تُفصح مجموعة المعارض الدولية، التي احتضنتها الدورة الخامسة عشرة لمهرجان الفنون الإسلامية بالشارقة عن تنوع بصري قادر على إحداث المواءمة بين الفنون الغابرة والآنية، عبر اتكاءات تقنية تلعب دوراً وسيطاً بين ذهنية الفنان وعين الرائي، مع احتفاظها ـ في الوقت ذاته ـ بأسانيد ضابطة للمكونات البصرية في علائقها المتواترة، ضمن الحيز القائم على هيئته المسطحة أو ثلاثية الأبعاد. وفي هذه الدورة تتجاور أعمال فنية من شرق العالم وغربه ضمن ستة عشر معرضاً دولياً، عملت إدارة الفنون على انتخابها للمشاركة في مهرجانها الذاهب نحو النصف الأخير من عقده الثاني، وقد ارتكز على هوية تُقيم وجودها بين اتجاهين يركن أحدهما للفن في شكله الرصين، بينما يتوثب الآخر مواكباً معطيات العصر الرقمية. تحاول هذه القراءة التحليلية أن ترصد بشكل موجز أهم الملامح، التي شكلت مادة تلك المعارض الدولية، على أن نقدم لاحقاً بعض القراءات الموسعة لأبرز ما تم عرضه من أعمال خلال هذه الدورة من المهرجان. في معرض “الموروث الحالي” للفنان فايق أحمد من أذربيجان تأتي معلقات السجاد ومجسماته، ضمن بنية معاصرة تنطلق من إرث ماضوي زاخر بنماذج لا حصر لها من السجاد الشرقي، نحو إنتاج نمط جديد من سجاد لم تألفه العين سالفاً، كونه لا يخضع في بنيته لأنساق اعتيادية ميزت نتاج السجاد في مظهره التقليدي، وطبعته في كثير من الأحيان بسمة التماثل وتكرار وحدات الزخرف والأشكال، عبر مسطحاته النسجية المشغولة بتمرس القائمين على رعاية هذا النوع من الفنون التطبيقية المتميزة في حضارة الإسلام. فيذهب فايق أحمد في أعماله إلى كسر البنية المعتادة لصالح مبتغى محدد يتجاوب مع الزمنية البصرية الراهنة مستعيناً في طريقه ذاك ببرامج ومؤثرات رقمية تتيح له تقديم تصرفات جديدة في تناوله لموضوعة السجاد، من خلال التحوير في أشكالها ليعبر مثلاً عن (لزوجة مستحيلة) في واحدة من القطع المعروضة التي تحمل ذات الاسم، وفيها تبدو السجادة المعلقة كما لو أنها قد صنعت من مادة مطاطية لزجة نتيجة لوقوعها تحت تأثير شد وجذب من طرفيها المتقابلين، حد أنها تفتقد تماسكها كمسطح مصمت لتتفسخ رويداً، وتبعاً لذلك تتبدى في ثناياها مجموعات من الفراغات البينية، كما أنها تخضع - في الوقت ذاته- بكامل تفاصيلها وألوانها وزخرفها وتتداعى مكوناتها تحت هيمنة ذلك التأثير الحركي المحاكي للمعاني المراد تحققها. أما ما طرحه مواطنه فريد روسلوف في معرضه “سجاد الداخل” فهو لا شك يبدو من الابتكار والتجديد بمكان في طرائق تناول السجاد واستلهام مفرداته التشكيلية، ضمن أعمال مفاهيمية نُفذت بتقنية البرامج الرقمية ثلاثية الأبعاد، عبر عرضين مرئيين يصاحبهما مجموعة من اللقطات الطباعية الحاوية لتصورات الفنان عن غرف النوم، المطبخ، غرف الطعام والمعيشة المكسوة في مكونها المعماري والمكاني بوحدات من سجاد ونقوش مستقاة عنه، فيما تنتثر في ثنايا تلك الأماكن الداخلية المعبقة بالزخرف واللون مجموعات بيضاء اللون لزواحف، أسود، طيور، إضافة إلى كائنات بحرية، تتباين في مظهرها وطبيعتها وحركتها مع أجواء المكان المشحوذة بفيض من التفاصيل الدقيقة، لتقودنا بطبيعة الحال في البحث عن رمزية لا يعتد الفنان ذاته بوجودها، في وقت تكتسب فيه هذه الأماكن معانيها ودلالالتها وفق ما يحتشد في أرجاءها من كائنات. ويأتي سجاد الفرنسي جوناثان بيرشيناك مستلهماً لسجادة الصلاة الإسلامية، التي يعكف على رسمها بأقلام الحبر الجاف فوق مسطحات ورقية ذات قياسات مماثلة للسجادة الواقعية، محاولاً جهده في بناء مسطحات زخرفية متنوعة تحتشد في تلابيبها بعض التأثيرات البصرية المضنية، التي تتطلب من الفنان بذل مزيد من الجهد