مع أن عنوان كتاب الرسام والناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي “قيم تشكيلية.. في الشعر العراقي” يستدعي التصور بتناوله الشعر العراقي ابان الفترة الحالية الا انه شمل مساحة واسعة من الشعرٍ العراقيٍّ ممتدة في الزمان والتاريخ، إلا أننا نعتقد أن خالد خضير قصد به “الشعر العراقي” (الحديث) حصراً وهو ما كان يجب عليه أن يحدده بدايةً، خاصّة أننا نلمس في مقالات الكتاب اهتمامه بمكونات الغلاف بعنواناته وإشاراته، لا أن يجعلنا نؤول ذلك من متون الكتاب الذي ينفرد بإيجاد وشائج متينة بين الشعر والرسم. يحتوي كتاب الصالحي الذي صدر في دمشق قبل ايام قليلة على دراسات في كتب شعرية صدرت حديثاً، أوسابقا، فيفرد دراستين بالشاعر حسين عبد اللطيف، إحداهما عن ديوانه” أمير من أور” وهو في رثاء الفنان الراحل أحمد الجاسم، وصدر عام 2011. وسبق للشاعر حسين عبد اللطيف أن نشر قسمه الأكبر، إن لم يكن، كاملاً في مجلة الأقلام العراقية، والأخرى عن ديوانه”نار القطرب” وقصيدة” عيد البوقات” تخصيصاً، الصادر عن وزارة الثقافة بغداد في التسعينيات وبهذا فهو يعاكس زمن صدور المجموعتين بقصدية واضحة غير عابئ بالزمن الذي صدر به الكتابان. في قراءته “لأمير من أور” يرى خالد خضير أن أي دراسة له تحتم أن ينظر إليه بصفته مجموعة من “النصيصات” ابتداءً من الغلاف الأول وكذلك الأخير الذي يعدّه كذلك الأول كونه يحمل صورة “المرثي” معتمرا قبعته وكلمة للشاعر سعدي يوسف عنه. ويلاحق خضير الكتاب عبر ملاحق لم تعنون معتقداً أن عبد اللطيف أراد بهذا أن يكشف الصلة التي تربطه بالمرثي بصفة “احتفاء” فاحمد الجاسم لم يغادر عبد اللطيف روحيا بل هو في سفرة، حتى وان بدت طويلة للتغلب على هذا الرحيل الذي يعيد إلينا رحيل انكيدو عن كلكامش الذي لم يقتنع به في البداية. ويكرر عبد اللطيف تلك الرؤيا متجسدة في فقدان القناعة بالأشياء الحياتية المحيطة به، لكنه من جهة أخرى يقر بواقعة الغياب الواقعي مرغماً وبانكسار يقود للهزيمة المحزنة: “الآن... وقد انتهينا من كل شيء فلم يعد من طائل وراء السعي المحموم في هذا العالم/ حيث الغلبة للأفعى في اقتناص الأبدية وحيازتها منك الجهود، كلها، باطلة”. وبهذا فإن الناقد يرى أن المرثية مشتركة بين الراثي والمرثي، إذ يقف الشاعر ـ الحي ـ في اللحظة الراهنة مستعيداً الماضي، مقتنعاً بما حصل بمرارة: “ فالذي كان.. كان والذي قد جرى.. قد جرى” خصائص الشعر يرى خضير بأن أهم خصائص الشعر عموماً لدى حسين عبد اللطيف تنحصر في كبح الكثير من رومانسية الذات المتوجهة إلى الآخر، وهو دائم الاشتغال بنصوصه من اجل كبح الذاتية قدر إمكانه (ص 20) وفي الواقع فأن هذا حكم عام فيمكن مراجعة ما كتبه عبد اللطيف منذ ديوانه الأول “على الطرقات ارقب المارة” لنجد صوت الأنا عالياً لديه هو الذي استوعب جيدا درس ارشبالد ماكليش “كيف يكون الشعر: هاجساً لغوياً لعيناً وجنوحاً نحو الشكل”، لكنه مع تقدمه في العمر، وتعزّز مكانته كشاعر مثابر اتسعت رؤاه، لم يتجاهل “إن فن الشاعر طريق للمعنى/ طريق تجعل العالم يعني شيئاً” كما يذكر ماكليش أيضاً. ويرى خضير أن عبد اللطيف أثث نصه بحشد من أسماء الأمكنة والشخصيات التي تتعلق بالرسم، والرسامين، وأسماء اللوحات، وأماكن لعبت دورا مهماً في تاريخ الرسم الحديث. لكنه ـ خضير ـ لم يبحث كثيراً في القيم التشكيلية التي تثيرها تلك العناصر في “مرثاة من أور” ولا الكيفية التي وظفت شعرياً عبر الكلمات واللغة فيها، كما انه يحيل عبد اللطيف إلى تأثره بشعراء آخرين وهو ما شخصه الناقد الراحل عبد الجبار عباس في كتابه “مرايا على الطرق” عاداً ذلك من الضرورات الشعرية لشاعر شاب مؤكداً أن التأثر لدى حسين لا يعود إلى استلهام منهج هذا الشاعر أو ذاك بل تشبعاً بتيارات الشعر اللبناني الحديث التي تدين بالكثير لمفهوم الحداثة في الشعر الأوربي منذ الموجة الرمزية بجناحيها الفرنسي والألماني، حيث يكف الشعر عن أن يكون وصفاً أو سرداً لعاطفة مشاعة، بل رحلة تنشد كشفاً وعالماً سرياً، وهي لحظة هاربة، لكنها: لحظة الكشف والوهم والرؤيا (ص55 ). جوهر العمل يقدم خالد خضير دراسات عن كتب شعرية لمؤيد حنون وعادل مردان وجبار الوائلي ورنا جعفر ياسين ووديع شامخ والهام ناصر، وكاظم اللايذ، وأحمد العاشور، والراحلين محمد طالب محمد. صدر هذا الكتاب المعنون “التسول في ارتفاع النهار” عام 1974، ومصطفى عبد الله وعبد الخالق محمود وسلام الناصر، ويفرد مقالاً خاصاً (ص43) لقصيدة عنوانها “حمامة خضراء” للشاعر مجيد الموسوي وهي مهداة لذكرى الشاعر الراحل مصطفى عبد الله. وقد شخص الناقد خالد خضير في بعض مقالاته المذكورة في أن العمل الفني، شعراً أو رسماً واقعة تتألف من مستويين بنائيين مستقلين: مستوى تحتي مادي شيئي ينتمي إلى جوهر العمل الفني المادي ومستوى دلالي فوقي ينشأ كهامش سردي على الواقعة الشيئية، وهو، أي المستوى الفوقي، وان كان موجوداً ضمن جوهر العمل الفني، فإنه لا ينتمي إلى البنية المادية للعمل الفني، وذلك بسبب أن الحقل الجماليّ، ليس معرفة، لذا هو مستقل عن معايير العقل وقيمه الأخلاقية والتقوية. كما انه في بعض قراءاته لم يتلامس مع التشكل التشكيلي في ما قدمه في بعض قراءاته ومنها مجموعة جبار الوائلي والراحل محمد طالب محمد وكاظم اللايذ إلا بشكل مضمر ومقتصد للغاية بينما نراه في دراسته لمجموعة رنا جعفر ياسين يتوسع كثيراً، وكذلك في دراسة ديوان مؤيد حنون المعنون “متعة القول” الذي صدر في صنعاء وقدم له د. حاتم الصكر الذي لا يخالفه خالد في ما ذهب إليه بل يعده مرجعاً لدراسته عن الديوان. التشكيل الجمالي يذكر الراحل د. محسن اطميش في كتابه “دير الملاك” أنه لابد لأي ناقد أو باحث يطمح مخلصاً إلى تقديم رؤية نقدية متكاملة عن الشعر الجديد ان يتناول أدوات التشكيل الجمالي للشعر وهي “اللغة” و”الصورة” و”الموسيقى”، وهذه العناصر كانت مضمرة وغائبة في مقالات كتاب الزميل الناقد خضير كونه معنياً بـ”القيم التشكيلية في الشعر العراقي” لكنها من مستلزمات البحث في هذا الموضوع الحيوي والتي لابد منها في حديث عن الشعر، ناهيك عن الكتابة