1.
عندما تسلمت، في أكتوبر من السنة الماضية 2018، دعوة للمشاركة في لقاء هُمْبْرويْش الشعري، تركني مطار دوسلدورف الذي سأنزل فيه، مشدوداً إلى اسم المدينة. لم يسبق لي أن زرت دوسلدورف من قبل، رغم أسفاري إلى ألمانيا ومشاركاتي المختلفة في العديد من مهرجاناتها الشعرية. انشدادي كان تلقائياً. إلى هناك سأتوجه، وهناك سيكون لي لقاء مع شعراء ومع إحدى المدن الألمانية ذات التاريخ الثقافي والفني الخصيب.
هكذا أنا مع ألمانيا. في سفري الأول سنة 1995، لم أصدق أنني سأطأ التراب الألماني الذي عاش فيه غوته وبيتهوفن وهلدرلين وفاغنر وكانط وهيجل وشيللر ونيتشه وماركس وريلكه وبريخت وهايدغر، حتى لا أضيف من الأسماء ما يضاعف من رؤية نفسي أضْألَ مما أراها. ألمانيا المبدعة، عبر تاريخها الحديث، أو ألمانيا الجريحة، منذ مأساة النازية وكوارث الحرب العالمية الثانية. كنت دائماً أتخيلها بعيدة عني، بعيدة جداً.
اسم دوسلدورف هو ما لازمني مباشرةً بعد ركوب الطائرة في الدار البيضاء. كان الوقت يمر بطيئاً، مترجْرجاً، وأنا ألتفت مرة تلو أخرى إلى الساعة. ثم عندما حطت الطائرة على أرضية المطار استبد بي صمت طويل. ظللت أنظر من النافذة كما لو كنت أبحث عن وجه المدينة. النزول وإجراءات الخروج مرت بسرعة، وأنا أتطلع إلى باب المغادرة.

2.
وصل صديقي مصطفى السليمان متأخراً، بسبب زحمة الطريق، كما شرح لي. وفيما كنت في السيارة أتتبع ألواح الإشارات التي تدل على المدن والنواحي، كان مصطفى ينحرف ويختار طريقاً أخرى. سألت: «ألسنا ذاهبين إلى دوسلدورف؟» رد مصطفى باختصار: «لا. نحن نتوجه إلى هُمْبْرويْش». لم تسلس الكلمة على لساني، هي اسمٌ غريب عني. لم أسمع به من قبل. ساد صمتٌ بيننا. ثم نطق قائلاً: «إنها منطقة تقع على بعد حوالي ثلاثين كيلومتراً من دوسلدورف». أحسست بوخْزة، لأنني لن أرى المدينة التي ظللت أتخيل معالمها وأحث الخُطى للتعرف على تاريخها الثقافي والفني. لكنه أضاف: «هي منطقة كانت من قبل تسمى قاعدة الصواريخ». شحذت التسمية خيالي، ولم أعرف ما أقول.
ولجت السيارة منعرجاً، وبعد برهة أحاطت بنا أشجار الغابة من كل جانب. كنت أشاهد ما أمكنني في سواد الليل. لا شيء سوى الإنارة التي تظهر من بين الأشجار وتختفي. ومع استمرار السير، أخذت أنسى دوسلدورف شيئاً فشيئاً. عيناي تنظران إلى سلسلة الأشجار التي تزداد كثافة. قطعنا قرية صغيرة ذات بيوت ومحال يبدو أنها خشبية. أضواء الإنارة على امتداد الطريق. ثم ظلمة من جديد. وفي الأفق ضوءٌ يكاد يكون كامداً. «هذه همْبْرويْش»، قال مصطفى.
توقفت السيارة. عند النزول هبّت رائحة الأرض والنباتات المغسولة بالأمطار. هواء بارد حبّب إليّ الوقوف قليلاً قبل أن ألتحق بمصطفى وزوجته كارْمن وهما يدخلان إلى بناية من الآجر البنيّ اللون، هندستها المعمارية اقتصادية، أخّاذة ببساطتها وخلوّها من عناصر الزينة. لوح بابها بلون الخشب الطبيعي، ناصع النقاء، وبعد الباب مباشرة صفٌّ من غرف على اليمين، ثم حديقة في وسطها شجرة دبّال. بعض زجاجات الضوء موقدة، من دون إفراط.

3.
