لا بديلَ عن الحوار إلا الحَوْر، فالحوار هو تبادل المعارف والعلوم، والتناقش في المضامين والفهوم، وتلاقح العقول للوصول للمأمول، ومن خلال الحوار تنضج الأفكار، ويأتي العمار، ويزول الدمار، ويصل الناس للحقائق الساطعة، والمواقف النافعة. ولا بديل عن الحوار إلا (الحَوْر) والحَوْرُ الرجوع والتراجع، قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] أي: ظلمَ نفسه وظنَّ أنه لن يرجع إلى ربه، فالحَوْرُ رجوع ونقص، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من (الحور بعد الكور) صحيح مسلم، أي: يستعيذ بالله من الرجوع بعد التقدم، ومن النقص بعد الزيادة. وتأتي كلمة (الحَوْر) بمعنى الدوران، ولذا يُقال للخشبة التي يُبسط بها العجين (المحور). وهذا ما يحصل بالفعل عندما نتخلى عن لغة الحوار والنقاش الرشيد النافع، فإننا سنتراجع وندور في حلقة مفرغة، وبدلاً من تلاقي الأفكار تتخاصم الأيدي، وتتصارع الأجساد، وبدلاً من حِوار الكلمات، سيأتي ألم اللكمات. وهكذا هي الحياة لا تقبل الفراغ، فمتى غاب العلم حلَّ الجهل، ومتى زالت الألفة حدث الجفاء، ومتى فقد الإنسان التواضع تدنَّسَ بالكبر، وهكذا. فلا بد من تفعيل ثقافة الحوار في الأسرة والمجتمع والوظيفة، والحوار لا يكون غالباً إلا عند اختلاف الآراء، وهو دعوة قرآنية، قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وهو عملُ الأنبياء قال تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود:32]. وحتى يكون الحوار مثمراً فلا بدَّ من مراعاة آدابه وأخلاقه، فيتجرد المحاور للحق، ويتجنب العصبية، فإن العصبية تُعْمِي عن الحق، وينظر إلى محاوره على أنَّهُ مُعينٌ له على الوصول للحقيقة، وليس خصماً، كما ينبغي أنْ يكون الهدف من الحوار الوصول إلى الهداية، وإيصال الهداية للآخرين، وهذا ما يُحَتِّم على المحاور أن يتحلى باللطف والرفق، ومتى سلك المحاور أسلوب الاحتقار والتجهيل، فقد أغلق نافذة قلب مَنْ يحاوره عن قبول الحق، وأصبح المحاور ظالماً وإن كان يدافع عن قضية عادلة، كما يجب على مَنْ يتصدى للحوار أن يكون بصيراً عارفاً بما يحاور فيه، يدرك دقائقه، ويفهم حقائقه، وأن يكون كلامه مَكْسُوَّاً بحُسْن الخطاب، وخفض الصوت فالحق لا يُعرف بالصوت العالي، كما ينبغي للمحاور أنْ لا يستأثر بالحديث، ولْيَكُنْ الحديث بينه وبين مَن يحاوره مناوبة لا مناهبة. إننا بحاجة ماسة للبرامج الحوارية التي تعالج قضايا الدين والفكر والحياة، لا على مستوى الإعلام فقط، بل في المحافل والمنتديات والمجالس، وكم من أفكار هدامة فسَدَتْ بها العقول، وسُفِكَتْ بها الدماء، وهُدِمَت بها العلاقات بين الأقارب، حتى رأينا القريب يقتل قريبه لا من أجل دنيا، بل بسبب فِكْرٍ مشوَّهٍ تلوَّثَ به. إنَّ الهروب من مواجهة المرض يزيده انتشاراً، فلا مناص من الجرأة والشفافية في تناول الشبهات الداعية إلى الإلحاد أو العنف أو الانحلال الأخلاقي، أو تلك التي تدعو إلى هجر القيم الجميلة والعادات النبيلة تحت شعارات خادعة. إنَّ هذه الأفكار الهدامة لم يقتنع بها الشباب لقوتها أو موافقتها للحق، وإنَّمَا لغياب صوت العلم والمنطق والحجة، وتفريط ممن يحمل أمانة الكلمة. وإن العلاج هو تفعيل الحوار بقصد التحصين والمناعة لمن كان سالماً من المرض، أو بقصد العلاج والدواء للمريض، وأخيرا لا بديل عن الحوار. د. سيف علي العصري المفتي في المركز الرسمي للإفتاء