غالية خوجة (دبي)

بدءاً من حضارة «أمّ النار»، وعبْر هذه الآلاف من السنين، وصولاً لمئوية الإمارات، وآلاف السنين المقبلة، تبدو الإمارات سيمفونية سماوية للوحة تشكيلية طبيعية، نثرت حركاتها على الجبال، بين الرمال، في جوف الأرض، وخبّأت بحرها في أعماق المحارات والأصداف، وتكونت إيقاعاتها خيلاً ونخيلاً وأمواجاً وغافاً وغيوماً، وصارت مع أهلها رمزاً للخير والطيبة والعطاء والتسامح والتعايش لا يحدها إلاّ الأخلاق و«الناموس»، والقانون، والآداب ـ «السنع»، واللا مستحيل طالما كان ضوءاً إيجابياً يضيف للجمال جمالاً.
وهذا ما أبصرته حدوس الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وهذا ما تكمله القيادة الحكيمة الرشيدة، وهذا ما تتشكل منه سيمفونية الإمارات، ليس بحركاتها الرباعية المألوفة عالمياً، بل بحركاتها السباعية، لأن كل إمارة حركة سيمفونية تتكامل لوحتها التشكيلية مع الموسيقى الكليّة المشكّلة للوحة دولة الإمارات العربية المتحدة.
هل جربتم الإصغاء للحركة الافتتاحية التي تبدأ من أبوظبي؟ وكيف انتقلت على سلّمها الموسيقي الخاص منذ الإعلان عن الاتحاد، وكيف يبدو قصر الوطن حصناً لمفتاح «الصول» الموسيقي الذي يرتفع مع سارية أعلى علم، ونشيده المنسجم مع تفعيلات البحر الكامل، المحتفي بالبلاد ودستورها الرفيع، واعتزازها بعروبتها وجماليات التحصّن بالله والعمل والإخلاص والتضحية إلى الأبد، مواصلةً نهج زايد الخير بالمحبة والسلام، وما تعكسه رؤى صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله.
ترتفع الموسيقى كلما اقتربنا من جزيرة السعديات، وتلمع متغيراتها مثل الأشعة وهي تهطل من قبة لوفر أبوظبي عابرةً طبقاتها الثمانية لترسم لوحات ضوئية متحولة، تمتد أشعتها أمواجاً لتصير مراكبَ تحمل الشمسَ، وتقترب من متحف زايد الوطني، فيجذبها صوت رجل عجوز حكيم، يتسرب من بين الجدران إلى الشاطئ.
الصوت نغمات وقورة تخرج من المعروضات الأثرية، وتشكّل خلفية لمشاهد ستظل تروي حكاية الإمارات، ورنينُها الخرافيّ يتجه مع البحارة الإماراتيين الذين كانوا هنا قبل آلاف السنين، تاركين ظلالهم غيوماً وموجات وومضات يتوارثها البحارة الإماراتيون الذين كانوا هنا قبل خمسين سنة، والذين سيكونون هنا بعد خمسين سنة، والذين سيزورون «العين» المتشكّلة صوراً ولوحات، نستشفّ من عناصرها المتناغمة كيف تلتحم ذاكرتها مع صوت التاريخ وهو يمسّد لحيته البيضاء مسترسلاً في سرد الحكايات.
الصوت العتيق يشير إلى حجارة بيت الشيخ زايد والبيئة المنصتة لألوانها وكائناتها، وتبدو الطبيعة المرسومة في المشهد الخالد أشبهَ بشبكة إلكترونية تحتفظ بأحاديث الناس ورقصاتهم التراثية وحكاياتهم التي لا تنتهي.
ثم، وبلا مرساة، تموج الموسيقى، وتنبض من ألوان العلم، وتتسع خضرتها بياضاً، ويصبح أحمرُها وروداً، لتصل إلى الحركة الثانية من سيمفونيتها، وتعزف مشهدها بفنية في متحف الاتحاد بدبي، مطلة من الرفرفة الصافية على برج خليفة وإطار دبي الذي يطلق لمخيلة القارئ والرائي والمتلقي والمُشاهد حرية تشكيل اللوحة بفضاءيها المنظور واللامنظور، فتتلاطم إيقاعاتها المتسارعة بمتحف المستقبل الناطق بأشعار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ثم تجمح خيولاً، وتفاعيلَ «خبب» تجذب الخيول إلى صاروق الحديد، وتخطف بشرارها أشعة الشمس وتغوص عميقاً إلى تلك الحضارة المشرقة من تاريخ ما يزال هنا، لتحكي مع الجرة الفخارية سيرتها المتواصلة مع طريق الحرير، وكيف استدارت الأزمنة، والتفّتْ مع خلايا اللمعان الأشبه بخلايا النحل لتصبح الحلية الذهبية الحاضنة للعالم بتظاهرتها العالمية «إكسبو دبي 2020»، لتتواصل الحضارات والثقافات والعقول أنشودة لا تنطفئ.
