ظلت إدارة أوباما ترفض لسنتين كاملتين تسليح المعارضة السورية المعتدلة التي تقول إنها تدعمها، خوفاً من أن تنتهي الأسلحة في أيدي المتشددين الإسلاميين، ولكن في انقلاب على هذا الموقف، بدأت الإدارة الأميركية، تحت ضغط الرغبة في إنقاذ سياستها الفاشلة في سوريا، في مغازلة الإسلاميين الذين كانت تخشاهم وأخذت تخطب ودهم؛ فقد تمكن تحالف إسلامي قوي تشكل حديثاً يطلق على نفسه «الجبهة الإسلامية» من إجبار الإدارة الأميركية على مراجعة حساباتها عندما استولى على مقر اللواء سليم إدريس، قائد أركان الجيش السوري الحر المعتدل الذي تدعمه الولايات المتحدة. وهذه الخطوة التي أقدمت عليها «الجبهة الإسلامية»، أخذت المسؤولين الأميركيين على حين غرة، لا سيما في هذا التوقيت الذي تسعى فيه الإدارة الأميركية للدفع بمحادثات السلام بين النظام والمعارضة من خلال مؤتمر جنيف الثاني باعتباره الأساس الذي تنبني عليه السياسة الأميركية في سوريا خلال المرحلة الراهنة. وإلى حد الآن، عارضت «الجبهة الإسلامية» تلك المباحثات المزمع عقدها في شهر يناير المقبل لأنها من وجهة نظرها عديمة الفائدة وغير ذات جدوى. ومع هذه التطورات الأخيرة التي حيدت اللواء إدريس وعرضت الجيش السوري الحر للإهانة والإذلال إثر اندحاره أمام مليشيات إسلامية، لم يعد نظام الأسد يشعر بضغط عسكري يدفعه إلى تقديم تنازلات. ولذا وعلى ضوء هذه الأحداث، صرح وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، يوم الثلاثاء الماضي، بأنه «من الممكن» أن يلتقي مسؤولون أميركيون مع «الجبهة الإسلامية»، بحيث يأمل الأميركيون أن تغير الجبهة مواقفها الرافضة لمؤتمر جنيف 2 وتوافق على إرسال ممثلين عنها إلى سويسرا. ولكن الأميركيين مع ذلك غير متأكدين تماماً من أهداف الجبهة ولا تصورها لمستقبل سوريا في المرحلة المقبلة. وهذا الغموض وقفت عليه شخصياً بعد أربعة أيام قضيتها على الحدود التركية السورية، وتحدثت فيها إلى مجموعة من المصادر المدنية، وأخرى في صفوف الثوار، وانتهيت إلى عدد من الخلاصات المهمة، أولها أن قادة «الجبهة الإسلامية» التي هي عبارة عن خليط من المليشيات الإسلامية، استراتيجيون في تفكيرهم، فهم كانوا في البداية ضمن المجلس العسكري الأعلى الذي يشرف عليه اللواء إدريس، غير أنهم خرجوا عليه لرغبتهم في الاضطلاع بدور أكبر. وبما أنهم فشلوا في الوصول إلى هذا الدور عن طريق الحوار والمفاوضات داخل المجلس، فقد قرروا الانسحاب منه قبل أسابيع عدة وتشكيل تنظيم إسلامي جديد، لتأتي عملية الاستيلاء على مقر الجيش السوري الحر بحيلة تشبه إلى حد كبير عملية حصان طروادة، حيث دبرت الجبهة هجوماً على المقر لتبدو لاحقاً وكأنها جاءت لتنقذه، ولكن ما أن أصبحوا داخله حتى سيطروا عليه، باعثين برسالة واضحة إلى الثوار المعتدلين ومؤيديهم في الغرب، بأنهم باتوا يحكمون القبضة على الأمور، أما اللواء إدريس فهو يستطيع البقاء في التركيبة السياسية، ولكن عسكرياً قضي عليه أيضاً. وفيما عدا الجانب العسكري الذي تسيطر عليه الجبهة، تريد أيضاً أن تقول من خلال تحركها