالي اتخاذ الخطوات الكفيلة قبل وقوع الأزمة والتي أصبحت غير فعالة الآن في وقت تعثر فيه الاقتصاد بشدة نظراً لقلة الثقة وتراجع الطلب. وهكذا وحتى في ظل اتساع الفجوة بين إنتاجية الاقتصاد وإمكاناته، وضح أن السياسة المالية هي سياسة تقليص، كما تركز النظم المالية على عدم تشجيع الدخول في المخاطر، وكذلك تعمل مخاوف الفائض في السيولة على تقييد السياسة المالية. وأصبحت معظم سياسات القطاع السكني في أميركا خاصة المتعلقة بمؤسستي “فاني مي” و”فريدي ماك”، من السياسات غير المفيدة. وانخفض معدل بناء المنازل، التي تسع عائلة واحدة، من 1,7 مليون وحدة في منتصف العقد الماضي، إلى 450,000 فقط الآن. وفي شريحة المنازل التي يزيد متوسط سعرها عن المليون دولار، يعوق تراجع معدل البناء الحالي، الفائض الذي يحدث أثناء الفقاعة، كما أنه يمثل أكبر عنصر في تراجع الناتج المحلي الإجمالي. وتسببت خسارة السكن المشغول من قبل مالكيه في تقليص ثروة المستهلك بنحو 7,000 مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية. كما أعاق عدم اليقين المتعلق بالقيمة المستقبلية لهذه المنازل وعدم المقدرة على تمويلها بأسعار معقولة، إنفاق المستهلك على السلع المعمرة. ويشكل استمرار ضعف القطاع السكني مخاطر رئيسية للمؤسسات المالية الأميركية، فضلاً عن رفع تكاليف القروض التي تقدمها. وباسترجاع الماضي، كان من الأفضل للمؤسسات المالية ولمن يديرها، خاصة “الهيئة الاتحادية للتمويل السكني”، إدراك أن من الممكن لأسعار السكن الانخفاض كما الارتفاع، إذا تم تطبيق معايير أكثر صرامة في تقديم الائتمان، وتوخت المشاريع التي تضمنها الحكومة المزيد من الحذر في رقابة الجهات التي تنشئ القروض وتوفر خدماتها. والأهم الآن، ما ينبغي القيام به للتصدي لما يجري في سوق القطاع السكني وما يشكله من مخاطر تقف في طريق تعافي الاقتصاد الأميركي. وبحقيقة أن كل الرهون العقارية مقدمة من قبل الحكومة الاتحادية، فمن البدهي أن يكون ذلك نتاج لسياسة الحكومة. وللأسف، كانت السياسات السابقة مشغولة بكيفية التعامل مع نتائج الأخطاء التي صاحبت تمديد الرهن العقاري عبر تناول كل حالة على حدة، ومن ثم خوّلت “الهيئة الاتحادية للتمويل السكني” لاتخاذ القرار على الرغم من أنها لا تأبه للمصلحة العامة. كما أنها لم تؤكد أن المشاريع المضمونة من قبل الحكومة تساعد على استقرار القطاع السكني الأميركي، أنها لم تضع في اعتبارها أن المصلحة المالية الضيقة لهذه المشاريع تعتمد على تعافي القطاع السكني بشكل عام. وبدلاً من أن تركز الهيئة على استقرار السوق، أخذت تعيد في سياساتها القديمة متجاهلة التغييرات التي حدثت في البيئة المحيطة وفي معاملة تمويل الرهن العقاري من منطلق أخلاقي يشمل ملاك المنازل والمؤسسات المالية والبنوك. ويتضمن تناول القضية بشكل أفضل العديد من التغييرات في السياسة الحالية. أولاً وربما الأهم، تُعد معايير الائتمان الحالية للراغبين في شراء منازل، عالية وصارمة جداً، الشيء الذي يقود إلى تراجع في طلب المنازل وانخفاض الأسعار وزيادة حجوزات الرهن العقاري، مما يسفر عنه المزيد من التشديد لمعايير الائتمان وانهيار دورة النمو. ثانياً، في الوقت الذي أكد فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما تقديم برنامج للوظائف، ليس هنالك سبب يمنع مالكي الرهون العقارية المضمونة من قبل الحكومة، الاستفادة من انخفاض الأسعار. ويعتبر انخفاض الأسعار من وجهة نظر الحكومة مفيداً طالما أنه يقلل مخاطر العجز عن السداد. ثالثاً، يتطلب استقرار السوق القيام بفعل شيء ما لحجوزات الرهن العقاري المتزايدة. وتبلغ خسارة المنزل الذي يتم بيعه في مزاد الرهن العقاري 30%، مقارنة بأخر يباع في السوق العادية. كما أن هناك تراكماً هائلاً من حجوزات الرهن العقاري التي تقف عائقاً أمام بيع المنازل. رابعاً، منع حجوزات الرهن العقاري التي كانت تمثل التركيز المبدئي للجهود السياسية. كما كانت هناك تجاوزات كبيرة من قبل المؤسسات المالية وكل العاملين في حقل الرهن العقاري تقريباً خلال فترة الفقاعة العقارية. وبينما تعتبر المشاريع المضمونة من قبل الحكومة من أهم عوامل سوق الرهن العقاري وتشكل “الهيئة الاتحادية للتمويل السكني” أهم عوامل سياسة القطاع السكني، يمكن أن تلعب عوامل أخرى أدواراً مهمة أيضاً. يعمل منظمو البنوك على تسهيل إعادة هيكلة الرهون العقارية التي تزيد قيمة رهنها عن قيمتها الحقيقية، مطالبين البنوك بمعاملة هذه الرهون وقروض الأسهم بصورة أكثر واقعية. ويمكن أن يقدم “الاحتياطي الفيدرالي” الدعم اللازم للطلب ولسوق القطاع السكني من خلال زيادة عمليات شراء سندات الرهن العقاري المدعومة. وبقيام المنظمين المستقلين بخطوة بناءة، من الممكن تحقيق سياسات أفضل بكثير في غضون ستة أشهر من الآن. كما أن توقع التغيير نحو سياسة داعمة، يمكن أن يغير اللهجة التي يتحدث بها السوق في أقرب وقت ممكن، حيث لا يلوح في الأفق السياسي شيء آخر قادر على إحداث فرق كبير لدفع عجلة تعافي الاقتصاد الأميركي إلى الأمام. نقلاً عن: «فاينانشيال تايمز» ترجمة: حسونة الطيب