تقدم نحونا الشاعر أوسفالد إيجَر الذي تفضل بدعوتي إلى اللقاء الشعري. تبادلنا التحية بابتسامة هادئة، وعلى التوّ توجهنا نحو غرفة فتحها لي، وقال: «هنا إقامتك». غرفة ذات شكل مربع. على الجدران لوحات فنية. مقعد وطاولة. سرير. في طرف الغرفة حيز لحفظ الملابس وحاجيات الإقامة. دلني مصطفى على قطع من الثوب تُعلق كستائر من ثقبين في حامل معدني. فكرة لطيفة جداً. أنتَ في غرفة فنية، كل ما فيها من أثاث وتجهيزات تم تصميمه بجمالية تعتمد البساطة.
هذه الغرفة واحدة من جناحين من الغرف المتشابهة، في مستقيمين متوازيين على طول البناية، وإلى جانب الحديقة الصغيرة مطعم، هو عبارة عن حجرة طويلة إلى حد ما، على عرض البناية، في طرفها الأيمن رف للمأكولات، وعلى الجدار المقابل عمل فني يغري بالمشاهدة وإعادتها لمرات. مدخل في وسط الجدار الخلفي إلى المطبخ الذي يمكن لكل شخص أن يدخل إليه، ويأخذ بنفسه ما يبحث عنه، أو يتسلم ما يطلبه من الطباخين.
يفد المدعوون غير مبالين لا بالأمطار ولا بالبرد. والمطعم يمتلئ. تحيات القدوم وتبادل التعارف. ابتسامات وحديث بالألمانية أو الإنجليزية. دفء في المكان وجدية في تبادل الكلام تتقاطع مع ضحكات. أخذ الجوّ شبه العائلي يغمرني وأنا أشاهد وأنصت أو أتكلم. صديقتي الشاعرة السويسرية إيلما راكوزة هي الأخرى مدعوة، ونحن معاً فرحان بتجدد اللقاء. شعراء آخرون أتعرّف لأول مرة عليهم. أولف شتولترفت (ألمانيا)، بربارة كولر (ألمانيا)، فرانزيزكا فوكسل (النمسا)، داغمارا كراوس (ألمانيا)، إيان غالبريت (سكوتلندا)، ماريون بوشمان (ألمانيا)، فيستون موازا موجيلا (الكونغو)، جوليا ترومبيتر (ألمانيا)، كاترين روغلا (النمسا)، كارتين كولر (أوكرانيا). هذا لقاء شعري مفيد، كتمت في نفسي. أنا هنا، في مكان فنيّ خالص، وفي وسط شعري منفتح على لغات. لا لغط ولا استهتار في الكلام. من جلسة إلى أخرى حديث متبادل عن أعمال وأسماء وأحداث. دواوين وكتب فنية، في طباعة بالغة الإتقان، تفتح وتعرض على الجميع. الشعر والرسم، أو الشعر والموسيقى والمسرح والفكر. يمكنك أن تنتعش وأنت تشارك في حوار شعري معرفي، منعش للحواس. على أنني لا أدري ما الذي جعلني أتيقّن من أن الثقافة الألمانية بآدابها وفنونها وفلسفتها تحضر في هذا اللقاء.

4.
في صباح السبت فاتح ديسمبر دعاني كل من مصطفى وأوسفالد إيجَر إلى جولة. بادر مصطفى بشرح ما أخبرني به في الطريق. «كانت هذه المنطقة قاعدة للصواريخ النووية، تم بناؤها من طرف حلف النيتو مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، على إثر نشوء الحرب الباردة». توقفنا في البدء عند مبنى دائري واسع من الإسمنت المقوى، منقسم إلى جزأين، لجدرانهما شكل زهرة من أربعة أوراق متفتحة. سقف الأول منهما معدني مقعّر نحو الأسفل، في وسطه فتحة صغيرة دائرية، والثاني سقفه قبة فتْحتُها إلى الأعلى. رؤية هذا الشكل المعماري الفني المزدوج تتركك واقفاً تتأمل جمالية التركيب الذي يتمتع بخيال متفرد. «هيا ندخلْ إلى البناية الأولى، بسقفها المقعّر»، قالا لي. كان عليّ أن أنحني انحناء حاداً لكي أصل إلى الدائرة المفتوحة. ومن خارج الفتحة تسمع صوتك مفخماً بأصدائه الموزعة عبر درجات علوّ الفضاء.
