ما أن يبدأ حبونا على طرقات الحياة الوعرة.. ما أن نتعلم ربط شوارد الأبجدية ونفك رموز اللغة حتى يصاب بعضنا بهوس القراءة، خفية كفئران حذرة، وعلنا كتحدٍ أو تباهي. ورغم أننا في الحالتين ندرك أن القراءة مفتاح سحري لفك رموز الواقع وسبر أسرار الوقائع التي تحيط بنا وتعبث بأحلامنا وطوايانا دون أن نملك حتى بالقراءة الغزيرة إزاحة عراقيلها وأشواكها. إلا أننا نمضي بمتعة وشغف في شراء الكتب حتى في أضيق ظروف عيشنا. وحين ندخل مكتبة لشراء ورقة أو قلم فإن بصرنا في خفية منا يجرد ما تحتويه من كتب على قلتها في هذا الزمن. فأكثر المكتبات بل كلها صارت مجرد دكاكين لتقديم خدمات الطباعة ومستلزمات تلاميذ المدارس! كتب في كل مكان في البيت، غرفة خاصة بها، وأرفف في غرف النوم وفي المطبخ وعلى مساحات الجدران والممرات وملقاة على الأرض.. كتب حيث نجلس، وحيث نستقبل الضيوف، وحيث لا ندري إلى أين تأخذنا، لكنها أكثر من ضرورة، تماما كمستلزمات المطبخ للطعام والملابس للستر، والأسرة للنوم، والمقاعد للجلوس، والكومبيوتر للدلالة على مسايرتنا للتطور. كتب.. كتب.. كتب. كأنما حياتنا لا تستقيم بدونها. كتب منذ حبونا وحبو أطفالنا.. منذ صبانا وصباهم.. منذ شيخوختنا وشبابهم الممتد. كتب قرأنا الكثير منها، وكتب لم نقرأ بعضها، لأن ليس كل جديدها بجديد ولأننا بسبب تراكم الكتب في أدمغتنا نصير إلى الانتقاء والبحث عن المستجد في المعرفة والثقافة والابتكار والإبداع.. وحين لا نجد ما نتوق إليه في بعضها، نذهب إلى شراء المزيد والتنقيب في الورق والأفكار لا لسبب فقط لكي نشعر أننا نرتقي ونتجدد. كتب لا نعرف ماذا سيفعل بها من سيبقى بعد موتنا؛ هل ستوزع كصدقات كما يفعل أفراد العائلة بملابس موتاهم! أم سترمى في سلال النفايات لإعادة ترتيب البيت بعد فوضى الكتب! كتب.. كتب.. فماذا فعلنا بها وماذا فعلت بنا؟ هل غيرنا بها واقعنا المحدود في شخوصنا،أو غيرنا بها الوقائع التي تسعى بكل وسائل عنفها إلى دمارنا؟ يقال إن قراءة الكتب تعلمك الكتابة والتمرد فهل علمتنا التمرد حتى إذا علمتنا الكتابة؟ وهل كل من قرأ وكتب تمرد؟ الواقع الثقافي في تجلياته الأدبية لا يشير إلى أن الكتابة والقراءة تؤدي إلى التمرد، فلو كان الأمر كذلك لكان مثقفو العالم العربي ومبدعوه ومفكروه متمردين، ولو كانوا كذلك لكان حالنا غير هذا الحال ولكانت حضارتنا لم تراوح بين سلفيتها وإدعاءاتها التحضر. ولو كانوا كلهم كذلك، لغضبت عليهم السماء والأرض، كما هو حال بعضهم القليل النادر. لكن الواقع السائد لا يقدم مثالا على من يقود الآخر، أو يؤدي إليه.. التمرد أم قراءة الكتب! إن معضلة التمرد تكمن في أنه ليس فعل خراقة بل فعل وعي ونزوع خارق للحرية حين عتمة القيود، للجمال حين ركام القبح، للحياة في أوج فتنتها حين تفشي الموت. والتمرد كي يجد تعبيره في أي نوع من الإبداع يشترط الشجاعة وليس قراءة الكتب أو حتى تأليفها، لأن الشجاعة تنبع من توقد الروح وأفق الرؤيا لتسري في الحرف والمعنى، وتجعل من الكتاب والكاتب شحنة وعي وشجاعة مسلك! حمدة خميس hamdahkhamis@yahoo.com