حسناً، لم يعد هذا الأمر خافياً على أحد، فالروبوتات ستجتاح حياتنا في القريب العاجل، وستصبح شيئاً مألوفاً في واقعنا اليومي. إن هذا يضعنا أمام مخاوف تصل حد الهلع، فالجميع على يقين من أن التطور يسير بشكل متسارع في هذا المجال، لدرجة أن البعض يرى أننا سنكون في المستقبل أمام هذه الروبوتات، مثل ما كانت الشمبانزي أمامنا في الماضي. إن الروبوسابيانس سيعوض الأموسابيانس. سنصبح تحت رحمة هذه الآلات الذكية كبشر ضعاف ذوي قدرات محدودة.
تتجاوز اليوم تطبيقات الذكاء الاصطناعي مجرد أعمال الحراسة والدعم التي يمكن أن تقدمها هذه الروبوتات. إنها تمتد إلى المجال العسكري، حيث يتم الحديث عن أسلحة متطورة يطلق عليها اختصاراً SALA أي أنظمة الأسلحة القاتلة أوتوماتيكيا Systèmes d’armes létaux autonomes أو على وجه أوضح الروبوتات القاتلة، والتي يمكن أن تبرمج للقيام بأعمال حربية، أو بالتصفية الجسدية لأشخاص بعينهم. وهكذا لن تستولي الروبوتات على وظائفنا فقط، بل إنها ستسلبنا حياتنا بالكامل. ولكن مهلاً فالأفق ليس حالكاً بالمرة، هناك تطبيقات واعدة يمكن أن تعمل فيها الروبوتات لصالح البشر. يتحدث رامش كوسي Ramesh CAUSSY وهو عالم معلوميات وصاحب شركة للروبوتات عن ابتكار روبوت أطلق عليه دياوان قادر على تنقية الهواء، وعلى التحرك بحرية في أماكن مزدحمة دون أن يصطدم بأحد. دياوان هذا يمثل ما أصبح يصطلح عليه بالذكاء الاصطناعي الصديق. ولكن في كل الأحوال إذا كان من المقدر لهذه الروبوتات أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، أليس من المفروض ضرورة التفكير في وضع نظام أخلاقي صارم، يحدد طبيعة علاقتها بالجنس البشري، حتى لا تصبح خطراً آخر يضاف لباقي الأخطار المهددة للإنسان؟

مفهوم الذكاء الاصطناعي
المقصود بالذكاء الاصطناعي IA مجموعة من البرمجيات المتطورة التي تمتلك القدرة على إنجاز مهام محددة، بشكل أسرع وأدق مما يمكن أن يقوم به الإنسان. ظهر هذا المصطلح لأول مرة سنة 1956 على يد جون ماكارتي ومارفن مينسكي، وهما عالمان أميركيان في مجال البرمجة المعلوماتية وعلوم الإدراك. بطريقة أخرى يعتمد الذكاء الاصطناعي على علم البيانات data science ولذلك من المستحيل للذكاء الطبيعي مجاراته في تخزين ومعالجة هذا الكم الهائل من المعلومات، وخصوصاً مع الطفرة الهائلة التي عرفتها هذه البيانات في السنوات الأخيرة، ضمن ما اصطلح عليه بـ data growth. نذكر على سبيل المثال، أن حساب الجينومات البشرية يصل إلى مليارات الجينومات، وهو عمل لن يتمكن العقل البشري أبداً من القيام به. نحن نوجد اليوم منجرفين مع طوفان الثورة المعلوماتية، «أفيون القرن الحادي والعشرين» كما أطلق عليه. ولذلك لا ندري هل سنظل مسيطرين على الأمور في المستقبل، أم أن الذكاء الاصطناعي سيتجاوزنا، ويطيح خصوصيتنا وفرادتنا التي نتغنى بها؟
من المؤكد أن هدف الذكاء الاصطناعي هو محاكاة الذكاء البشري، غير أن عملية المحاكاة هذه، لابد أن تنتهي في نهاية المطاف إلى تجاوز عملية المحاكاة ذاتها، سواء بوساطة التعلم الآلي أو التعلم العميق deep learning. سيحدث هذا عندما ستصل الروبوتات إلى تعليم نفسها بنفسها، مما سيؤدي بها إلى امتلاك القدرة على حل أية مشكلة تعترضها، وأولها تجاوز الذكاء البشري والانفلات من سيطرته. بشكل آخر نقول، إنه إذا كان الإنسان في البداية يقوم بتزويد الآلات بالذكاء، ففي النهاية تصل هذه الآلات إلى برمجة نفسها بنفسها بذكاء يتفوق بشكل كبير على سابقه، بفعل الكم الهائل من المعلومات التي يتضمنها والقدرة على معالجتها بشكل أسرع.