فيه وعنه، حتى وان كان البحث معنياً بالقيم التشكيلية في الشعر. في ختام الكتاب موضوع بعنوان “هاشم حنون.. نموذجاً تطبيقياً” وهذا الموضوع يضع كتاب خالد خضير في خانة (التشظي الكتابي) كون المواضيع المدروسة كلها عن كتب لشعراء بعضها تعتمد شعر التفعيلة في الغالب وأخرى تعتمد قصيدة النثر بما فيها من قيم تشكيلية. وقراءته أعمال التشكيليّ هاشم حنون لا علاقة لها بموضوع كتابه. فهذه القراءة أقرب إلى سيرة فنية للفنان، منذ العام 1990 مع جرد لمعارضه في أعوام 1996 و1998 في العراق و1999 ـ 2000 عمان، مع بعض الآراء عن تجربته للفنانين هاشم تايه وصدام الجميلي ورؤية للقاص محمد خضير في أعماله تتركز حول “التضحية في وضع أفقي” بجذورها المرتبطة بالفن الرافديني القديم إذ تبدو الشخصيات في حركة متصلة لبناء مدينة أرضية فاضلة عبر العمل الاجتماعي. وقد عمد الناقد خالد خضير إلى أن (ينفض يده) كاملة عما سبق أن نشر أغلبه في الصحف المحلية وفي هذا الجانب دفعة واحدة وبـ(182) صفحة من القطع المتوسط. آثر خالد خضير تجميع مقالاته المنشورة في كتاب دون إعادة نظر يتطلبها خروجها في كتاب، لابد ان تكون له ميزة خاصة عما نشره سابقا متفرقا مكانياً وزمنياً، وفي صفحات ثقافية يومية، لذا فهو يكرر كثيراً من الأفكار والرؤى والتصورات التي طرقها في دراساته ومنها كمثال ما ورد في مقالين مختلفين اقتباس واحد عن الناقد سهيل سامي نادر يرد فيه: “إن لا وجود للنقد الفني بوصفه حركة مستقلة، انه نص يختلط بنصوص أخرى.. انه لا ينفصل عن التقاليد الأدبية، فخطته أدبية، أوصافه وتعابيره، ولا سيما لغته كلها وطريقته في الحكم” كما يعمد لتكرار ما ذكرته الفنانة هناء مال الله في أماكن متفرقة من الكتاب عن “العناصر التكوينية للوحة” بينما مقالاته كانت عن كتب شعرية. حقل التشكيل التشكيل والشعر، محاولة منذ الأزل، كل بأدواته، لرصد موقف الإنسان في حياته اليومية الخاصة- العامة، والاجتماعية ـ التاريخية فالشعر جنس فني يملك استقلاليته الخاصة ـ الفنية اعتماداً على الملفوظ ـ المسموع الذي عبره تتشكل الصور ويرتبط بوشائج عدة لا انفصام جوهرياً فيها مع الرسم لكنه ينفرد عنه بأنه يسمع ويرى والرسم قريب من الشعر كذلك لكنه مستقل عنه كونه يرى ولا يُسمع. الفنان والناقد التشكيلي هاشم تايه في مقدمته للكتاب يؤكّد أن خالداً ناقد تشكيلي “يحاول أن يختبر عدته النقدية المنتمية إلى حقل التشكيل، في قراءة نصوص شعرية مستعيناً بعدد من المفاهيم التي أنتجها هذا الحقل” ويذهب الفنان تايه كذلك إلى أن “الحدود تنفتح بين الشعر والرسم، وتجري عمليات تبادل مصالح بين الاثنين، وتغدو الصورة مجالاً حيوياً يستثمر فيه الشعر والرسم رأسماليهما وطاقاتهما في إنتاج نص ذي طبيعة هجينة تضافرت في تشكيلها قوى مخلوقين لم يكفا في أن يتباريا على سطح موحد”. ما قدمه خالد خضير محاولة جادة واختراق محسوب وحذر في تبيان وتنظير هذا الجانب تطبيقياً وبذا ينفرد في هذا الجهد الذي لا ينازعه عليه أحد في الساحة الثقافية العراقية ، حالياً في الأقل.