في المقابل قاعة فسيحة، هي ذاتها مستودع الصواريخ. لا شيء اليوم يوحي بما كانت عليه، باستثناء بعض التجهيزات القليلة المثبتة التي حافظ عليها المهندس المعماري حتى تبقى ذاكرة المكان حية. «هنا ستقام الأمسيتان الشعريتان». قال لي أوسفالد. جدار قصير أبيض خلف المنصة. طاولة مغطاة بإزار أبيض. مقاعد من الخشب وحده. في الجهة اليسرى مجلس في وسطه حاملة صور مقصوصة على شكل بطاقات بريدية، يمكن أن تختار لنفسك بعضاً منها. وفي الجهة اليمنى خوان طويل، خشبي، مغطى بإزار أبيض، لعرض مأكولات ومشروبات توزع على الحاضرين بعد نهاية الأمسية الشعرية.
كل شيء مرتب بفنية عالية. لا ثراء ولا تبذير هنا. فقط خشب الأثاث ونقاء الجدران البيضاء والإضاءة الجيدة. مكان يغريك بالرقص. حقاً، أحسست بأنني تهيأت للرقص. من داخلي راقص تقدم نحو وسط القاعة ولوّح بيديه. رفع قدميه واندفع باتجاه المنصة. كتفاي خفيفتان. وفوق رأسي قبعة، تخيلتها سحرية زرقاء اللون. لا أحد كان يراني. سقف القاعة يعلو نحو سماء تنبسط أمام عيني الثالثة. صمت كان يشملني وأنا أرقص بنفسي لنفسي.

5.
انتزعني نداء أوسفالد من شرودي عندما قال لي: «تعال نتابع الزيارة». بالقرب من القاعة مخبأ ضيق، هو مكان قذف رؤوس الصواريخ. إنه الآن مغلق بالباب الحديدي الصلب الذي كان له من قبل. باب لا تفتح. ولك أن تتأسّى لما كان يمكن أن يحدث، بمجرد إطلاق صفارة الإنذار. لاشك أن ضوءها كان أحمر. خطواتنا لا تتوقف. نتوجه نحو الأمام، عبر منافذ مختلفة، وأنت تسلك واحدة منها. ساحة واسعة، فيها ما لم تره في حياتك. فرنان لصهر الحديد، معروضان بضخامتهما، فيما طول قامتك لا يتجاوز خُمس أو سُدس الأكبر منهما.
لا نتوقف. مصطفى هو الذي يستمر معي في السير. عمارة ألمحها من بعيد، كأنها صندوق مربع الشكل، له فتحات كمداخل. اجتذبني بهاء العمارة. وعندما كنت أقترب سمعت مصطفى يقول «إنها إقامات الكُتّاب». المبدأ المعماري نفسه الذي يتجسد في دار الضيافة. لكنه هنا مستقل بذاته. كتلة مربعة منغلقة ومنفتحة في آن. وجميع الإقامات الأربع لها نوافذ من خارج العمارة ووسطها الفارغ. هنا، يمكن أن تقضي وقتاً طويلاً تستلذ مشاهدة العمارة في أشكالها المتبدلة، وأنت تتحوّل من جهة إلى أخرى، أو من زاوية إلى أخرى، كما لو كنت تشاهد منحوتة، لدرجة أنني نسيت أن أغادر المكان.
تحركت بصعوبة. ثم، وأنا أدير وجهي نحو العمارة، اكتشفت زاوية للنظر مختلفة لم أنتبه إليها من قبل. لكن هناك، أبعد بقليل، مبنى يحتضن مجموعة من الغرف والقاعات. هذا المكان بيت الموسيقيين. كنت أنصت وكأنني لا أنصت. سطح دائري مائل، والفتحة في الوسط هنا ثلاثية الأضلاع. تجاوبٌ بين العمارة الأولى وهذه دون أن يكون بينهما شبه أو تكرار. تدخل إلى هذه العمارة عبر سلم من الأدراج الدائرية، حتى تنتهي إلى مجاز مستطيل يوصلك إلى متوالية من القاعات. داخل أوّلها مجهز بطاولة وكراسي، وفي نهايتها مطبخ. هذه قاعة للاستقبال والأكل.