إن ما يثير المخاوف هو الذكاء الاصطناعي القوي، وهو يتميز بكونه عبارة عن برمجيات متطورة تمتلك القدرة على حل المشكلات التي تعترضها من تلقاء نفسها دون الرجوع إلى الإنسان. وبالتالي فهي تمتلك استقلالية تامة عنه. وقد بدأ ناقوس الخطر يدق منذ أن هزم «ديب بلو» سنة 1997 غاسباروف بطل العالم في الشطرنج. كما تمكن روبوت آخر سنة 2011 من الفوز بلعبة المسابقات الأميركية الشهيرة جيوباردي، التي تقوم على الإجابة عن أسئلة تشمل ميادين الثقافة والعلوم والتاريخ والأحداث اليومية، مع كل ما يتضمنه ذلك من إيحاء وثورية ولعب بالكلمات. وفي سنة 2016 تمكن كذلك «ألفا غو» الذي طورته شركة غوغل من هزيمة بطل العالم في لعبة الغو الصينية، وهي لعبة أعقد من الشطرنج بكثير. هذا دون الحديث عن العديد من الربوتات الشبيهة بالإنسان والتي تسمى بالإمانويد Les robots humanoïdes وبإمكانها أن تتجاوز اختبار «تورينغ» بسهولة.
ولكن مهما بلغ تطور الذكاء الاصطناعي فما زالت الطريق أمامه طويلة، كي يبلغ درجة التعقيد والغموض التي ينطوي عليها العقل البشري. فهذا الأخير يتكون في حقيقة الأمر من طبقات من الذكاءات المتداخلة والمتشابكة مع بعضها بعضاً، مثل الذكاء العاطفي والاجتماعي والإبداعي وغيرها، وهي كلها ذكاءات لم يتمكن الروبوت من التحكم فيها، على الأقل، إلى حد الآن.

كائنات واعية
وتعود بنا كل هذه الإشكالات المتعلقة بالتطورات التي يعرفها الذكاء الاصطناعي، وما يحمله من تحديات للذكاء البشري إلى طرح السؤال الفلسفي الخالد: من نحن؟ ما الذي يجعلنا بشراً؟ نحن هنا نتحدث عن منعطف حاسم وغير مسبوق في تاريخ التطور. فإذا كان الوعي هو من خصوصية الإنسان، ها نحن نعاينه يولد في السيليكون. إن مثل هذه الروبوتات المزودة بالذكاء الاصطناعي المتطور، ليست مجرد اختراعات تأتي لكي تنضاف لباقي الاختراعات التقنية التي نعرفها منذ الثورة الصناعية. الأمر يتعلق بكائنات واعية مدركة للعالم المحيط بها، كما أنها تتجه لكي تملك جملة من الأحاسيس التي مكنتها لحد الآن من رسم لوحات تشكيلية، ومن العزف على الكمان والفوز في لعب عقلية وثقافية معقدة. بل إن راي كورتزفايل وهو أحد كبار المبشرين بمرحلة ما بعد الإنسانية، يتحدث عن هذه الروبوتات كما لو أنها تمتلك روحاً حيث يقول: «عندما تصل الكمبيوترات إلى مستوى مماثل من التعقيد ثم تتجاوزه، فسوف يكون لها هي أيضاً بالضرورة أهداف ذات قيم ومشاعر ضمنية، مع أنها لن تكون بالضرورة نفس القيم والمشاعر الموجدة لدى البشر»، (عصر الآلات الروحية) ص 20. وربما أيضاً لهذا السبب حذر إلون موسك وستيفان هوكينغ من مخاطر الذكاء الاصطناعي، حيث أكد هذا الأخير مثلاً أن البشرية ستخترع ما سيساهم في دمارها وأن الذكاء الاصطناعي: «يمكن أن يطور إرادة خاصة به وهذه الإرادة يمكن أن تتعارض مع مصالحنا».