وإنفاق الوقت لإكمال رسم سجادة واحدة، قد يستمر في رسمها لمدة تصل إلى العام ونصف العام. بينما يلهو رشاد ألكبروف من أذربيجان بالظلال، في مجموعة أعماله التركيبية الواردة ضمن معرضه الشخصي “أربع كلمات من الشرق” ناسجاً في أحد أعماله وحدة من زخرف هندسي التكوين، وفي عمل آخر تشكلت كلمة (نور) بالعربية، إضافة لمشهد عام لمدينة شرقية تمتاز بقبابها ومآذنها، تجاورها مدينة أخرى غربية الطابع وحافلة بمجموعة من الأبراج والعمائر الشاهقة، حيث يعتمد ألكبروف على تجهيز فراغي لمجموعة أخشاب وعلب وزجاجات وبقايا أشياء حياتية تتوافق أمام مصادر ضوء أحادية أو ثنائية في سبيلها لإنتاج تصورات ظلالية تسعى لمحاكاة الطبيعة واللغة. واعتماداً على معطيات الظل أيضاً جاءت أعمال الفنان الأمريكي الجنسية باباك غولكار على نحو مقارب لألكبروف، فقد صاغ ظلاله المسطحة والمصمتة أيضاً بتوجيه مصادر الضوء نحو سلسلة براويز مجهزة في هيئة ناقصة وغير مكتملة، لتمنح الرائي بعض الأشكال المصمتة لظلال مدهشة قوامها واجهات معمارية شهيرة، من أبرزها تاج محل، برج آزادي، مسجد آيا صوفيا. وتتسم الصور الفوتوغرافية للإيراني باباك كاظمي بغرابة التأليف، من خلال مُضيها في منحيين تستلهم في أحدهما روح الموروثات الفارسية الواردة في قصة العشق الأسطورية الدامية بين شيرين وفرهاد، ما أتاح للفنان التعبير عن جوانب عديدة منها مع تصرف سوريالي في حشد مفردات معاصرة تُحاكي المعنى، وتنأى عن الرسوم الواقعة ضمن منمنمات سالفة عنيت بتصوير مشاهد من هذه المخطوطة الشهيرة، أما المنحى الثاني فقد ارتكزت صُوره على الإفادة من عجائبية مغامرات (أليس)، مستبدلة في منحاها ذاك بلاد العجائب بموطن الفنان، وما يتضمنه من معالم مكانية تخيرها بما يتوافق مع مضامين لوحاته العاكسة لواقع المجتمع ومشكلاته. من المنمنمات الفارسية نسجت الإيرانية سودي شريفي مجموعتها المعروضة تحت عنوان “ألحان منمنمة ولحظات كبرى” مستعيرة الكثير من الرسوم في هيئتها الأصلية، مع إضافة بعض شخوص فوتوغرافية معاصرة المظهر تتبدى خلال مسطح المنمنمة، بما تتضمنه من حدائق وشرفات إلى جانب الحجرات الداخلية وكافة جنبات وأرجاء العمائر ومسابح القصور والفضاءات وحتى الأماكن الخلوية، مؤلفة بذلك جملة من رسائل بصرية كاشفة لقضايا مجتمعية وسياسية تتعلق بواقع الحياة في موطن الفنانة. في حين يلتقط الفنان القطري على حسن “خيول الصحراء” طارحاً رؤية بصرية جديدة، ضمن مشروعه التشكيلي المتدثر في عمومه بتجريد حروفي قادر على التحريض واكتشاف طاقات الحرف والشكل، إضافة إلى نجاحه في خوض غمار التجريب وتقديم مجموعة من المجسمات التي نراها لديه للمرة الأولى، وهو ما يؤكد سعي الفنان ورغبته الحثيثة نحو اكتشاف مسارب لا شك في أنها قادرة على دفعه للتمايز والارتقاء. ويسعى حسن في معرضه لقراءة واقع الثورات العربية، من خلال تخيره للخيل بما يحمله من قيمة رمزية قادرة على مكاشفة الواقع المنهك والمتردي لشعوب عربية تسعى لاسترداد وجود وكرامة غائبين، دون أن يفوته عرض مجموعة من لوحاته الحروفية المستندة بكليتها على حرف النون وما يختزنه في جوفه من أسرار وطاقات تحريضية أمكن لها أن تطبع عمل الفنان بخصوصية وتفرد باديين. فيما تتخير السورية رزان صباغ في معرضها “نعكاسات” المرأة كمحور رئيسي لأعمالها القائمة على معالجات رقمية وطباعية، تستعير خلالها الزخرف والمكون الفوتوغرافي لتعبر عن حالات وقضايا ترتبط بواقع المرأة في المجتمعات الشرقية، ومدى تعاطيها وتفاعلها مع عوالم الروح وكذا مفردات الحياة، بخلاف ما تحاوله الفنانة في سعيها المتواصل لمناقشة ما يعن لها من أفكار كبرى ترتبط في عمومها بالوجود الإنساني