كلما استبدت المخاوف بالأميركيين من حالة الاقتصاد فإن الهواجس سرعان ما تحملهم إلى فترة ''الكساد العظيم'' الذي حل بالولايات المتحدة في حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي· وعندما يقول مارتن فيلدستين أحد أبرز الاقتصاديين المعاصرين في الولايات المتحدة الأميركية إن بلاده مقبلة ربما على مواجهة أخطر ركود اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية فإن هذه الهواجس تمضي إلى ذروتها لتفضي إلى التساؤل الأكثر إلحاحاً بشأن إمكانية عودة الكساد العظيم· وربما لم يعد اسم ''الكساد العظيم'' رناناً في آذان العامة في جميع أنحاء العالم ولكن صداه ما زال يتردد في أوساط المواطنين الأميركيين، فمصرف بيرستيرز الذي اقترب من حافة الانهيار في الأسبوع الماضي استطاع أن يتجنب الكارثة التي حاقت بوول ستريت في عام ،1929 وخرج شاباً من الرماد الذي نجم عن ''الكساد العظيم'' بينما يعتبر بنك جيه بي مورجان الذي هب لنجدته مؤخراً أحد الأساطير في ضاحية وول ستريت، ومقره هو نفس المقر الرئيس الذي شهد اجتماعات المصرفيين والاقتصاديين في وول ستريت في مساعيهم الرامية لتجاوز كارثة العام ·1929 وكان وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق في زيارة إلى مدينة نيويورك في عام 1929 في أحد أسوأ الأيام لأسعار الأسهم، ولقد اندهش تشرشل لعدم رؤية المزيد من الفزع والخوف في أوجه السماسرة والوسطاء إلى أن تم ابلاغه بأن القوانين السائدة تحظر عليهم الهرولة أو الصياح أو حتى التعبير بالايماءات في داخل صالات التداول· ولكن تشرشل رأى بأم أعينه ما أصبح بعد ذلك جزءاً من التاريخ المقيت في تلك الفترة عندما قفز شخص ليلقى حتفه من إحدى نوافذ فندق مجاور، وإلى ذلك فإن أزمة العام 1929 جاءت في أعقاب ازدهار مطول للاقتصاد الأميركي بفعل القروض· إذ كانت فترة العشرينيات الصاخبة تمور بالنشاط عندما اندفع المواطنون في طلب السيارات وتملك أجهزة الراديو وسائر السلع الأخرى التي سادت في بداية عصر الاستهلاك الجديد، وانهمك الأميركيون وقتها في الاقتراض من أجل شراء هذه السلع· وكان الأميركيون وقتها يعتقدون أن اقتصادهم يمر بمرحلة من التحول، إذ قال ايرفن فيشر أحد أبرز الاقتصاديين المتميزين في الدولة قبل فترة وجيزة من الانهيار الذي أدى في نهاية المطاف إلى سقوط أسعار الأسهم بنسبة بلغت 90 في المئة: ''إن الأسهم فيما يبدو قد أصبحت في طريقها للانطلاق إلى مستويات عالية ولفترة قد تطول''· والغريب في الأمر أن الركود في عالم اليوم يعتبر خطيراً عندما ينخفض اجمالي الناتج المحلي بنسبة 3 أو 4 في المئة في خلال عامين علماً بأن اجمالي الناتج المحلي الأميركي كان قد انخفض في الفترة ما بين عامي 1929 و1932 بمعدل بلغ 32 في المئة· وكان هيربرت هوفر الرئيس الأميركي الحادي والثلاثون عن الجمهوريين في الفترة ما بين 1929 - 1933 لا حول ولا قوة له، ويفتقر إلى الجرأة والمبادرة والأدهى من ذلك أنه عارض تدخل الحكومة بالمساعدات لمكافحة الكساد ما أفقده تعاطف الجميع وأدى إلى تكبده هزيمة نكراء بعد فترة ولاية واحدة استلم بعده مقاليد السلطة الرئيس فرانكلين روزفلت· وشهدت تلك الفترة إفلاس أكثر من 9 آلاف بنك أميركي تستأثر بما يقارب نصف رأس المال المصرفي في أميركا، وقفز معدل البطالة إلى أعلى مستوياته على مر التاريخ دون أن تتوفر الحماية الاجتماعية اللازمة لجموع الضحايا· واستمر التضخم يمسك بخناق المواطنين لدرجة تندر فيها الناس بالقول إن الفرد أصبح يحمل كميات من الأموال في سلة الخضار ليأتي من السوق وهو يحمل أربعة بيضات في جيبه! والسؤال الذي يخيف الأميركيين حالياً هو: هل يمكن أن تشهد الولايات المتحدة عودة الكساد العظيم؟ إذ يعتقد رجل المرحلة في الأزمة الحالية بين بيرنانكي رئيس مجلس إدارة الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، والذي تصادف أنه أحد الخبراء المهتمين بتلك الفترة أن أكبر الأخطاء التي تم ارتكابها في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات قد تمثلت في السماح للعديد من البنوك بالانهيار وبشكل ضمن وقوع الاقتصاد بأكمله في هوة الركود، كما فاقمت العديد من الأخطاء الأخرى بما فيها النزعة إلى الحمائية من حجم الكارثة· والآن فإن مهمة برينانكي تنصب فيما يبدو على ضمان أن تتلقى البنوك السيولة الكافية التي تجعلها قادرة على الإقراض· ويبقى أن فرانكلين روزفلت كان قد أطلق حملة انتخابية ناجحة في طريقه للرئاسة الأميركية في عام 1932 تحت شعار يقول إن ''الأميركيين ليس لديهم ما يخافون منه سوى الخوف نفسه'' ولعل هذا الشعار يمثل الآن أكبر صدى لتلك الفترة الغابرة· عن صحيفة التايمز البريطانية