اختلاف ألوان الأزهار يُبهجنا، واختلاف أنواع المناظر يُطْرِبنا، واختلاف الثمار يعجبنا، ننتقي من الملابس أشكالاً، ومن أثاث البيت تُحفاً وأصنافاً. خلق الله خلقه مختلفين في ألوانهم وأشكالهم وأخلاقهم وأفهامهم، وأجرى لها الصيف والشتاء والربيع والخريف، والليل والنهار، قال الحق سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. ونحن نقف من كل هذا موقف الإعجاب والرضا، فالاختلاف سنة ماضية، وحقيقة حاصلة، وقد جاءت آيات الكتاب العظيم وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بما اتفق العلماء على مدلوله وأجمعوا على فهمه، وهذا ما يُعرف عند العلماء بمسائل (الإجماع). كما جاءت نصوصٌ شرعيةٌ أُخْرَى أراد الله لِحِكَمٍ جليلات ورحماتٍ سابغات أن تكون ميداناً تتسابق في فهمها عقول العلماء، وتتبارى في استخراج كنوزها العقلاء، ولو شاء ربك أن يجعلها نصوصاً لا يُخْتَلَفُ في فهمها لفعل. فقام العلماء الصالحون من الصحابة ومَنْ بعدهم بتأمل نصوص الشرع، وتدبرها من خلال مناهج علمية، وأصول فقهية معرفية، فبينوا مواضع الإجماع، وأماكن الخلاف. سألني أحدهم عن ترتيب أفعال الوضوء بعد النية، هل يلزم وجوباً أن يبدأ بغسل وجهه ثم يديه ثم مسح رأسه ثم غسل قدميه، فقلت له: نعم ذهب إلى ذلك الشافعية والحنابلة. فقال لي: وهل فيها خلاف؟ قلت له: نعم؛ فقد ذهب الحنفية والمالكية إلى أن ذلك سنة وليس واجباً، فعلى مذهب الحنفية والمالكية لو غسل يديه إلى المرفقين قبل غسل وجهه صحَّ ذلك وفات على فاعل ذلك أجر السنة. فسألني الرجل: وماذا قال الله، وماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقلت له: لو قال الله أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك نصاً واضحاً صريحاً لَـمَا اختلف العلماء، ولكنَّ الله لَمَّا ذكر الوضوء قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فعطفت الآية بين الأفعال الأربعة بـ «واو العطف»، والواو لا تدل على الترتيب، فإن قيل: دخل زيد وصالح، فيحتمل أن يكون زيد هو مَنْ دخلَ أولاً، ويحتمل العكس، بخلاف ما إذا قيل: دخل زيد ثم صالح، أو دخل زيد فصالح، فإنَّ «ثُمَّ» و«الفاء» تفيدان الترتيب؛ وأنَّ الذي دخل أولاً هو زيد. إنَّ اختلاف المذاهب الإسلامية رحمة ربانية، وثروة تشريعية، وهو تنوع في إطار النص ووفق قواعد محكمة، وقوانين لغوية وأصولية متقنة، يمثل جانباً مشرقاً من جوانب هذا الدين، ولم يقع بين المذاهب الأربعة اختلاف في العقائد ولا في أصول الدين، قال الإمام السيوطي: «اختلاف المذاهب في الملة نعمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون». اجتمع عمر بن عبدالعزيز بالقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فكان عمر يذكر الاختلافات الفقهية التي حصلت بين الصحابة، فلم يُعجب ذلك القاسم بن محمد، فقال له عمر: «لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حُمْر النعم»، ففرح عمر بن عبدالعزيز باختلاف الصحابة لأنهم أئمة يُقتدى بهم، فإذا اختلفوا كان ذلك توسعة على الناس. واستشار الرشيد الإمام مالك بن أنس في تعميم كتاب الموطأ الذي ألَّفَهُ الإمام مالك على سائر البلدان، فمنعه مالك وقال له: «إنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم».