بعيداً عن أرض الميدان، تثار أزمة الجيش الأميركي في العراق بأبعادها الأخرى، فالجيش توجّه إلى العراق من دون ''عقيدة''، وهي مسألة بالغة الحساسية بالنسبة له، فلم توضع هذه العقيدة إلا في عام 2006 وبمبادرة من القائد الحالي للقوات الأميركية هناك الجنرال ''ديفيد بتراوس''· وفيما يبلغ عديد الجيش 1,5 مليون جندي، فإن أكثر من ثلثي العدد هم من··· جنود الويك اند· ماذا إذا اضطرت الولايات المتحدة، مثلاً، لخوض حرب ثالثة؟ هل وصلت هذه البرقية العاجلة إلى البيت الأبيض: ''لقد زال الاتحاد السوفييتي أيها السيد الرئيس؟''· ربما ضاعت البرقية في مكان ما، حسب الباحث الروسي في السياسات الأطلسية ''نيكولاي تشيرينوف''، الذي تساءل: ''لماذا تردّون على أزهار اللوتس بالصواريخ؟''· هذا رأي روسي على هامش قمة الثماني التي عقدت، أخيراً، في منتجع هالينجدام الألماني· في الولايات المتحدة تأخذ الأمور منحى آخر، فالحرب في العراق، وكما يقول المعلق ''فريد كابلان''، أثبتت ''أننا أفرطنا في استخدام الخيال عندما ظننا أن الحرب المقبلة ستكون مع كائنات من كوكب آخر''· والنتيجة ''أن الإمبراطورية تبدو وكأنها من دون أقدام''· لا ينفي ''كابلان'' ''أن الذين نحاربهم - أي عناصر القاعدة - ينتمون إلى كوكب آخر''· ولكن ليس من النوع الذي أعدّ له المخططون الاستراتيجيون، إذ انه بعد انتهاء الحرب الباردة ''كان يفترض أن نحدد، بعقلانية وواقعية، مَن هم أعداؤنا''· هؤلاء الأعداء يمشون على الأرض ''ويفترض أن تمشي مثلهم على الأرض''· العقيدة المشكلة، وحسبما يكتب الجنرالات والخبراء والباحثون والمعلقون ما دام الجدل قد وصل إلى ذلك الحدّ، لا تقتصر على نوعية الأداء العسكري، فالولايات المتحدة لا تقتفي أثر ''جنكيز خان'' وإنما أثر ''جورج واشنطن''، وعلى هذا الأساس، كان يفترض أن تبنى عقيدة للجيش الأميركي· هذا ما يحصل في كل الجيوش، وكان مستغرباً للغاية ألا يحصل هذا إلا في يونيو عام ·2006 العقيدة تتعلق بفلسفة مواجهة تمرّد، أو عصيان ما في أي منطقة من العالم لم يوجد فيها الجيش الأميركي لأغراض استراتيجية· اللذان وضعا العقيدة في كراس يتألف من 241 صفحة هما الجنرال ''ديفيد بتراوس''، قائد القوات الأميركية في العراق، وكان آنذاك قائداً للفرقة 101 المحمولة جواً، والكولونيل ''كونراد كرين''، مدير معهد التاريخ العسكري· جوهر العقيدة هو التكامل بين العمليات المدنية والعمليات العسكرية، إذ بموازاة مواجهة تمرّد يفترض إعادة بناء مجتمع، وحماية السكان، وتعزيز شرعية الحكومة، وتدريب الجيش الوطني لمواجهة حرب العصابات، فالمتمردون يربحون عندما ينشرون الفوضى، والفراغ، والحكومة تفشل حينما لا تستطيع أن تنشر النظام في كل مكان· إنه قسطنطين ويلاحظ الخبراء أن ما يفعله الجيش الأميركي مناقض للمبادئ التي تضمنها الكرّاس، وإن حاول الجنرال ''بتراوس'' استدراك بعض الأمور· ومن هذه المبادئ: كلما بالغت في حماية قواتك كلما كانت أكثر قابلية للعطب، وكلما أكثرت من استخدام القوة كلما فقدت فاعليتها، فالعملية التي يقتل فيها خمسة متمردين قد تحدث أضراراً تجذب خمسين آخرين للانخراط في التمرّد، وهو ما يقتضي عدم الإفراط في ردّة الفعل، فليست الخوذة التي تفكر بل العقل الذي تحت الخوذة· ما ورد في الكراس يوضح أن حرباً من هذا القبيل لا بد أن تكون طويلة، وهي تستوجب إدارة سياسية كبيرة، مع الحد الأدنى من الصبر، إضافة إلى إنفاق الكثير من الوقت