وإذن هذه «الكائنات الذكية الجديدة» لاشك أنها ستضعنا أمام مشاكل أخلاقية عويصة، من قبيل استيلائها على وظائفنا، أو توظيفها في مجال الأمن والتجسس، حيث ستتمكن من اختراق خصوصيتنا بكل سهولة، هذا عدا عن توظيفها في المجال العسكري.
ولكل هذه الاعتبارات وضع إسحاق أسيموف 1920 1992 في روايته: «الحلقة المفرغة» القوانين الأخلاقية الثلاثة الشهيرة وهي:
1- لا يجوز للروبوت إلحاق الأذى بإنسان أو السكوت عما يمكن أن يسبب له الأذى.
2- يجب على الروبوت إطاعة أوامر الإنسان، ما عدا إذا تعارضت مع القانون الأول.
3- يجب على الروبوت الحفاظ على بقائه، طالما لا يتعارض ذلك مع القانون الأول والثاني.
كما هو واضح، وضعت هذه القوانين بسبب التخوف من خروج الروبوتات من سيطرة الإنسان، وتحولها إلى مدمر/‏‏‏‏‏‏ تيرميناتور كما صورته أفلام الخيال العلمي. والعديد من العاملين في مجال البرمجة الذكية يعتبرونها قوانين أساسية وهادية لهم في عملهم، إلا أن المتأمل لها سيكتشف أنها قوانين أخلاقية صورية ومتعالية شبيهة بالأوامر المطلقة لإمانويل كانط، بمعنى أنها ملزمة للإنسان بشكل مطلق وفي كل الأحوال، وهو الأمر الذي اعترض عليه كما هو معروف في تاريخ الفلسفة بنجمان كونستان، عندما دافع عن الحق في الكذب من أجل إنقاذ حياة بشر يهددهم بشر آخرون مثلاً.
هكذا عندما نتحدث عن أخلاق «إيثيقا» خاصة بالروبوتات، فهذا معناه أننا نتحدث عن أخلاق مرتبطة بالتجربة وليس بالتعالي، أي أخلاق لصيقة بالحياة وتعقيدات الواقع. لا مجال هنا للحديث عن صيغة: «يجب لأنه يجب». بل ينبغي بالضرورة استحضار المرونة وموازنة الأمور وترجيح بعضها عن بعض. لكل هذه الاعتبارات يبدو أنه من الصعب تحميل المسؤولية للروبوت عنها، وهذا بالضبط هو ما دفع اللجنة العالمية لأخلاقيات المعارف العلمية والتكنولوجية التابعة لمنظمة اليونيسكو، سنة 2017، للدفاع عن ضرورة احترام القيم والمبادئ الإنسانية الأساسية، مثل الكرامة والاستقلالية والمسؤولية.
ولا شك أن الروبوتات تتفوق علينا في جمع وتخزين المعلومات، فهل عليها أيضاً أن تمتلك الحق في إصدار القرار؟ ماذا لو وجدت هذه الروبوتات نفسها ملزمة بقتل بعض البشر من أجل حماية بشر آخرين؟ من يتحمل المسؤولية مثلاً إذا قرر الذكاء الاصطناعي، الذي يقود سيارتي قتل الطفل المار بالشارع، حتى ينقذ المالك الذي ينام في الخلف؟! وإذا ابتعدنا عن ربط الروبوتات بالشر وافترضنا عكس ذلك أنها ستكون خيّرة، في هذه الحالة هل من حق الروبوت أن يعمل على تقويم السلوك الأخلاقي للإنسان؟ هل ينبغي إخضاع الروبوتات للنظم الأخلاقية الإنسانية، أم أن هذه النظم ذاتها هي ما ينبغي إعادة النظر فيها، وتغييرها بما يتلاءم والوافد الجديد؟ ثم بأي معنى يتم الحديث اليوم عن حقوق للروبوتات وكأنها أصبحت شخصاً اعتبارياً؟ كل هذه وغيرها أسئلة محرجة يطرحها التطور المهول للذكاء الاصطناعي، وعلينا أن لا نطمئن أنفسنا أنه بإمكاننا دائماً قطع التيار الكهربائي عنها. فالروبوتات عندما ستصل إلى الوعي بذاتها ستمتلك القابس الخاص بها.