هنا على امتداد هذا الطريق الطيني في ''أبيي''، يتواجه فريقان عسكريان لا يجمع بينهما جامع البتة، أحدهما تابع لحركة التمرد السابقة بجنوب السودان، والآخر تابع للحكومة المركزية في الخرطوم، كان مفترضا أن يتم الدمج بينهما في جيش واحد، غير الحقيقة أن كلا المعسكرين يحدج أحدهما الآخر من الطرف المقابل للطريق الطيني، مع توافد المزيد من الآلاف على كليهما في منطقة حقول النفط القريبة من هنا، والمتنازع عليها بين قادة الطرفين· وإن كان ثمة مؤشر واحد لهذا التقابل العسكري، فهو عدم استبعاد نشوب حرب انفصالية جديدة طويلة الأمد بين شمال السودان وجنوبه!· هكذا تبدو صورة السلام الحالي في السودان؛ وبذلك فإن اتفاقية السلام المبرمة بين الطرفين، التي طالما احتفى بها المجتمع الدولي، إلى حد دفع الأمم المتحدة لجعلها نموذجاً أو نهجاً يوضع به حد لنزيف الدم الدارفوري، باتت الآن -حسب رأي خبراء ومراقبين دوليين- مترنحة مأزومة وعلى حافة الانهيار· ''فها نحن في طريق العودة مجدداً إلى الحرب الأهلية'' على حد قول ''ديفيد موزيرسكي'' -مدير مشروع القرن الأفريقي بمجموعة ''الأزمات الدولية''-، مضيفا قوله: ''إن الذي نراه هو استمرار التصعيد العسكري في كلا الجانبين، بينما انهارت الشراكــة السياسية المبرمة بينهما عقب الاتفاق''· غير أن كلاً من شمال السودان وجنوبه يعلن عزمه على تفادي اندلاع حرب أهلية مكلفة أخرى، بينما يعترف القادة في كلا الجانبين بحاجتهم إلى بعض؛ ففي الجنوب يكمن الجزء الأعظم من الثروات النفطية للبلاد، في حين يتمتع الشمال بالجزء الغالب والأعم من البنية التحتية؛ بيد أن كلا الطرفين يتعثران أمام صخرة القضايا الجوهرية التي كان يفترض للاتفاق المبرم بينهما أن يحلها والتي منها: ترسيم الحدود الفاصلة بين الشمال والجنوب، كيفية إصلاح الحكومة، بعد اتسامها بكل هذه النزعة العسكرية، التي جعلت من الزي العسكري زياً رسمياً لتلاميذ وأطفال المدارس؟ ثم أخيراً كيفية اقتسام عائدات الثروة النفطية الهائلة بين الشمال والجنوب؟! من ناحيته أجاب ''سلفاكير ميارديت'' -النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس الجنوب- في رده على سؤال حول شركائه في الاتفاق، فقال: ''إنهم يخدعوننا لا أكثر''· أما ''سيد الخطيب'' -يعد أحد مهندسي اتفاق السلام ومن أبرز الشخصيات القيادية في حزب المؤتمر الوطني المهيمن سياسياً في شمال السودان-، فقد نفى من جانبه أن يكون الشمال هو الطرف الذي يعصف بالشراكة مع الطرف الجنوبي، مع نعته لقادة هذا الأخير في ذات الوقت بما وصفه بـ''ضعف الإنجاز''· واستطرد قائلاً: حسناً إنهم يطالبون بأربعة مليارات دولار من عائدات النفط، وقد حصلوا الآن على ملياري دولار منها·· ولكن ماذا فعلوا بها؟ أين المدارس والطرق وغيرها التي بنوها في الجنوب؟ على أن المحك العملي لهذا الاتفاق بين الشمال والجنوب، هو الاستفتاء الشعبي العام المقرر إجراؤه في عام ،2011 والذي سيقرر ما إذا كان الجنوب سيبقى جزءاً من السودان الموحد، أم يستقل بنفسه كدولة منفصلة· لكن ووفقاً لما نرى الآن، فإن كل المؤشرات، ترجح مضي السودان بخطى حثيثة نحو الانفصال· والذي أكده ''سلفاكير'' في هذا الصدد قوله ''فنحن لا نزال مواطنين من الدرجة الرابعة في بلادنا··· وهذا ما سيدفع بغالبية الجنوبيين للتصويت لصالح الانفصال''· ويبقى السؤال الأكثر ضغطاً وإلحاحاً أمام السودان الآن، ما إذا كانت هذه المجموعة العربية الصغيرة نسبياً، التي تقطن على امتداد المناطق الشمالية من النيل، وهي المجموعة التي ظلت تحتكر حكم السودان تاريخياً، ستتواضع أخيراً وترضى باقتسام الثروة والسلطة مع بقية المجموعات العرقية السودانية، مع العلم أن السودان يعد من أغنى دول القارة الأفريقية تنوعاً عرقياً وثقافيـــاً ودينيــاً؟ ولنذكــر هنا أن التهميش والإقصاء السياسي كان سبباً رئيسياً لحمل متمردي الجنوب للبندقية وخوض القتال ضد الحكومة المركزية في الخرطوم· ليس ذلك فحسب، بل إن التهميش نفســه كــان سببــاً لاشتعال نيران التمرد في إقليم دارفور ، الذي استحال النزاع فيه الآن إلى إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية المعاصرة· كما يعرف عن نزاعات الجنوب والشمال أنها تعود إلى عدة عقود سابقة، وأنها برزت إلى السطح منذ قبل إعلان استقلال السودان في عام ·1956 وعلى رغم اعتراف ''بان كي مون'' إبان زيارته الأخيرة لجنوب السودان ودارفور في شهر سبتمبر الجاري، بهشاشة اتفاق السلام بين الجنوب والسلام، إلا أنه رأى في العودة الطوعية لآلاف الجنوبيين المقيمين في الشمال إلى ديارهم وقراهم في الجنوب، شارة إيجابية على نجاح الاتفاق· ومع ذلك تبقى القضايا التي أبرم من أجلها الاتفاق تراوح مكانها كما نرى هنا في ''أبيي'' الغنية بحقول النفط· مراسل صحيفة نيويورك تايمز في أبيي-جنوب السودان ينشر بترتيب خاص مع خدمة نيويورك تايمز