والموارد، ليلفت، أخيراً، إلى انه عندما تفقد الحرب شرعيتها الأخلاقية، فهذا يعني، حتماً، خسارة الحرب· لا ريب أن وزير الدفاع السابق ''دونالد رامسفيلد'' تصرف كما لو أنه ''يوليوس قيصر''· هذا ما يقوله الجنرالات، وإن كان آخرون يقولون انه يشبه ''قسطنطين'' الذي كان يعتقد أن الإمبراطورية لا تحتمل أكثر من رأس واحد، لذلك قتل حليفه وصهره وابن شقيقته على الرغم من صفحه عن زوجها، فيما يكشف جنرالات عن أنهم وضعوا أمامه أفكاراً لو أخذت بالاعتبار لما كان ذلك الانزلاق الكارثي نحو المستنقع· كان يفكر بطريقة أخرى، ومن دون أن يعنى كثيراً بأسلحة البر· لا أحد أخذ في الاعتبار أن الجيش الأميركي كان يتألف إبان الحرب الفيتنامية (1963 - 4791( من أربعين فرقة، وعندما انهار المعسكر الاشتراكي (1989 - 1991( انخفض العدد إلى 28 فرقة، أما الآن فقد استقر الرقم على 18 فرقة· جنود الـ''ويك اند'' وإذا كان الجيش يتألف من 1,5 مليون جندي، فإنّ أقل من الثلث يعمل في وحدات مقاتلة فعلاً· والأكثر إثارة للقلق أن هناك فقط 200 ألف جندي من أسلحة البرّ والمارينز التي خضعت لدورات قتالية، فيما نجد الآخرين إما من الحرس الوطني أو من الاحتياط· الحرس الوطني يرتبط بالولايات الفيدرالية، والاحتياط يخضع للبنتاجون· هؤلاء تطلق عليهم تسمية ''جنود الويك اند''، وهم يشكلون 45 في المائة من عديد الجيش، والجنرال ''جيمس هيلمي'' الذي يأمر 204 آلاف جندي احتياط قال في مذكرة له أن هؤلاء الجنود يتحوّلون، تدريجاً، إلى قوة منكسرة· بالطبع، اعتمدت صناعة الجنود على البُعد التكنولوجي، وحيث يعتمد أي جندي في سلاح المدرعات أو في سلاح المدفعية على أجهزة بالغة التطور، لكن المشكلة ''هي في أننا نشعر أحياناً كما لو أننا نقاتل الأشجار أو الصخور أو حتى الوحول''· هذا ليس مبرراً على الإطلاق· الجندي هو الجندي وينبغي أن يضع نفسه أمام كل الاحتمالات، كما يقول ''مايكل اوهانلون''، من معهد ''بروكينجز'' الذي يضيف انه ''كان يفترض أن ندرب جنودنا على الحرب العالمية الثانية لا على الحرب العالمية الثالثة''، إذ ليس هناك من قوة في العالم هي بالمستوى التكنولوجي للولايات المتحدة، وعلى هذا الأساس لا بد ''من أن نعرف كيف يقاتل الآخر الذي قد يكون حافياً، لكنه يعرف كيف يختبئ، وكيف يلوذ بالفرار، وكيف يفاجئ العدو''· الاستنساخ والجنود الآليون هذه إمبراطورية ولها التزاماتها الكونية، كما يقول النائب الديموقراطي ''تشارلز رانجل'' الذي حارب في كوريا في مطلع الخمسينات من القرن الماضي· ماذا إذا كان على الولايات المتحدة أن تخوض حرباً ثالثة بعد أفغانستان والعراق؟· لا وقت للاستنساخ، كما أن إنتاج جنود آليين ما زال مبكراً، فيما يقتضي تجنيد عشرات الآلاف، وهذه ليست مسألة سهلة ما دامت الحاجة تتركز على جنود محترفين، لماذا لم يفكر البنتاجون هكذا؟ في البنتاجون رجل يدعى ''روبرت جيتس''· قبل أن يتسلم منصبه خلفاً لـ''رامسفيلد'' كان يرى أن عدد الجنود في العراق إحدى المشكلات الأساسية، بل إنه نقطة الضعف الرئيسة وسط تلك المساحة الشاسعة: ''لم أقل إننا يجب أن نكون وراء كل حجر، لكن المؤكد أن ما يحتاجه وضع معقد، وغامض، وشديد الاضطراب، قوة ضاربة تتجاوز المائتي ألف جندي''· لم يحدث هذا، قد تكون القراءة خاطئة، ولكن ما فائدة القاذفة ''ف-''17 حين تنطلق النيران من أحد الأزقة، أو من وراء أشجار النخيل؟!· هل فات الأوان لتصحيح الخطأ؟ ''أورينت برس''