(القاهرة) - كان الرجلان صديقين، كما ينبغي أن تكون الصداقة، أكثر من أخوين، العلاقة بينهما لا تعرف الحسابات المالية، كل ما بينهما مشترك، بالضبط كانا كشخص واحد، تجارتهما واحدة وأحوالهما وأمور الأسرتين، كل ما تحتاج إليه أيهما تحصل عليه بلا موانع أو معوقات، كان بينهما انصهار كامل. هذه الأوضاع والأحوال انطبقت على الزوجتين وأفراد الأسرتين فكانوا يبدون كأنهم أسرة واحدة وأن الأبناء كلهم إخوة أشقاء، وقد شربوا جميعاً صفات الرجلين وطريقة تعاملهما في كل الأمور حتى أنهم لم يعتادوا التعامل مع الأطفال والأشخاص الآخرين أقرانهم، ولم يستريحوا في اللعب أو التجمع أو النقاش إلا لبعضهم، والزوجتان مخزن أسرار الأسرة الكبيرة التي أصبح واضحاً أنها أسرة واحدة. الرجلان يلتقيان كل صباح في العمل، كل منهما يؤدي واجبه كما ينبغي أن يكون، يتفانيان بقدر ما يستطيعان، تجارتهما رابحة بقدر جيد، وإن كانت محدودة؛ لأن إمكاناتهما في الأصل محدودة، حيث إن رأس المال نفسه قليل، في البداية لم يكن يتعدى جهودهما الشخصية وبعض البضائع التي كانا يدفعان ثمنها بالأجل بعد بيعها، وبعد أن تحسنت الأحوال أصبح لديهما بعض المال الذي يمكن به أن يمارسا التجارة، وسارت بهما الأيام سنوات عديدة، كانا بالفعل موضع حسد من الآخرين على هذا التفاهم والتناسق والاتفاق الذي لم يعد له وجود في هذا الزمان، البعض كان يعتقد أن السيدتين أختان. كنت أحد هؤلاء الأبناء، أعيش مثلهم وأنغمس بينهم، ننظم رحلاتنا أحياناً وحدنا وأحياناً نمارس ضغوطاً على الأبوين والأمين ليكونوا معنا حتى تكتمل سعادتنا، وفي الحقيقة، فإن المتعة لا تتم إلا بهم ومعهم، خاصة أنهم يكونون معنا أكثر سخاء علينا من أنفسنا، وقد كانت لنا أساليب ووسائل ضغط ناعمة تجعل الرجلين يحاولان أن يبذلا كل ما بوسعهما من أجلنا، ونستمتع ببضعة أيام حتى لو كانت قليلة، نتناول الطعام حسب ما نرغب خارج المنزل، يكون الغداء كل يوم في مكان مختلف، إذ في الغالب لا يحدث ذلك إلا مرة كل عام غالباً تكون في المصيف، أما لقاءاتنا غير المنظمة، فهي تتم بلا ترتيب وتخضع الزيارات المتبادلة للظروف فقد نلتقي مرتين في أسبوع واحد، وأحياناً تتباعد اللقاءات لأكثر من شهرين، لكن تستمر الاتصالات بشكل دائم بلا انقطاع. كبر الأبناء، وجاء شاب ليطلب الابنة الكبرى لصديق أبي تلك التي كانت تقود جهودنا وتحركاتنا نعتبرها قائد مجموعتنا الكبيرة، ونشاركها الأفكار والتخطيط، وهي تكبرني بحوالي ثلاثة أعوام وأنا أكبر إخوتي وأخواتي، رغم الفرحة التي يجب أن نكون عليها أصابتنا حالة من الوجوم والحزن وربما الغيرة؛ لأننا سنفتقدها وستذهب وتفارقنا إلى بيتها وتخسر المجموعة زعيمتها، لكن الأهم أننا نأسف على فراق الألفة والابتعاد؛ لأنها مهما كانت الاتصالات واللقاءات، فإنها لن تعوضنا عن غيابها، بالطبع كانت مشاعر الكبار مختلفة فهم في غاية السرور والفرحة والحبور، وتكاتفت الأسرتان في إعداد عش الزوجية لها إلى أن انتقلت إليه بعد عام تقريباً من إعلان الخطبة. لم تكن تلك الخطوة مهمة فقط كحدث في حياتنا عامة، بل في حياتي أنا خاصة، فقد