علي العمودي (أبوظبي) بينما كان بانتظار حكم المحكمة الذي صدر مؤخراً بحقه، كان ناصر بن غيث يردد بأنه الأكاديمي المسالم، داعية التغيير الديمقراطي السلمي. ولكنه في الواقع كان جزءاً من تحالف يضم جماعات متطرفة تسعى للإطاحة بحكومات شرعية. بحسب ما جاء في تقرير أعده جيمس لونجتون، ونشرته صحيفة «ذا ناشونال». مهد التقرير بالإشارة إلى بدايات ظهور ما يسمى بتنظيم «أحرار الشام» الإرهابي في أعقاب المعارك الشرسة التي شهدتها جبهات الحرب في سوريا، لا سيما في مارس 2013 الذي كان أكثر الشهور دموية في مسار الصراع في سوريا وانزلاق البلاد إلى حرب أهلية، خاصة في محيط مدينة الرقة التي خاض فيها جيش النظام السوري معارك شرسة لمنع وقوعها بيد المعارضة، لتصبح أول مدينة خارج سلطة الدولة، وتتخذ منها المجموعات المسلحة المعارضة عاصمة إقليمية. وشارك في الهجوم على الرقة تنظيم «أحرار الشام»، أحد أكثر الجماعات تطرفاً لإطاحة نظام الأسد وإقامة إمارة إسلامية، والذي ظهر بعد عام من ذلك قوة ارتباطه بتنظيم القاعدة الإرهابي، وبرز كأحد أكثر التنظيمات دموية من خلال عمليات إعدام وتعذيب المدنيين. وفي 3 مارس من ذلك العام وفي ضواحي الرقة، نجح أحد قناصة النظام في اصطياد أحد قادة التنظيم الإرهابي والإجهاز عليه، ولم يكن المقتول سوى محمد العبدولي العسكري الإماراتي السابق، وأحد القيادات الميدانية لتنظيم «الإخوان المسلمين» الإرهابي غير المتسامح مع أتباع بقية الديانات، والذي تآمر لتنفيذ دعواته للإطاحة بحكومة الإمارات، مما تسبب في حظره وإدراجه ضمن التنظيمات الإرهابية. كان محمد العبدولي ومع تقدمه في العمر يزداد تطرفاً في آرائه ومواقفه وأعماله، مما قاده لجبهات القتال في سوريا ووضعه في مقدمة المتطرفين الذين يعتبرون القتال في سوريا جزءاً من حركة أوسع لتأسيس دولة الخلافة بالقوة. وهو ما جعل أتباعه يطلقون اسمه بعد مقتله على أحد معسكرات تدريب المقاتلين الأجانب في سوريا. ومما تجدر الإشارة إليه أن القضاء في الإمارات كان قد دان من قبل العبدولي بتهمة محاولة تجنيد زملائه العسكريين لصالح تنظيم «الإخوان المسلمين» الإرهابي. وإلى جانب نشاطه العسكري والميداني، لم يكن الكثيرون يعرفون أن العبدولي كان أحد أبرز أقطاب «مؤتمر الأمة»، وهو تحالف دولي للمتطرفين و«القاعدة» و«الإخوان المسلمين» ومؤيديهم، تأسّس في تركيا عام 2008، وينشط حالياً في نحو 12 دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتقوم أيدلوجية التحالف على العمل لإسقاط الحكومات الشرعية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي والتطبيق الحرفي للشريعة، على غرار حكم «طالبان» المقبور في أفغانستان. وهو ما فعله بالضبط التنظيم الإرهابي في المناطق التي استولى عليها في سوريا والعراق. كما أن المجتمع الدولي صنّف العديد من قيادات «الأمة» إرهابيين دوليين. وقد استهوى التحالف العبدولي الذي سافر من سوريا إلى تركيا أوائل عام 2012 للقاء حاكم عبيسان الحميدي المطيري، أحد سلفيي الكويت، وهو حالياً الأمين العام لتنظيم «الأمة» الدولي. وقد كان من بين الذين ساهموا في إنشاء تنظيم «الأمة» عبدالعزيز القطري، المعروف بتوفيره الدعم المالي واللوجستي لتنظيم «القاعدة» الإرهابي في العراق، بما ذلك تفجير الفنادق ومحال بيع الكحول قبل أن ينتقل لدعم الجماعات المتطرفة في سوريا. وكان القطري قد بدأ نشاطه الإرهابي بالقتال مع «القاعدة» في أفغانستان، وكان من مستشاري أسامة بن لادن. كما كان وراء تشكيل «جند الأقصى» أحد ألوية «جبهة النصرة»، والتي أُدرجت