وتبدأ الحركة الثالثة مثل أشعة متسللة من زجاج معشّق، فتطلّ مفردات الشارقة، ومن جزيرة العلم تشرف على عاصمة الثقافة العربية وتشكلاتها اللونية المتحركة بين ذاكرة الحداثة وأحلامها المتجولة في السوق القديم، ودوّار الكتاب، والمكتبة، وقلب الشارقة، ومتاحفها المتجولة عبْر الزمان، والتي لا تتعب من الحديث عن ذاكرتها اللامعة، وسلطانها المعاصر، وما تجود به من فواصل أثرية تروي ما حدث. ومما تتداوله منصة هذه الذكريات حكاية «الزبّاء» ملكة تدمر، وآثار قصرها الصامدة هناك في «شمل»، وكيف نصل إليها مع الحركة الرابعة الراغبة في جذبنا إلى رأس الخيمة، لكنّ قصر زنوبيا يصر على تجوالنا بين حجارته وقناته المائية ومدافنه والأعشاب الخضراء التي قيل: إنها جزء من الأرواح الطيبة التي كانت هنا، ربما، هي همسات داخلية لجنود زنوبيا، أو للتجار الذين مضوا، فمنهم من عاد مع قافلته إلى الهند، ومنهم من رجع إلى سورية، ومنهم من اتجه إلى دلمون وشبه الجزيرة العربية.
ولا تنتهي الحركة الرابعة مع هذا الصراع الاستحواذي الجميل، لأنها تخبرنا عن بطولات نساء رأس الخيمة، وكيف حارَبْن الاستعمار، وانتصرن عليه، وكيف تحولتْ أرواحهنّ جبالاً امتدت إلى الفجيرة وطبيعتها الخرافية وهي تسمعنا الحركة الخامسة من السيمفونية التي غافلتنا، ووقفت على رأس الجبل محدقة في الأفق اللازوردي المتجول بين تدرجات البني والأبيض السابحة مع الأمطار في السيول التي يرصد خريرها ظلال الصقور وهي تحلق عالياً.
وبين موجة وأخرى، ترفع الموسيقى أشرعتها، وتقترب مع حركتها السادسة إلى عجمان وتشكيلاتها المتلونة بهدوء فاتح، ومفردات مشتبكة مع ألوان الرمال على الشاطئ الممتدّ مثل أغنية صافية بصوت ميحد حمد كتبت كلماتها «فتاة العرب».
وما إن تبدأ الحركة السابعة اشتعالاتها الهارمونية غير المتوقعة حتى نجد أنفسنا في لوحات أمّ القيوين الهائمة بين نغمات شرود الموج بالشفق والغسق، وشرود الناس بالقمر، وكيف ترسم زقزقة العصافير حضورها بالألوان المائية الزرقاء والخضراء والصفراء والحمراء، ثم تضم أجنحتها بمحبة لتستقر في نبضات الشجر، على الأغصان المتأرجحة بين النوم واليقظة، وكأنها تلك الشخصية الخرافية التي تنام بعين مغمضة وعين مفتوحة.
وفجأة، تنضم الحركات السبع للسيمفونية مثل صقر أسطوري يضم جناحيه، ثم يفتحهما، ويحلق إلى الحركة الختامية في الفضاء، يحلق مع وجه الشيخ زايد الباسم، و«خليفة سات»، ثم مع هزاع المنصوري وسلطان النيادي، ولا يكتفي بمحطة الفضاء الدولية، بل يظل متجهاً إلى المريخ، ليزرع علم الإمارات العربية المتحدة لأول مرة على تربته الحمراء النحاسية، ثم يفرد جناحيه ويحلق، يحلق، بينما رجْعُ صوته يعبر مدارات الكواكب ليصل إلى الأرض، ويرسم بألوان الشمس على ملامحها «طموح زايد».