التحقت بالجامعة في هذا العام، وها أنا في السنة الثانية وبالحسابات المتعجلة لأمي، فإنه لم يبق لي سوى عامين على التخرج ومن الطبيعي أنني سأتزوج وبما أنني أكبر أولادها، فإنها تود أن تفرح بي على حد تعبيرها المتكرر، ولم يقف حديثها عند هذا الحد إنما ألمحت برغبتها في أن تخطب لي الابنة الثانية لصديق أبي والتي كانت وقتها في الثانوية العامة أي تصغرني بعامين، وتحدثت أمي في ذلك تلميحاً أيضاً أمام الفتاة وأمها وأبيها وإخوتها وأبي وإخوتي وأخواتي مرات عدة، ليس من قبيل إعلان الخطبة، ولكن إبداء الرغبة في استمرار تلك العلاقة غير المسبوقة بين الأسرتين، وتخشى أن يتزوج كل واحد منا أو واحدة بعيداً فنتفرق جميعاً، وربما لا يوجد بعد ذلك ما يجمعنا حتى لو كانت المناسبات؛ لأن كل فرد سينشغل بحياته وتضطره الظروف إلى أن يتباعد ويتغيب وان لم يتعمد ذلك، لم يكن طلب أمي رسمياً ولا إعلاناً للخطبة، وإنما لفت نظر ومجرد رغبة، حتى أنني عاتبتها على إبدائها قبل أن تأخذ رأيي، فكان جوابها أن هذا مجرد رأي وعرض قابل للنقاش والأخذ والرد، وهي من داخلها تتمنى أن أوافق؛ لأن الفتاة على خلق وعلى قدر كبير من الجمال، وقد تربينا معاً ومن وجهة نظرها لن أجد أفضل منها، وما زال هناك وقت طويل للكلام. عندما بدأت أقلب الأمر على كل وجوهه وجدت أنني أتعامل مع الفتاة مثل أخواتي تماماً؛ لأننا منذ نعومة أظفارنا ونحن نتعامل كذلك، وليس هناك مشاعر بخلاف ذلك على الإطلاق، وقد ترددت كثيراً في قبول عرض أمي أو التعامل معه على محمل الجد، وجدتني في مأزق حقيقي، غير قادر على اتخاذ قرار بيني وبين نفسي مع أن ذلك غير مطلوب الآن، لكن الموضوع شغلني بالفعل واستحوذ على تفكيري. الفتاة من جانبها بدأت تغير معاملتها معي وتتحفظ في الكلام والحركات والسكنات، تحاول أن تبتعد عن المكان الذي أكون موجوداً فيه، وما ذلك إلا من قبيل حياء الأنثى وكأن الخطبة في طريقها؛ لأن تصبح رسمية قريباً، بل كأنها تمت بالفعل، وجذب ذلك نظر الجميع، ومع الأيام والتفكير المستمر فيها وفي كلام أمي بدأت أميل نحوها بشدة خاصة بعدما أعقد مقارنات بينها وبين زميلاتي بالجامعة وفي كل مرة تفوز هي وتتغلب عليهن جميعاً، ارتبطت بها ونمت مشاعري نحوها أو تحولت إلى شكل آخر، وبدأت نظرتي إليها تختلف على اعتبار أنها زوجة المستقبل، أراني كنت مخطئاً في وجهة نظري المترددة، وأن أمي كانت صائبة ومحقة في اختيارها، أعلنت رغبتي صراحة في الارتباط بها وأنا أتعجل انتهاء فترة الدراسة ليتم إعلان الخطبة، الفرحة كانت عارمة بطبيعة الحال بين الجميع وها هي رؤية أمي وأمنيتها تتحقق. انتهت العلاقة التجارية بين أبي وصديقه الحميم فجأة بعد سنوات طويلة من الارتباط بالصورة التي ذكرت، لكن المفاجأة التي لم تكن تخطر لنا على بال وما لا نعرفه واكتشفناه نحن الأبناء أن أبي لم يكن شريكاً في المحل الصغير ولا في رأس المال وإنما بمجهوده، وهذا التخارج لم يغضبه على الإطلاق، فهو رجل قنوع لا ينظر إلى ما في أيدي الناس ولا يطمع فيما ليس له، بل الحقيقة أنه هو الذي طلب ذلك لعدة أسباب منها أنه يريد أن يفعل شيئاً من