حين اصدر عبد الرحمن الكواكبي كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” في القاهرة، أخفى اسمه وتوقيعه على الكتاب، واكتفى باسم “الرحالة ك”، وكان مفهوماً أن الكواكبي أخفى اسمه خوفاً من رجال وعسس السلطان عبد الحميد طاغية الدولة العثمانية، ويبدو أن الكاتب لم يكن يتخفى باسمه إذا انتقد الحكم والحاكم فقط، لكن خوفاً من غضب المجتمع، وللمجتمع سلطان قوي أيضاً، وهكذا وجدنا د. محمد حسين هيكل يصدر روايته “زينب” ويخفى اسمه وتوقيعه مكتفياً بلقب “فلاح مصري”. ويبدو أن هذه الظاهرة امتدت في الأدب العربي حتى منتصف القرن العشرين، ففي ديسمبر من عام 1947 صدرت في مدينة حلب السورية رواية “من المجهولة إلي مايا” ومكتوب عليها تأليف ع. آل شلبي، والمقصود هنا الكاتبة السورية عطيات. آل شلبي، وليس واضحاً لماذا أخفت اسمها، بينما ذكرت اسم العائلة، هل لم يكن المجتمع السوري يحتمل ظهور اسم الكاتبة، ويفضل الإخفاء؟ الشواهد تقول غير ذلك، كانت هناك أسماء معروفة من الكاتبات مثل مي زيادة. ووداد سكاكيني وعدد آخر غير قليل من الكاتبات المصريات والشاميات كانت أسماؤهن تظهر في الصحف وعلى أعمال أدبية وتقبلها المجتمع العربي كله منذ منتصف القرن التاسع عشر مع عائشة تيمور وزينب فواز. ترى هل أخفت “عطيات” اسمها خوفاً من أن يظهر على رواية، خاصة إذا كانت متأثرة فيها بالمدرسة الوجودية التي كانت ذائعة الصيت وقتها..؟ أم أخفت الكاتبة اسمها بنوع من الدلال الأنثوي والرغبة في تشويق القارئ، وجذب انتباهه إلى العمل، خاصة أن للكاتبة عملاً آخر ظهر وعليه اسمها؟! الرواية أعيد طبعها مؤخراً في القاهرة ضمن سلسلة رائدات الرواية العربية، بتقديم ودراسة د. سليمان العطار الأستاذ بجامعة القاهرة، وهو يرى أن الكاتبة هنا متأثرة بوجودية جان بول سارتر، لأنها كانت تقيم في باريس، “من المجهولة إلى مايا” تصنف على أنها رواية، هكذا في الدراسات النقدية العربية، اعتبرها د. حمدي السكوت في بيبلو جرافيا الرواية العربية، لكن قراءة الرواية لا تقودنا إلى ذلك بالضبط، نحن لسنا أمام رواية بالمعنى المعروف، لكننا أمام تأملات إنسانية وفلسفية، تمت صياغتها بأسلوب أدبي رفيع، نحن طوال الوقت أمام بطل أو بطلة، أي إنسان مجرد يتحدث مع نفسه ومع هواجسه ويتخيل بين حين وآخر أحدا يكلمه ويتحاور معه، ثم لا يلبث أن يقوم هو بعملية سرد مع نفسه أو مع حاله كما يقول العوام، الكاتبة تعمدت ألا تسمي البطل أو البطلة، تعمدت أن تتركها مجهولة الاسم، أي إنسان مجرد. تقول “ع” في بعض تأملاتها هنا “إن ما يسيطر على عالمنا الإنساني هو الشهوة.. الشهوة الطليقة والشهوة السجينة، ينشر المباح لأنه مباح على الناس وعلى ما يسمونه الخير. والممنوع -لأنه ممنوع- مصدر ما اعتادوا أن ينعتوه: الشر”. وفي سياق آخر تقول “ما نظامكم؟ ما قيمكم؟ انه يعطي الخوف ويأخذ المتناول بالخوف، إنكم تجهلون أن الشرع لا يوجه أوامره، إلى الذي يستطيع أن يتجاوز عن تعاليمه”. قراءة هذا العمل ـ الآن ـ مهمة ومفيدة، هو يكشف عن أن هناك من كان يتابع الثقافة الغربية لحظة بلحظة، مما يعني انفتاحاً كاملاً، وبلا شك تلك اللحظة كانت موزعة ثقافياً وفكرياً بين الفلسفة الوجودية والفلسفة الماركسية، وكل كان لها أنصار في عالمنا العربي، ويذهب د. العطار إلى أن نشر هذا العمل في حلب يعني أن المجتمع السوري كان مستقبلاً لهذا الفكر، وهذا القول يحتاج إلى مراجعة، فنحن لا نعرف على وجه الدقة كيف استقبل هذا العمل في الأوساط الثقافية ولا كم عدد النسخ التي طبعت منه وأرقام التوزيع، وكيف استقبله النقاد داخل سوريا وخارجها، غير أن الأمر لا يدعو إلى التفاؤل، فقد طبعت الرواية سنة 1947 -وصدرت في شهر ديسمبر- ولم تطبع مرة ثانية ولا نجد لها ذكراً بين النقاد .