افتتحت جزيرة السعديات ذراعيها لتحتضن فعاليات «فن أبوظبي»، ومجدداً ضحكت الألوان مرحبة بعشاق الصورة واللوحة، مثيرة من التساؤلات المحببة مقدار ما يحتمل المشهد من تعليل وتفسير.. مجدداً كانت العيون الساعية نحو الروعة تمعن تحديقاً في مناظر جميلة على الجدران، وزحفت من هناك لتختزل العالم بكل مفاجأته وعناصر الدهشة المختبئة خلف التفاصيل.. كان لابد من السعديات كي يأخذ الفن مكانه ومكانته، وكان لابد للفن من رواد وصناع ومتابعين أيضاً.. كان جمهور عريض من الذواقة على موعد الأربعاء الفائت، مع فعالية «فن أبوظبي»، وهي أضحت علامة فارقة ومميزة في عملية الشراكة التي تقيمها أبوظبي مع مسيرة الإبداع العالمي، في مقدم الأنشطة المكونة للفعالية تأتي الدورة الثانية من معرض «تعابير إماراتية»، وفي الصميم منه مبادرة «فضاء التصوير»، التي تمثل عنصراً رئيسياً من عناصره المكونة.. حيث كان بوسع الجمهور أن يشارك في المعرض عبر التقاط صور بورتريه شخصية، تتم طباعتها على ورق من قياس A0، يمكن لصقها على لوحات مصممة خصيصاً لهذا الغرض. كما شارك في المعرض عشرة فنانين إماراتيين منهم عفراء الظاهري، وعفراء بن ضاهر، وعليا الشامسي، وعمار محمد العطار، وفاطمة اليوسف، وهدية بدري، وميثاء دميثان، وميرا عبيد القصير.. كما شارك اثنان من الفنانين الأجانب: ستفين شور، وجي آر، إضافة إلى أستاذ فن التصوير الفوتوغرافي في الجامعة الأميركية بالشارقة طارق الغصين. تقاليد جديدة يأتي المعرض تتويجاً لورشة عمل حول التصوير الفوتوغرافي، شارك فيها الفنانون المعروضة أعمالهم، وأدارها المصور العالمي ستيفن شور، وهو يشغل منصب المدير الفني للمعرض، حيث شهدت الورشة تفاعلاً على مستوى التجارب والرؤى أثمر عن حصيلة استثنائية من الأعمال الفوتوغرافية التي استدرت إعجاب الجميع، بمن فيهم صانعوها.. يوضح شور الذي قدم عدداً كبيراً من اللوحات الفوتوغرافية تراوحت استهدافاتها بين الأمكنة والأشخاص والرموز، إن الفنانين العارضين يشكلون مجموعة فنية تتصف بالذكاء والوعي والمقدرة الفنية العالية، وهم يحولون بمعنى من المعاني، ما يحملونه من موروث تراثي، وما تعلموه من تجارب، وما أضافوه من خيالهم، إلى تقليد حي.. إنهم في واقع الأمر يبتكرون تقاليد جديدة.. معجزة الضوء بين معروضات ستيفن إشارات ضوئية مكتظة في أحد الشوارع الرئسية، ومحطات كهربائية، ومتجر لتصليح السيارات، وهاتف عمومي متآكل، ورغيف خبز مرمى على قارعة الطريق، هي مشاهد عابرة في المدينة تختصر تفاصيلها المضمرة، وتكشف ما تراكمت فوقه الأزمان والأمكنة، يوميات شوارع وأزقة يجتازها العابرون دون حساب، لكن الكاميرا تكمن لها عند المنعطفات والزوايا، فتحيلها إلى أحد العناوين العريضة التي يصعب الولوج نحو صميم المدينة من دونها، لعل المشهد هو الذي ينتظر المصور كي يفرج عنه، أو ربما اللقطة التي يختارها المصور هي التي تحرض المنظر كي يبوح بما انطوى عليه من مسكوت عنه، في الحالين ثمة علاقة جدلية بين العنصرين