أنقرة - سيد عبد المجيد: لم يكتف ''جورج باباندريو'' وزير الخارجية اليوناني الأسبق بالمشاركة في الجنازة الرسمية لـ''إسماعيل جيم'' وزير الخارجية التركي الأسبق والذي توفي قبل أسابيع بعد صراع طويل مع المرض، إذ كان حريصا أن يظل مرافقـا للجثمان حتى يوارى الثرى، ويدفن وفق التقاليد الإسلامية، وفي '' المزارلك'' المدافن باسطنبول، وقف ''باباندريو'' مع أفراد الأسرة يتقبل العزاء في صديقه رجل الدولة '' السياسي الظريف ''اسماعيل جيم'' على حد تعبير الميديا التركية مرئية ومقروءة· ''باباندريو'' الذي دشن مع ''جيم'' -قبل ثمان سنوات وأثناء توليهما وزارتي الخارجية- مناخا جديدا للعلاقات بين أثينا وأنقرة، سيظهر أمام الشعب التركي بأنه صديق حميم ليس للوزير الراحل بل لأسرته أيضا، ''باباندريو'' نفسه، وفي إحدى زياراته لتركيا بدعوة من نظيره جيم، شارك جمع من الأتراك الأرمن رقصة يونانية فلكلورية وسط ترحيب رائع مما أعطى إيحاء بأن اليونان وتركيا لا يمكن أبدا أن تكونا عدوين لدودين، لكن الحقيقة تبدو غير ذلك· بيد أن مبارة كرة قدم بين منتخبي البلدين في إطار كأس الأمم الأوروبية أظهرت أن البون مازال شاسعا بين جارتين يشتركان في الأرض وبحر إيجه لكن المباراة نفسها بينت حتى ولو على استحياء أن في نهاية النفق الطويل يبدو هناك ضوء· صراع الأعلام أم اتحادها بدا الأسبوع الماضي في تركيا مختلفا، صحيح أنه أمر معتاد عندما تكون البلاد على موعد مع حدث مهم، إلا أن اللقاء الكروي مع اليونان ليس مثل أي حدث، فالصحف الكبرى والصغرى على السواء كرست بعض صفحاتها لحدث الموسم وكل موسم، وكتاب الأعمدة بدورهم يشحذون الجماهير لليوم المرتقب الذي سيلتقي فيه منتخب تركيا القومي لكرة القدم مع نظيره اليوناني والتليفزيون بقنواته يذكرونهم بأمجاد بلادهم العسكرية من جانب ثان، يحثون ''جنود المنتخب'' للفوز، فالشعب لن يقبل منهم سوى النصر الذي لا يجب أن يقل عن ''الظفر'' في حربي ''اينونو'' نسبة لـ''عصمت اينونو'' رفيق ''مصطفى أتاتورك'' مؤسس تركيا الحديثة، ومعركة ''سكاريا'' في عشرينات القرن المنصرم· في هذا السياق كان طبيعيا أن تتضمن بعض الفقرات المتلفزة لقطات بدت ذات معنى ودلالة، فها هي غرفة مزدحمة عن آخرها وقد ارتدى أفرادها ''التيشرتات'' الحمراء يترقبان الهدف الذي سيهز مرمى فريق العدو، في حين الغرفة المجاورة لا يسكنها سوى شخصين، ظهرا وكأنهما شبحان متشحان باللون الأزرق معزولان عن العالم يتحسران على هزيمتهما ·· الطريف هو ما حدث في الجزء الشمالي من الجزيرة القبرصية المقسمة منذ عام ،1974 والمعنون في تركيا فقط باسم ''جمهورية شمال قبرص التركية''، فعلى الخط الفاصل ارتفعت الأعلام القبرصية وقد اتحدت مع نظيرتها التركية في مواجهة الأعلام اليونانية والتي اندمجت مع أعلام قبرص الرومية طبقا للتسمية التركية، وبشكل لم يكن مقصودا تعانقت الأعلام وبدت وكأنها باقة ورد فيها الأزرق مع الأحمر مع الأبيض· نشوة انتصار هذا عن خيال الدراما، ولكن عندما تحول إلى حقيقة قلبت الأناضول رأسا على عقب، فقبل الخروج إلى الشوارع التي بدت خالية من الحياة كانت هناك أربعة هتافات في صورة صراخات مدوية تنطق اسم ''تركيا'' وقد انطلقت مع كل هدف، ومع إعلان نهاية المباراة اختفى السكون ليأتي نقيضه ممتزجا بالفرح والصخب ونشوة الانتصار وبعضا من التشفي وهذا هو بيت القصيد· فالمدن بدت ملامحها حمراء بفضل حاملي الأعلام التركية ذات الأرضية الحمراء وفي قلبها الهلال والنجمة، حتى البنايات وواجهات المصالح تدثرت بمئات الأمتار من الأعلام: وها هي الفرحة في ''دنيزلي'' بوسط الاناضول تعانق مثيلتها في ''بدروم'' وانطاليا حيث الجنوب المليء بالمدن السياحية ومن ''ارزروم'' الواقعة شرق البلاد مرورا بمدن البحر الأسود في الشمال انتهاء بـ''موغللا'' الواقعة في فضاء بحر ''ايجه'' بالغرب، كاد الشعب يخرج عن بكرة أبيه، فرحة طاغية غمرت الشوارع والجماهير تنطلق حناجرها غير عابئة ببرودة مناخ يتلمس بشوق ربيع بات قاب قوسين· ورغم أن تركيا سبق لها وأن عاشت أفراح الأداء الرائع لمنتخبها الوطني في كأس العالم الذي أقيم في اليابان وكوريا الجنوبية قبل خمس سنوات تقريبا وحصوله على المركز الثالث، وعندما فاز فريق ''غلطة سراي'' بكأس الاتحاد الأوروبي عاشت البلاد سعادة عوضتها مؤقتا خيبة أملها لتلكؤ الاتحاد الأوروبي في قبولها عضوا كامل العضوية به· ومع كل ذلك أتى انتصار ''الرابع والعشرين'' الماضي ليتربع على العرش، فهذا النصر تحديدا له مذاق خاص، بيد أنه فاق انتصارات الأناضول الكروية مجتمعة، والسبب في غاية البساطة، فالمباراة من وجهة نظر الرأي العام كانت مع عدو لدود، ورغم أن هناك أصواتا في كلا البلدان سبق ونادت -وما زالت- بالسلام والعلاقات الطيبة، إلا أنها وجدت صدى من الشعبين، فكلاهما ما زالت ذاكرته تختزن الماضي وجوانبه الدامية، وإعلام من جانبه لا يهدأ في تأجيج المشاعر العدائية بين الحين والآخر، الأمر الذي أفضى إلى حائط صلد يحول دون تلاق حقيقي بين الشعبين التركي واليوناني، بيد أن جزيرة متناهية الصغر يمكن أن تفجر أزمة عاتية،-صحيح لا تصل إلى نزاع مسلح، إلا أنها تترك مزيدا من التوتر وانعدام الثقة· السياسة '' الملعونة'' ولأن الدولتين رياضيا ضمن النسيج الأوروبي، من هنا كان لا بد من وجود بروتوكول هو بكل المقاييس فريد من نوعه، فكرويا إذا كانت المباراة في أثينا فممنوع حضور الجمهور التركي، وهذا ما حدث بالفعل في تحدي السبت التاريخي قبل أيام الماضي، أما المباراة القادمة في اسطنبول فلن يحضرها الجمهور اليوناني، والسبب معروف والإجراء لابد منه حتى لا تحدث كارثة على خلفية السياسة ''الملعونة''·· المثير: هكذا بدأ'' فاتح تيريم'' مدرب المنتخب التركي كلامه للإعلام عقب العرس الكروي على حد تعبير صحيفة ''ميلليت'' التركية أنهم أي اليونانيين كانوا يتوقعون منا الشغب لكن ظنونهم خابت، ورغم الشتائم التي وجهت ضد تركيا وسيل اللعنات التي طالت ''مصطفى كمال'' أتاتورك مؤسس الجمهورية إلا أن اللاعبين لم يظهروا تبرما وبدت أعصابهم من فولاذ· ''ويالها من فرحة لم تتم'' كان هذا تعليق الصحف التركية التي نقلت باستفاضة أحزان اليونان التي كانت تستعد للاحتفال بذكرى العصيان ضد الزحف العثماني قبل 186 عاما والموافق يوم الخامس والعشرين من مارس من كل عام، هذا العصيان الذي بات عيدا قوميا يفخر به كل يوناني والطريف أن الصحف اليونانية والعهدة هنا على نظيرتها التركية، قالت: إن محمد الفاتح عاد ليفتح اليونان مثلما فتح القسطنطينية قبل ما يزيد على خمسة قرون ونصف ··· ومع هذا هناك ثمة متغير قد يكون دافعا لاستكمال طريق ''باباندريو'' و''جيم'' على أمل أن ينتهي إلى علاقة يسودها الود بدلا من التشفي والرغبة في الانتقام من قبل متطرفين في كلا البلدين، فالمدرب '' فاتح تيرم'' الذي سبق وقاد ''غلطة سراي'' للفوز بكأس الاتحاد الأوروبي يثني على الاستقبال الطيب الذي لقيه المنتخب الوطني من قبل السلطات اليونانية وأشاد '' تيرم'' بأداء الفريق المنافس، أما بالنسبة لبعض التصرفات غير الرياضية من قبل شرائح من جمهور المدرجات قال ''تيرم'': إنه أمر يحدث في كل مكان بالعالم وعموما فهذا موضوع يخص اتحاد أوروبا لكرة القدم ، أما اللاعبون فكان عليهم رغم كل ذلك أن يتوجهــــوا لتحية الجمهور، والحق أن بعضا من هذا الجمهور رد التحية بأخرى مؤكدا أن الفريق اليوناني عندما سيأتي لتركيا سيجد كل ترحاب ···