ومآلاته ةتحولاته ضمن حركة الزمن. وتعد تجربة البريطاني روح العالم تعلقدار في معرض “أسود وأحمر” من التجارب بسيطة التكوين، فهي تقوم فقط على إنتاج علاقات تصميمية بين مجموعة من الأحرف والكلمات العربية المصطبغة باللونين الأسود والأحمر، في أسلوب تغلب عليه المباشرة وروح التجريب الساعية بشكل أو بآخر لتلمس طريقها الإبداعي. أما معرض “قوالب خطية من مصر” فقد شغل مكانة خاصة بين معارض المهرجان، لما لمجموعة القوالب المعروضة من ندرة وتاريخ يمتد لأكثر من مائتي عام، وهي من المقتنيات الخاصة للخطاط إبراهيم المصري أحد رموز الخط العربي بالأسكندرية، وأخيه أحمد المصري، وتعود بعض هذه القوالب لخطاط الحرم عبدالله بك الزهدي، كما أنها استخدمت في كتابة كسوة الكعبة، وهي التي ظلت تخرج من مصر في احتفالية كبرى يتصدرها المحمل حتى توقفت تلك الرحلة السنوية في العام 1962، وبدأت السعودية في صنع الكسوة داخل المملكة. ومن أعمال الأخوين محمد وكامل إبراهيم ووريثهما إبراهيم المصري تألفت مادة معرض “خطوط مصرية” الذي يمثل حقبة رئيسية من حقب تاريخ فن الخط العربي في مصر، حيث تنتمي أعمال المعرض أسلوبياً لمدرسة محمد إبراهيم للخط العربي بالإسكندرية، والتي تُعد ثاني مدرسة تم إنشاؤها للخط العربي بعد مدرسة تحسين الخطوط الملكية بالقاهرة، وقد أمر بإنشائها الملك فؤاد الأول في عام 1922 وقام محمد إبراهيم بإنشاء المدرسة بعد حصوله على دبلوم الخط من مدرسة القاهرة عام 1933. وطرحت التركية غولهيس ديباتس مجموعة من اللوحات، التي قامت بتذهيبها على الطريقة التركية مع ميلها في عدد قليل لاستخدام النمط الزخرفي العربي عاكسة خبراتها الكبيرة المتعلقة بإجادة توزيع العناصر، والوحدات، والألوان، وضبط العلائق واتساقها ضمن الفراغات المحيطة. وعن حوار الثقافات بين الشرق والغرب جاءت أعمال الأمريكي إريك بارنس تحت عنوان “الاستشراق الجديد” الذي تدور أعماله في فلك العلاقات الكائنة بين الشرق والغرب، مع محاولتها التعبير عن تمازج الثقافة والهوية الحديثة، من خلال أعمال طباعية ولوحات زيتية ومجسمات من البورسلين، تم إضافة علامات تجارية عالمية إليها للتدليل على الواقع الاستهلاكي السائد في الشرق بطبيعته اللاهثة، بضراوة ودون كابح خلف المنتج الغربي المهيمن على ذهنية الإنسان الشرقي. كما قدم التركي سيفان بيتشاكتشي المعروف عالمياً بملك الخواتم مجموعة من الخواتم النفيسة في معرض “المدينة في خاتم”، وهي من المنتجات التي تنتمي للفنون التطبيقية القادرة على الإفادة من معطيات فن العمارة عبر تصميمات صُنعت في الأساس للتزيين كونها قطع من الحلي النادر. كذلك كان للهند حضور في المهرجان بمعرض عنوانه “الخطوط الإسلامية في الهند”، وقد قام على مجموعة مختارة من مقتنيات جي إس خواجة، مدير قسم النقوش بمنظمة المسح الأثري الهندية، ويعكس جانباً من روائع الخط العربي الإسلامي في الهند، من خلال صور لقطع حجرية وعملات وورق. وختاماً يمكن القول بأن مهرجان الفنون في دورته الخامسة عشرة قد اهتم بشكل كبير بعرض مختارات من الفنون التطبيقية كالسجاد والحلي والتذهيب، إلى جانب الفنون المعاصرة والرقمية، التي أمكن لها استلهام معطيات الماضي، ومن ثم إعادة إنتاجه ضمن طرح مفاهيمي المنحى، وكذلك عرض المهرجان لمنتخبات أصيلة تنتمي لفنون الخط العربي من مصر وتركيا والهند، مع اهتمامه بجلب قوالب الخط النادرة، والتي تعرض للمرة الأولى في الشارقة، ليعكس بهذا التنوع في مستويات العرض ما للفنون الإسلامية من أوجه عدة باهرة ترتكز على موروث رصين، يمكن للفن الجديد أن يستلهمه، في نطاق التجاوب مع المشهد البصري المتجدد، خلال الوقت المارق نحو مستقبل الأيام الآتية.