الأخير إن عليها أن تكون القوة الأولى المشاركة في العملية السياسية والحكومة الانتقالية بعد سقوط الأسد، وكما أخبرني مصدر مطلع في صفوف الثوار، تزعم الجبهة أنها تشكل ما يقارب 65 في المئة من القوى المقاتلة للنظام، وتعتقد أنها ستجتذب مزيداً من المقاتلين مع مرور الوقت، وأضاف المصدر قائلًا «إنهم يريدون السيطرة على كل شيء، ومع أن قائد الجبهة، زهران علوش، قد يطمح لتولي منصب قائد قوات الثوار، وقد لا يطمح أيضاً، إلا أنه بالتأكيد يرغب في تحديد من سيكون هذا القائد»، وربما تسهم المفاوضات الجارية حالياً بين اللواء إدريس وعلوش في توضيح مطالب الجبهة والمدى الذي ستذهب إليه. ثم هناك الخلاصة الأخرى التي خرجت بها من لقاءاتي مع الثوار والمدنيين والمتمثلة في تركيز الجبهة على مسألة «الدولة الإسلامية» وتطبيق الشريعة، حيث تظل مواقفها تجاه الديمقراطية والانتخابات واحترام الأقليات ملتبسة وغير واضحة، فمفردات الجبهة مغرقة في طابعها الديني، أما القيم التي تدافع عنها الولايات المتحدة، مثل الانتخابات الحرة واحترام حقوق النساء والأقليات، فلا وجود لها في ميثاق الجبهة، وهو ما دفع كيري للقول «إننا نود استيضاح هذه الأمور إذا التقينا، وآمل أن نلتقي»، وإنْ كان من غير المرجح أن تروق أجوبة الجبهة عن تلك الأسئلة لكيري والأميركيين. ولكن اللافت من خلال ما لاحظت، أن «الجبهة الإسلامية» تعارض بشدة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المسمى «داعش»، المرتبط بـ«القاعدة» الذي يسيطر على مناطق سورية باعتباره تنظيماً دخيلاً على البلد. ومع ذلك، من المهم التأكيد أنه خلافاً لآمال الولايات المتحدة، فإنه من غير الوارد أن تتصادم الجبهة مع «داعش» في المرحلة الراهنة، فحسب محمد خير الوزير الذي درس مع زعيم الجبهة زهران علوش وقضى معه سنوات في المعتقل «لن تدخل الجبهة في صدام مع داعش، على الرغم من عدم اعترافها بها، وتفضل إسقاط النظام أولاً». وأخيراً لا بد من الاعتراف، وهذا أيضاً ما خلصت إليه في لقاءاتي، بأن الولايات المتحدة هي من أدخلت نفسها في هذه الورطة، فبرفضها تسليح المعارضة المعتدلة، فيما كانت خزائن بعض الجهات مفتوحة أمام التنظيمات الإسلامية، أسهمت أميركا في خلق فراغ استفاد منه الإسلاميون، والنتيجة أن واشنطن اليوم باتت في حاجة إلى هؤلاء الإسلاميين لدعم المجلس العسكري السوري المتشظي، وتحويله، ربما، إلى ما يشبه جيشاً حقيقياً. والحال أن «الجبهة الإسلامية» ليست مضطرة للانتباه لما تريده أميركا، وبالأخص مقابل الدعم غير الفتاك الذي تعرضه. كما أنه من غير الواضح مشاركتها في مؤتمر جنيف 2 أو دعمها للمفاوضات. وهذا التخبط الأميركي أجمله العقيد عبدالجبار العقيدي، القائد السابق للمجلس العسكري الأعلى، قبل أن ينسحب بسبب إحباطه، حيث يقول: «حتى هذه اللحظة لا نفهم ماذا يريد الأميركيون، تقولون إنكم خائفون من الإسلاميين، ومع ذلك لا تدعمون المعتدلين، والآن تهرولون للحديث معهم لأنهم باتوا الأقوى في الساحة!». ترودي روبن محللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»