أجلنا وأن يتفرغ صديقه لتجارته ويعمل كل واحد منهما لمستقبل أبنائه. لم نقلق على علاقتنا بهذه الخطوة؛ لأن الشراكة لم تكن هي السبب فيها، ولكن الانشغالات الحياتية العادية باعدت بيننا خاصة وأن مساكننا في منطقتين مختلفتين، وتحتاج إلى وقت طويل هو أشبه بالسفر القصير، وما أسرع مرور الأيام والسنين، فلن نشعر إلا وكلانا قد تخرج في الجامعة بعد أن سبقتها بعامين، لكن كانت هناك فوارق ظاهرة بين أحوال الأسرتين المادية، فلم يكن لدينا أموال في هذا الوقت خاصة بعد أن تزوجت أختاي وتكلفت الزيجتان مبالغ كبيرة أثرت على وضعنا المالي، ولم يكن لأبي موارد غير عمله الحر في التجارة غير الثابتة أو المستقرة في أشياء مختلفة ومتفرقة بلا رأس مال. كنت في وضع لا أحسد عليه وأنا لا أجد عملاً وفتاتي يتردد الخطاب على بيت أبيها ومن بينهم ابنا أخيه وأخته، وهو غير قادر على الرد عليهم بجواب؛ لأنه يعتبر أن الدردشة السابقة من أمي كلمة ملزمة له وعهداً لا يريد أن ينقضه، وان حق الصداقة يجعله لا يفتح هذا الموضوع بهذه الطريقة حتى لا تكون نوعاً من الضغط علينا أيضاً كي لا تفهم على أنها محاولة للتنصل أو الرفض، وهو يعلم ظروفنا تماماً وأسرارنا كلها عنده بالتفصيل، ولا أنكر أنه متمسك بي ولي عنده ومكانة مثل أبنائه. أبي وأمي يعرفان مدى ارتباطي بالفتاة، ولا يستطيعان أن يتخذا أي قرار أو خطوة لا بالقبول ولا بالرفض، أصبحا عاجزين عن التفكير فهما بين شقي الرحى، وبين مطرقة الحفاظ على العلاقة القديمة والعشرة الطويلة وتحقيق رغبتي خاصة ورغبة الأسرتين عامة وسندان الظروف الصعبة التي لا يعرفان لها مخرجاً، وأنا أشعر بالذنب؛ لأنني أعتبر أنني وضعتهم في هذا الموقف، والآخرون يمارسون الضغوط لإنهاء الوضع المعلق، وضرورة اتخاذ موقف واضح وقرار صريح، وقرر أبي أن يلجأ إلى أحد البنوك للاقتراض وأنا أعلم أنه قد لا يجد وسيلة للسداد وهذا ربما يوقعنا في مشكلة لا نعرف حدودها ومداها، فبكل المقاييس هي مجازفة ومغامرة تبدو خطورتها واضحة جلية من البداية ونحن أدرى بأحوالنا وإمكاناتنا، وهنا كانت لي وقفة حاسمة برفض ذلك رفضاً قاطعاً واستبعاد هذا الحل الذي سيدخلنا في دوامة ليس بمقدورنا الصمود أمامها وسيجرفنا التيار إلى الهلاك. وجدت أن الكرة في ملعبي ولم يكن أحد قادراً على الإقدام على اتخاذ قرار حاسم، حتى أن بعض الكلمات كانت تتسرب إلى أمي من أم فتاتي تعبر فيها عن قلقها من هذا التعليق، وان كانت أسبابه معروفة، فهي مثل كل أم تريد أن ترى ابنتها في بيتها مع زوجها، وهناك ضغوط على أسرتها فأخت الفتاة الأصغر تمت خطبتها وفي طريقها إلى الزواج قريباً وليس مستحباً عندهم تزويج الفتاة الصغرى قبل أختها الأكبر، وقد يتم ذلك مجازاً في حال إعلان الخطبة على الأقل، كان لا بد أن أكون على قدر المسؤولية والتضحية، أو بالأحرى الاستسلام وأعلنت فسخ الخطبة التي لم تتم، لم يوافقني أحد، لكن لم يكن أمامي حل غير ذلك. كلانا بالطبع يتعذب ولم يكن أي من أفراد الأسرة يرضى بهذا الاختيار المر على الجميع، غير أنه المخرج الوحيد، فلا أرى غيره نقطة ضوء في النفق المظلم الطويل.