ووددْت لوْ أجلس قليلاً. غير أني فضلتُ متابعة السير نحو جناح ينزوي خلف الأشجار. مجموعة بيوت خشبية، يبدو أنها من فترة وجود الناتو، وهي اليوم عبارة عن محترفات للفنانين. دراجة مسندة إلى عمود خشبي. نافذة تظللها أغصان النباتات المزهرة باللونين البرتقالي والبنفسجي. هنا يقيم فنانون طيلة السنة، يشتغلون ويلتقون. من الجانب الخلفي نوافذ تظهر منها لوحات، منحوتات، أعمال هندسية، إطارات غير مستعملة. والفنانون يتمثلون لي أشخاصاً منهمكين في إنجاز أعمالهم. صمت يحيط بهم وهم يتحركون مع الضوء والنباتات والأزهار.

6.
جولة أولى، هي مدخل إلى التعرف على المنطقة. هُمْبْرويْش. جولات لاحقة في الطبيعة والمتاحف وبين إنشاءات فنية في الهواء الطلق، والمشي بحرية تحت سماء تدنو بغمامها من الأرض. بهذا تخيلتُني في لوقيون أرسطو بأثينا والمشاركين طائفة من المشّائين.
في صباح يوم الأحد 2 ديسمبر، ونحن على مائدة الغذاء، أخذ أوسفالد يجيب عن بعض أسئلتي وأنا أستفسره عن سر بذرة الحلم الذي ينشر جناحيه على شساعة وجمال هذا المكان، عن جنون مؤسسه، عن وجوده هو فيه، وكيف أصبح مسؤولاً عن تسييره. أسئلة يمكن أن تبدأ، لكنها تتوالد من تلقاء ذاتها وأنت تستسلم لها.
هكذا أخبرني أوسفالد أن المركز بجميع مرافقه هدية للسلم والفرح بالحياة، بعد أن كان من قبل منطقة عسكرية، مجهزة بالرؤوس النووية. مكان رمزي إذن. بدأت قصته الجديدة مباشرة بعد هدم جدار برلين سنة 1989، ورحيل حلف الناتو عنه. بقي المكان فارغاً، فسمع به الملياردير الألماني، الأرمني الأصل، كارل هاينريش موللر (1936- 2007)، هاوي الفنون وجامع الأعمال الفنية. كان هذا الملياردير في صباه ماسح أحذية. أمضى في المدرسة فترة قصيرة، بقي يتذكر مما تعلمه فيها جملة مفادها أن الفن ضروري للحياة. استثمر علاقته الطيبة بالناس وثقتهم به في مساعدتهم على كراء بيوتهم، ومن عمله المتدرج كسمسار نجح في فتح وكالات عقارية في كل من فيينا ولندن. وظف أمواله، وهو لا يزال شاباً، في اقتناء الأعمال الفنية لتكوين مجموعته الخاصة ولدعم الفنانين. في التسعينيات من القرن الماضي، اشترى على القرب من هنا قطعة أرضية من 25 هكتاراً، وقام ببناء أحد عشر رواقاً لعرض الأعمال الفنية، اعتماداً على تصاميم النحات إيروين هييريش (1922- 2004) الذي سماها «مُصلَّيات في قلب المناظر الطبيعية».
بعدما تم إفراغ قاعدة الصواريخ، بادر موللر سنة 1994 بالتوجه إلى حكومة ديسلدورف، واقترح عليها استعداده لتحويل المنطقة إلى ملتقى للفنون، فقوبل الاقتراح بالموافقة. وفي 1996 عرض تصاميم إعادة إعمار المكان في البيينال السادس للبندقية. وهي السنة نفسها التي جمع كلاً من المنطقة وأروقة الفنون ومجموعته من الأعمال الفنية في «مؤسسة جزيرة همبرويش» التي تمثل إحدى أكبر المبادرات الفنية في ألمانيا لدعم الثقافة والفنون، وتساهم اليوم في دعمها مدينة نويس Neuss وحكومة رينانيا الشمالية. بهذا تبدلت المنطقة من أرض خلاء وقاعدة للصواريخ إلى مركز ثقافي فني فريد في فضاء مفتوح على الطبيعة. هنا، أصبح إنتاج وعرض وتقديم مختلف التعبيرات الفنية والثقافية تجسد الأنشطة المحورية التي تتولاها المؤسسة. وهي بذلك تربة خصبة للفنون، للهندسة المعمارية، للأدب، للفلسفة، للموسيقى والعلوم المتصلة بالطبيعة.

7.