المشكلين لمتعة الرؤية، والمتواطئين على سجن العالم في كادر خشبي مربع، وفي ذلك بعض تجليات المعجزة.. هوية متجددة شارك الفنان سالم القاسمي في المعرض بمجموعة من ست لوحات كانت كافية لإختزال رؤيته الفنية، وإيجاز رسالته الإبداعية.. تحت عنوان «هنا هناك» عبر خلالها بالصورة عن زاوية النظر التي يتطلع من خلالها نحو بلاده العامرة بالخير والأسئلة وبالتحديات أيضاً، هناك المسجد والتربة المخضوضرة على استحياء، وصولاً نحو الصحراء، دون التغاضي عن مواقف السيارات في المولات الكبيرة، في المقابل ثمة الجدران الموشاة بألوان متعددة تذكر بأعمال فناني الشوارع في الغرب، وثمة أبنية مشادة على الطراز الأووربي، وأيضاً هناك مواقف المولات، كما لو أن الفكرة هنا تنشد القول بوجود تقاطع ما بين الجزئين المكونين للكرة الأرضية، نقطة تلاق تنبثق منها آمال بمستقبل آمن.. يقول القاسمي مكثفاً تجربته في تعابير متقنة الصياغة والدلالة: «أعتقد أن دولة الإمارات لا تفقد هويتها المميزة، بل هي تبدع هوية جديدة نابضة بالحيوية». تحت عنوان “قوس قزح” جاءت مشاركة الفنانة الفوتوغرافية عفراء الظاهري، وهي تتضمن مجموعة من اللوحات الصغيرة التي تمثل بيئة الإمارات بأبهى صورها: أشجار النخيل، الحدائق الغناء التي تعكس ملامحها مقدار الجهد المبذول في استنباتها، وأيضاً زهور يانعة ولوحات تشكيلية تحولت بفعل الرؤية الفنية إلى سجادة تمنح الأرض رونقاً غير مألوف.. عن تجربتها تقول الظاهري: “أرى في الفرصة نقطة انطلاق مهمة، ليس لتطوير أعمالنا فقط، وإنما أيضاً لتعريف الفنانين بما هو ممكن”.. جمال بالعدوى بدوره شارك طارق الغصين بمجوعة متميزة من اللوحات التي ترصد مراحل تطور جزيرة السعديات، وهنا متسع لأعشاب خضراء متسامية بفرح، وللون أخضر يمتد متباهياً فوق الرمل، ثم تحضر الصحراء بكامل بهائها، ليمتشق النخل سيف علوه مترفعاً عن صغائر الرياح. يقول الغصين باختصار معبر: “صوري تعكس رغبة في تقليص المسافة بين الموضوع وبين البيئة”. ويشير متحدثاً عن تجربته: رأيت في أبوظبي الكثير من الجمال الكامن، وقد حرصت على أن أكون موجوداً في كل لوحاتي الفوتوغرافية ذلك أنني أطمح لأن أستمد جمالاً من تلك المناظر المدهشة”. خطوة واثقة أما عفراء بن ظاهر فقدمت تحت عنوان “بورتريه ذاتي” ما يمكن اعتباره سيرة حياتية زاخرة بالإيحاءات: هنا فتاة في حضن الكتب، تبدو نظرتها حالمة، متشحة بشيء من القلق، وبعدها الفتاة نفسها محاطة بسجادات الصلاة. النظرة غدت أقل توتراً وإن اتسمت بقدر من الجدية والوجع الذي تسبغه المعرفة على حامليها، لنقع لاحقاً، أي في اللوحة التالية، على الفتاة نفسها معلقة بحبال مجهولة المنبت، مزيج مدهش من ثقة وتيه، ومن خوف وإقدام، إنها الحياة موثقة بالصور.. تقول بن ظاهر: «لقد أردت دائماً أن تصبح أعمالي أكثر نضجاً، وأفضل من الناحية الفنية، وبالتالي كانت هذه الورشة بالفعل خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح».. الإبداع أساساً