مايكل أولوف يورك -بنسلفانيا لو افترضنا أن شخصاً ما كان واقفاً في ميدان "كونتيننتال" الشهير بوسط مدينة يورك بولاية بنسلفانيا إبان الحرب العالمية الثانية، فإن من المؤكد أنه كان سيرى العديد من المظاهر التي تدل على مشاركة أميركا في تلك الحرب.. منها على سبيل المثال الأعداد الكبيرة من الجنود الذين يرتدون الزي الزيتوني اللون الخاص بأفراد القوات المسلحة في ذلك الوقت، وهم يتزاحمون في المطاعم، والمقاهي، ومحال الحلاقة، ومراكز التسوق العديدة، ومكاتب البريد ودور اللهو والتسلية، ومحطات السكك الحديدية.. كما كان من الممكن للمرء أن يرى ملصقات وشعارات وطنية تمجد المشاركة في تلك الحرب، أو حتى تحذر السكان من جواسيس النازية المندسين في صفوفهم.. وكان من الممكن أيضاً رؤية مواطنين أميركيين يقفون طوابير أمام البنوك لشراء سندات الخزينة التي كانت الحكومة تبيعها من أجل توفير التمويل اللازم للمجهود الحربي. وباختصار كان موضوع الحرب العالمية الثانية هو الموضوع الذي يحتل المرتبة الأولى على أجندة الأميركيين جميعاً.. وكان ذلك ينطبق على مدينة يورك، كما ينطبق على أي مدينة أميركية أخرى، كبيرة أو صغيرة، تقع في شرق البلاد أو غربها، شمالها أو جنوبها. غير أن الأمر مختلف اليوم أشد ما يكون الاختلاف. فعلى رغم الحربين اللتين تخوضهما الولايات المتحدة منذ ما يزيد عن سبعة أعوام، والحرب على الإرهاب التي تخوضها منذ ما يزيد عن تسعة أعوام، فإن الاحتمال المؤكد عندما يقف شخص اليوم في الميدان الشهير نفسه هو ألا يرى أي مظهر يدل على مشاركة أميركا في أية حرب. فلن يرى جنوداً يتجولون، ولا أعلاماً ترفرف، ولن يلاحظ ملصقات تمجد أميركا، أو أخرى تحذر من العملاء التابعين لأعدائها، بل إن التجمعات السلمية التي كانت تنتظم بعد ظهر كل يوم جمعة احتجاجاً على الحرب أو تأييداً لها ابتداء من عام 2002 تم تعليقها اعتباراً من عام 2008. "إنها حرب أجنبية تقريباً" هذا ما تقوله "ليدا دايتز" منسقة مؤسسة "أناس للسلام والعدالة" وهي مجموعة تتخذ من "يورك" مقراً لها، وهي التي كانت تقوم بالإعداد لتلك التجمعات وتنظيمها، واليوم "يبدو الأمر وكأنه ليست هناك حرب". ومدينة يورك، بلدة صناعية، يقطنها قرابة 40 ألف نسمة، وتتبع مقاطعة يبلغ تعداد سكانها 425 ألف نسمة، وتشتهر بصناعتها للأدوات الرياضية، وخصوصاً أدوات رياضة رفع الأثقال، وكذلك إنتاج دراجات "هارلي ديفيد سون" الشهيرة. وليست هذه هي المدينة الأميركية الوحيدة العازفة عن الانخراط في أجواء الحرب التي تخوضها البلاد في الوقت الراهن. فهذا العزوف -وهو ما يبعث على الغرابة- يبدو جلياً أيضاً في المدن التي تضم قواعد عسكرية، بل إنه ملحوظ كذلك وسط العائلات العسكرية، أي العائلات التي ينتمي عدد من أفرادها للقوات المسلحة، أو يحاربون في صفوف الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان. إن الحربين تبدوان بعيدتين تماماً عن الوجدان الأميركي.. وهناك تشبيه قرأته مؤخراً يعبر عن هذا الوضع تماماً، يقول إن حربي العراق وأفغانستان، أشبه ما تكونان بـ"شاشات التوقف"(سكرين سيفر) الموجودة دائماً في الخلفية، والتي قلما يتم التركيز عليها مع ذلك. وهذا التشبيه يتفق عليه المؤيدون للحربين والمعارضون لهما على حد سواء -حتى وإن كان لكل أسبابه- وهو شيء غير جيد على الإطلاق بالنسبة للرجال والنساء الذين يخوضون القتال في ذينك البلدين، كما أنه شيء غير جيد على الإطلاق بالنسبة للمشاعر الوطنية ووحدة الهدف. ولعل نتائج بعض استطلاعات الرأي تؤكد تلك الصفة "غير المرئية" للحربين. فقد تبين من خلال مسح أجرته مؤسستا "آيه بي إس نيوز/ نيويورك تايمز" في بداية فبراير الماضي، أن 52 في المئة من المستجوبين يعتقدون أن الاقتصاد هو أكثر مشكلات أميركا إلحاحاً، في حين لم يزد عدد من يرون أن حربي العراق وأفغانستان تمثلان هم أميركا الأول عن 3 في المئة فقط، وهي نسبة اهتمام لم يسبق لها مثيل من قبل من حيث ضآلتها في أي حرب من الحروب الطويلة التي خاضتها الولايات المتحدة عبر تاريخها. ويشرح مايكل أوهانلون -الزميل الأول بمعهد بروكنجز في واشنطن ومؤلف كتاب "شق طريق الخروج بالقوة في أفغانستان"- أبعاد ذلك بقوله: "من بين كافة حروبنا التي شارك فيها 100 ألف جندي أو ما يقارب ذلك، فإن هذه الحرب هي الحرب الوحيدة في تاريخنا التي شهدت أقل نسبة مشاركة واهتمام من جانب الجمهور والمجتمع. وأسباب عدم مشاركة الجمهور والمجتمع في الاهتمام بتلك الحرب مألوفة ويمكن بيانها كالتالي، إن حربي أفغانستان والعراق، وعلى النقيض من الحروب الكبرى الأخرى التي خاضتها أميركا في تاريخها القريب، لم تكونا حربين يخوض معاركهما جنود تم اختيارهم من خلال نظام القرعة (التجنيد الإجباري) وهو ما ترتب عليه استبعاد أغلبية ضخمة من الأميركيين من الجنسين وعائلاتهم بالطبع من المشاركة في هاتين الحربين والانشغال بهما. فمخاطر تينك الحربين وعبؤهما، تم تحمله بالكامل من جانب العسكريين المتطوعين". وسياسة إبقاء معظم الشباب الأميركي بعيداً عن أخطار الحرب، تجعل الحروب تبدو بعيدة وقصية وغير واقعية في نظر الكثيرين، كما يقول "أندرو باسيفيتش"، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن، وهو أيضاً من قدامى المحاربين في حرب فيتنام ووالد أحد الجنود الذين ماتوا في العراق عام 2007. ويقول "باسيفيتش" إن معظم الأميركيين لم يدعوا للمشاركة في هاتين الحربين وبالتالي فإنهم لا يشعرون -إلا في أضيق الحدود- بتأثيراتهما المباشرة. وعلى رغم أن تأثير الصراع الحالي على الأميركيين قد يكون محدوداً، إلا أن ذلك لا يدل بالضرورة على أن تجربة الحرب لم تغير آراء الأميركيين.. ففي استطلاع حديث للرأي أجراه "مركز بيو للأبحاث" تبين أن 49 في المئة من الأميركيين -وهي أعلى نسبة خلال الأربعين عاماً التي مارس فيها المركز نشاطه في مجال إجراء الاستطلاعات- يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أن تهتم بشؤونها الخاصة في المقام الأول. وترجع "كارول دوهيرتي" المديرة المساعدة في "مركز بيو للأبحاث" هذه النتيجة إلى التراجع الاقتصادي الشديد، وإلى الظاهرة المعروفة باسم "إنهاك الحرب". ويشير باسيفيتش إلى تغير آخر محتمل في توقعات الأميركيين، كنتيجة مباشرة لما حدث في العراق وأفغانستان، وهو ذلك المتعلق بفكرة النصر السريع والحاسم الذي يتوقع من أميركا كدولة متفوقة في المجال التقني أن تحققه على أعدائها، وهي فكرة جرى تقويضها إلى حد كبير في تينك الحربين. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»