تعرف جزيرة همبرويش باسم جزيرة المتاحف. متاحف عدة موزعة عبر الغابة. ثمة مدخلان للجزيرة. الأول لاستقبال الزوار، به مكتبة وشباك للتذاكر، حيث يمكن للزيارة أن تمتد على مدى يوم كامل، مع تناول وجبة الغداء والمشروبات في المطعم، مقابل ثمن في متناول المواطن العادي. ويليه مدخل له شكل قلعة، يلزم أن تمر عبره إلى المتاحف. بناية عالية وفارغة، في وسط النباتات، كأنها نيزك سقط من السماء. جدران البناية مختلفة الأحجام، فتحاتها زجاجية تُشبع بالنور داخلها الأبيض، وسقفها عالٍ جداً. تنفذ إلى هذا المعبر وكأنك تجتاز مطهر دانتي. تترك فيه ما علق بك من أدران العالم لتنتقل بعد ذلك إلى صفاء الطبيعة وجلالة الفنون. حيرة تصيبك وأنت في وسط القاعة. حتى إذا نطقت متسائلاً عن وظيفة هذا البناء، أو باحثاً عن مصدر شهُبه المنيرة، سمعت صدى صوتك منحوتاً وصافياً كما لو كنت تعزف على آلة في قاعة للموسيقى أو تنطق بحوار على أرضية مسرح يوناني. صوتك يصعد ويلفك بدفء لا تعرف من أين يأتي.
مباشرة بعد الخروج من القاعة تقترب من متعة المكان. على بعد كل مسافة متحف ينتظر زيارتك. في شتى النواحي من المسار ماءٌ ونباتات وأصنافٌ من الطيور ومقاعد. ولك أن ترتاد المتاحف بكل حرية، إذ لا وجود لمشرف أو حارس داخل القاعات. أعمال فنية معروفة وأخرى لم يسبق لي أن شاهدتها من قبل لفنانين أعرف أعمالهم أو لم أسمع بهم من قبل. «كيف تصدق أن تكون هذه المتاحف من دون حراسة؟» سألت بعفوية. أجابني مصطفى بأن المسؤولين يريدون أن يعلموا الزائرين أن التحف الموجودة هي للجميع، وأن كل زائر هو الحارس الشخصي لها والمحافظ عليها.
عندما أكمل كارل هاينريش موللر بناء الفضاء الثقافي الفني، ارتأى أن يكلف شاعراً بإدارته. وقع اختياره على الشاعر توماس كيلنغ (1957- 2005) الذي كان من أشهر الشعراء الألمان، فسلمه المفتاح وذهب ليعيش بعيداً عن عالم المال. وفوْر إصابة توماس كيلنغ سنة 2002 بسرطان الرئتين، نادى على صديقه الشاعر أوسفالد إيجر. سلمه بدوره مفتاح المنطقة، وغادر إلى النمسا، حيث توفي. وها قد مرت حتى الآن ست عشرة سنة على تولي أوسفالد مسؤولية إدارة المؤسسة بكل محبة وتلقائية وانفتاح على شعراء وفنانين وكتاب من العالم.

8.
شاركت بقراءات في الأمسية الشعرية الأولى يوم السبت فاتح ديسمبر. امتلأت القاعة بروادها الأوفياء. قيل لي إنهم يحافظون على الحضور إلى هذا اللقاء الذي يقيمه أوسفالد سنوياً بمساندة من مجموعة من الأطراف والمؤسسات. كان الإنصات عميقاً. وكان وقع العربية مفاجئاً لجمهور لم يتعود على سماع الشعر العربي ولا على العربية. أصوات تتوالى من أمسية أولى إلى أمسية ثانية. والشعراء من أجيال متفاوتة، وبلغات وأشكال شعرية مختلفة، منها ما هو صادمٌ لمن لا يتابع الحركة الشعرية في العالم. أمسيتان ارتفع فيهما صوت الشعر وسط قاعة تحررت من وحشية السلاح النووي، ومن سيطرة روح العداء على النفوس، وتحولت إلى معبد حديث، يحتفي بالجمال والسلم والتسامح والحرية.
انتهى اللقاء الشعري بغرس شجرة، قال عنها أوسفالد إنها نداء لآخرين قد يأتون ذات يوم ليغرسوا أشجاراً أخرى، ويكون المكان لاستقبال الوافدين. في صبيحة الاثنين، غادرت هُمْبْرويْش وأنا كلي تعلق بهذا المكان الذي لا يمكن أن يمثل لي إلا أقصى الحلم، أحمله معي.