بدورها ساهمت الفنانة ميثاء دميثان بثلاث لوحات عملاقة تحمل اثنتان منه إسم راشد بن سعيد، وهما تمثلان عباءة رجالية تبدو عليها سمات الحضن الدافىء، فيما تحمل الثالثة فتاة بزي تقليدي، وعلى ملامحها خليط من المشاعر لعلها حالمة أو قلقة أو مترقبة، وربما كانت كل الأشياء تلك في لحظة واحدة، ليحضر السؤال مجدداً:من يسبق من؟! المشهد أم رؤية الفنان المحيطة به.. تقول ميثاء:بمجرد الانتهاء من ورشة العمل، شعرت أنني منفتحة على العالم، وأن لدي رؤية واضحة، والأهم من ذلك أنني انهيت الورشة مع رغبة عارمة في الإبتكار والإبداع.. كبسولة بصرية كذلك شاركت الفنانة لطيفة بنت مكتوم بمجموعة أعمال لا تداري انحيازها لروعة الجغرافيا وألقها: غزلان في برية موحية، منطقة ند الشبا في دبي، واحة من الماء وسط صحراء شاسعة، ومنظر لميدان فائق الرحابة. تستند لطيفة إلى تجربتها الثرية لتوضح: «على المصور أن يكون مراقباً، ومع أنني لا أستطيع التأثير على المتغيرات الكبرى، فإن بإمكاني التقاط صور لتلك الأماكن والمحافظة عليها ما أن تتم طباعتها في كبسولة زمنية بصرية». فهم جديد أيضاً انطوت مجموعة الفنان عمار العطار على أعمال مثيرة للدهشة، وهو تحت عنوان “سلسلة يومياتي البصرية” أمكنه أن يجول بالمتابع بين جملة من التناقضات التي يصعب حصرها في اطار رؤيوي واحد، من شارع إماراتي هادىء إلى أطفال يلعبون الكرة فيما تشكل مجموعة من الأبراج العالية خلفية لهم، وأناس متجمعون في إحدى الساحات، فيما خصص أحد لوحاته لمنظر الجبال البركانية، إضافة إلى وجبة طعام، ومخبز، ومتجر للأحذية، وآخر للعب الأطفال، وصولاً نحو حي مزدحم بالأبنية القديمة. يفسر العطار هذا التناقض الشكلي بالقول:جاءت مشاركتي في هذه الورشة لتلفت اهتمامي إلى تفاصيل في أعمالي لم أكن أدركها، ولتضيف أبعاداً جديدة إلى أسلوبي الفني. لقد كان ذلك الفهم الجديد العنصو الأهم في ورشة العمل بالنسبة لي”. بهجة الغموض والخطر ليس بعيداً عن آراء زملائها، تقول هدية بدري التي شركت بمجموعة متميزة من الأعمال، يطغى عليها طابع الحاجيات المنزلية، إن الجانب الأكثر أهمية في ورشة العمل هو التركيز على التعلم والتقدم، ومن خلال ذلك تم تشجيعنا على ممارسة الفن عبر الطبيعة، والمفهوم الإيجابي لمصطلح “غير كامل” و”غامض”. بين الحاضر والماضي قالت عليا الامسي: لا شك أن التلوين ضمن الخطوط أمر ليس بهذه السهولة، وحياتي عبارة عن رواية أتصفحها بين الحاضر والماضي، وهي مليئة بالألوان والحرية. أما فاطمة اليوسف فترى أن العنصر الأكثر أهمية في ورشات العمل هو خروجي للمرة الأولى من منطقة الآمان التي كنت فيها، لقد قمت بتجارب على كاميرات وتقنيات طباعة لم استخدمها من قبل. فيما توضح ميرا القصير: انقسمت تجربتي في هذا المشروع ما بين استكشاف الموضوع الذي أعمل عليه وتجربة الكاميرا التي لم يسبق لي استخدامها من قبل، فبالرغم من التحديات التي واجهتني في استخدام الكاميرا إلا أنني لا أزال أريد استكشاف المزيد حولها.