ما أن ينتهي القارئ من قراءة رواية «قهوة أمريكية» للكاتب اليمني أحمد زين حتى يصير لديه صورة واضحة، وإن كانت جانبية، عن صنعاء خلال العقدين الماضيين، في واقعها المعاش بأناس يعيشون على الهامش، مع أنّهم حياة المدينة كلّها. الرواية الصادرة حديثاً، عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء وبيروت، تسرد أحلام شخوص جاءت متأخرة، تحت سطوة مكابدات يومية لا يستطيعون التغلّب عليها. الشخصية الرئيسة في السرد (عارف) يجد أن ما قام به ميخائيل جورباتشوف من دور في انهيار الاتحاد السوفييتي يمثل ضربة موجعة له، إضافة إلى قيام الوحدة اليمنية (22مايو 1990). فالحدثان أعاقا طموحه في إيجاد تاريخ شخصي له، يتباهى به كحال المناضلين القدامى. كان يريد أن يكون واحداً منهم، يتحدث عن معاناته في التنظيم السري، وما واجهه في المعتقلات من تعذيب ومعاملات تثير انتباه المستمعين له؛ ولم يثنه أو يزعزع جموح رغبته، عندما يخطر له أن كثيراً ممن صنعوا ماضياً أو تاريخاً، صاروا يعيشون الآن بلا ماضٍ «فالوحدويون السابقون، مثلاً، وبعد تحقق الوحدة اليمنية .... لم يعد لهم ما يناضلون من أجله، أي صاروا عاطلين عن النضال، عن الحياة على الأرجح، وكذلك الحال بالنسبة للمناضلين السريين من أجل الحرّية، إذْ فضحت الوحدة سرّيتهم، فصار العجائز والمجانين والمراهقون وحتى الشواذ، يتكلّمون بحرّية»، حيث «لا يجمع الله بين عسرين، الجوع وتكميم الأفواه»، حسب الخطاب الرسمي. هكذا يصبح وجود تاريخ شخصي ضرورة. فكرته «ليست جذّابة فقط، إنّما تجنّبك، إذا ما تحققت، غدر المستقبل، الذي تخشاه كثيرا». يلتقي عارف في المجلس الثقافي البريطاني في صنعاء بعالية، التي تكبره بعشر سنوات، حيث يدرسان هناك اللغة الإنجليزية، فتجذبه مفاتن جسدها إذْ تظهر مع أحاديثها المشيدة للمنحى اليساري المعارض. هكذا، يصبح إيجاد تاريخ نضالي شخصي له مطلباً ملحاً ليتقرّب عبره إليها، فيثير اهتمامها وإعجابها. حين جاءته الفرصة وشارك في مظاهرة صاخبة ضد سياسة الحكومة الاقتصادية ورفع الأسعار، صارت كل هواجسه مشغولة بترتيب الحدث وسرده لها بطرق لافتة، خاصة أنّها قد لمحته بين الجموع المتظاهرة. استعار حكايات نضالية من آخرين وهو يحدّثها عن اعتقاله إثر المظاهرة وتحقيقهم معه وتعقّبهم ومراقبتهم له بعد إطلاق سراحه، ومن خلال الإطار السردي العام الذي بقي يدور حول المظاهرة ومحاولة إيجاد تاريخ شخصي يقرِّبها إليه أكثر، مضى الراوي في رسم ملامح لوجوه المدينة في انتكاساتها وخيباتها ومفارقاتها. بدت أسلحة القبيلة وسلوك السلطة ومنتقدوها، كما بدا مرشحو الانتخابات والمراوغون السياسيون والهاتفون لحريّة المرأة والمتخاذلات منهن. وفي تمفصلات النص كان الهامشيون، من الجياع والمجانين والمشردين والساخطين، هم وجهة السرد ومراده. عارف الذي لم يفلح بتحضير القهوة الأميركية التي اشتراها مع معلّمته الإنجليزية، يمضي في قلق معيشي يعاين فيه ضجر المعلّمة الإنجليزية كاترين وتمرّدها في الحب، وسعيها لأن تُختطف من قبل القبائل الذين اعتادوا على خطف الأجانب، تروعه فكرة قتله برصاصة طائشة من المسلحين القبائل، وتربكه العلاقات اليومية المؤثرة في كبت رغباته الجنسية الخاصة وهواجسه في الضعف الجنسي. تؤرقه سلوكيات إدارة العمل، العابرون قبالة سكنه القريب من سوق القات، الإعلانات الفارهة في شوارع مغبرة، انطفاءات الكهرباء، رغبة البعض في الهجرة، والخوف من اللاشيء. في لقائها الأخير معه تستذكر عالية مقولة روزا لوكسمبورغ: «إن الغنى الحقيقي هو تلك الحرّية الداخلية، التي تسمح للطبيعي في كل وقت بالتعبير عن نفسه، وتسمح بأن يجرفك الهوى من دون أن تخون نفسك»، مع هذا يسرح عارف في هواجس قهر متضاربة، ليصل، وهو يرقب خيبات الثورات الوطنية، إلى الشك في جزئيات حياته ومصائره، بما في ذلك مقاصد وأهداف المظاهرة التي شارك فيها، بل ووجود عالية نفسها، التي قد تكون وهماً، فيمضي إلى ما يشبه الجنون، إذْ لم يكن الجنون نفسه. في هذه الرواية التي تتعدد فيها طرق السرد، بين الـ (هو) والـ (أنت)، يمكن ملاحظة الكثير من المحاولات التجريبية السردية، التي وصل الكاتب، كما يبدو، في معظمها إلى مبتغاه. مع أن القارئ قد يرتبك، أحياناً، وهو يجد الكاتب قد مضى في تناوب تعدد الصوت السردي، حتى في إطار الجملة الواحدة (ص112)، كما في السطرين التاليين المتضمنين لإشارة الـ (هو) في (لم يدر) و(نظراته)، وإشارة الـ (أنت) في (عينيك) و(لكنك لم تفهم)، هكذا: «لم يدر كيف حدث ذلك، نفرت نظراته باتجاه الطبيب، الذي تصادف أنّه كان ينظر مباشرة في عينيك، نظرات فارغة، لا لم تكن فارغة، كانت نظرات مليئة، لكنك لم تفهم ما المقصود من ورائها». ويمكن ملاحظة الحال نفسه في (ص138): «وشعر أنّه هو من يحمل ذنب نفسه، وليس أحداً سواه، هو ما يستعبد نفسه وليس المجتمع أو الواقع البائس. لم يخطر في بالك أن تصبح مناضلاً كبيراً، ولا حتى شهيداً من أجل الوطن أو الحرية». إلى ذلك، تجاوز الكاتب لغته الشعرية، التي كان ضمّنها كتبه القصصية الأولى، ليكتب في لغة غير قاموسية. يمكن القول أن أحمد زين في هذه الرواية المهمّة والمتميّزة في السردية اليمنية، اقترب في لغته من المعاش اليومي، فحوّل، بنبرات سردية خافتة، الصخب الهائل الذي بدا في مشهديات الرواية وإشاراتها الحدثية، إلى إيقاع يعلو فيه الـتأمل على الصخب، ويثير، ربّما، السؤال عن غد اليمنيين المجهول.