ضمن التنظيمات الإرهابية لما قامت به من عمليات إعدام وجرائم حرب، وقد قتل لاحقاً في سوريا 2014. كانت آراء المطيري واضحة في اتخاذ العنف والتطرف منهج عمل، وقد نعى ابن لادن بأبيات من الشعر عندما قتل الأخير على يد قوات النخبة الأميركية عام 2011، واصفاً إياه بـ «أسد الإسلام» و«شهيد الأمة». وفي أحد لقاءات العبدولي بالمطيري وافق الأول أن يتولى رئاسة فرع حزب الأمة للإمارات والالتزام بنهج التحالف الأم لإسقاط نظام الحكم في الإمارات و«استعادة البلاد من النفوذ الأجنبي، والانضمام لركب العنف المسلح الذي سيندلع في عموم العالم الإسلامي من أجل التغيير». في وقت لاحق، أصدر المطيري كتاباً في عام 2015، قال فيه «لقد دار حوار بيننا حول مشروع الأمة وأهمية الجهاد في هذه المرحلة، وأنه (جهاد الأمة) وليس فصائل. وأنه - أي العبدولي- وافق واقتنع معي حول الأزمات وما ترتب عليها». وافق العبدولي على الاحتفاظ برئاسته لفرع «حزب الأمة» للإمارات لحين عودته من القتال في سوريا، ولكن رصاصة القناص السوري وضعت حداً لتلك المخططات بعد عام من ذلك اللقاء وخلف معه فراغاً. مر عامان قبل أن يعثر ما يسمى بحزب الأمة الإماراتي على رئيس له عندما جرى الإعلان عن ذلك مصحوباً بشريط فيديو على موقع «يوتيوب» في مايو من العام الماضي ليشكل مفاجأة للجميع. في تلك الفترة، كان الدكتور ناصر بن غيث رهن الاعتقال بانتظار محاكمته للمرة الثانية بتهم تتضمن استغلال وسائل التواصل الاجتماعي للإساءة للعلاقات مع مصر وإثارة القلاقل في البلاد. وكان الكثير من المنظمات الحقوقية الغربية تنظر إليه كأكاديمي محترم ومدافع وحيد عن حقوق الإنسان في بلاده، وتعتبره سجين رأي. ولكن من جهة أخرى، كان ينظر للأكاديمي ذي الـ 47 عاماً من العمر والأستاذ بجامعة السوربون أبوظبي على أنه الخليفة المحتمل للعبدولي. والرابط ومفتاح فهم حقيقة الأجندة السياسية لابن غيث تأتي مع دخول رجل رابع للمشهد. وهو الإماراتي حسن الدقي الذي أعلن نفسه أميناً عاماً لما يسمى «حزب الأمة» في الإمارات. بذلك يكون الدقي وهو في الستينيات من العمر أكبرهم سناً وعلاقة بتنظيم الإخوان المسلمين الذي تعود علاقته به في الإمارات إلى سبعينيات القرن الماضي. ومنذ ذلك الوقت أصبحت آراؤه أكثر تطرفاً، وكان مع العبدولي من مؤسسي ما يسمى بـ«حزب الأمة» الإماراتي. تجلى قرب الدقي من العبدولي عندما قتل الأخير في عام 2013 ليسافر الدقي إلى سوريا ليشهد إطلاق اسم العبدولي على معسكر تدريب المقاتلين الأجانب في سوريا مع مقاتلي تنظيم «أحرار الشام» الإرهابي. في تلك الأثناء، نشر المطيري تغريدة بصورة نادرة تجمع الدقي واضعاً يده على كتف العبدولي المبتسم. وكتب عليها (صورة للشهيد محمد العبدولي رئيس حزب الأمة الإماراتي مع الشيخ حسن الدقي الأمين العام للحزب، وذلك قبل استشهاده بأشهر). ومن المؤكد أن الصورة التقطت في تركيا، حيث يعيش الدقي حالياً فاراً من وجه العدالة الإماراتية التي تتهمه بتأسيس الحزب المحظور والإساءة لسمعة الدولة في الخارج، والعمل على إثارة القلاقل في الداخل. وهي تهم تعود إلى أغسطس 2015، حيث اعتقل ابن غيث بتهم مماثلة. لم تكن الواجهة الأولى لابن غيث مع القانون. ففي 2011، تم اعتقاله مع أربعة آخرين بتهم الإساءة علناً للحكام والدعوة لمظاهرات ضد الحكومة ومقاطعة انتخابات المجلس الوطني الاتحادي. وقد دانتهم المحكمة بالتهم المنسوبة إليهم، وأصدرت أحكاماً بالسجن لمدد تراوح ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام، ولكن تم إطلاق سراحهم بعفو من صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله. ولكن ارتباط ابن غيث بما يسمى «حزب الأمة» ظهر جلياً وبصورة غير متوقعة عندما أعلن الحزب المحظور عشية مثول ابن غيث أمام المحكمة من جديد في الثاني من مايو من العام الماضي بأن الرجل هو رئيسه الجديد. معلناً في بيانه بأن الحزب «سعيد وفخور»، بهذا التعيين، وأنه «يحذر حكومة الإمارات» من إلحاق «أي أذى برئيسه». وقد تزامن مع البيان أصدار شريط مصور يتضمن لقطات من اجتماع للحزب في إسطنبول يظهر فيه الدقي مقدماً ابن غيث كـ«متحدث وباحث في الشؤون الاقتصادية». ولم يعلق ابن غيث من محبسه على إعلان الحزب تعيينه رئيساً، وإنما جاء الرد من أسرته التي دونت على موقع «تويتر» أن هذا «التصرف من شأنه الإضرار بالدكتور في محبسه». ولكن دليل قوة ارتباط ابن غيث بالحزب جاء من الدقي نفسه، فخلال الفترة ما بين ديسمبر 2012 ومارس 2014 نشر الحزب ثلاثة بيانات ومواد مسجلة لابن غيث من أجل «تثقيف أعضاء حزب الأمة الإماراتي». وفي شريط فيديو، نشر على موقع «يوتيوب» أغسطس من العام الماضي، تحدث الدقي عن «اتصالات متواصلة» مع ابن غيث عن طريق «الإيميل» و«سكايب». وقال الدقي، إنه حذر ابن غيث من أن نشاطه المستمر سيؤدي لا محالة إلى اعتقاله، وأن ابن غيث رفض مغادرة الإمارات بسبب تدهور الحالة الصحية لوالديه. وقال الدقي، إنه «في هذه الحالة كان أفضل موقف لصالح ابن غيث هو الاعتراف به ليس كمعارض وحيد، وإنما كزعيم لتنظيم لديه أجندات سياسية معترف بها». وأضاف الدقي مخاطباً ابن غيث «لذلك وأنت في السجن لا خيار أمامي سوي تسميتك زعيماً للحزب». وقال إن ابن غيث «وافق على هذه الترتيبات، وكان واضحاً أن موافقته كان لها معنى خاص». بالنسبة لمنظمات حقوق الإنسان الغربية، فإن دور ابن غيث في حركة «الأمة» لم يكن مريحاً فآثرت تجاهله. وباعتقاد أن اتهامات السلطات الإماراتية للدقي وابن غيث سيكون لها تأثير فقط على نشاطهما في مجال حقوق الإنسان. وبعد أقل من أسبوعين من إعلان ابن غيث رئيساً لما يسمى «حزب الأمة» أصدرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» بياناً صحفياً دعت فيه إلى إسقاط كل التهم، واصفة نشاطاته بأنها «انتقادات سلمية للسلطات الإماراتية والمصرية». متجاهلة تماماً أي أشارة لدور ابن غيث الجديد في حركة «الأمة» أو ارتباطاتها بالمجموعات المتطرفة. وقد أثار الملاحظة مايكل روبن المسؤول السابق في «البنتاجون»، وحالياً الباحث المقيم في المعهد الأميركي للأعمال في واشنطن الذي اعتبر أن تجاهل هذا الدور من قبل المنظمة «خطأ». يذكر أن غالبية المعلومات التي تستند إليها المنظمة ترد إليها من منظمة الكرامة في جنيف التي تقدم نفسها على أنها «محاربة للظلم في العالم العربي منذ 2004». وكانت هذه المنظمة قد اعتُبرت ضمن «تحالف مجموعات حقوق الإنسان»، والتي تضم كذلك منظمة العفو الدولية ومنظمة «هيومن رايتس ووتش» اللتين كانتا قد انتقدتا الأحكام الصادرة بحق 69 إماراتياً من أعضاء التنظيم السري للإخوان المسلمين المحظور، والذين كانوا يخططون لقلب نظام الحكم. وعندما يلقي المتابع نظرة من كثب على «منظمة الكرامة»، يتضح له أنها ليست بالحيادية التي تقدم بها نفسها. فمنذ 2008، وهي تضغط في أروقة الأمم المتحدة لصالح الدقي، مستخدمة معلومات يقدمها حاكم المطيري من «حركة الأمة». وينشط ضمن منظمة الكرامة مؤسسها القطري عبدالرحمن النعيمي الذي تتهمه السلطات الأميركية بإرسال ملايين الدولارات لتمويل عمليات تنظيم «القاعدة» الإرهابي في العراق، والذي اعتبرته صحيفة «الديلي تلجراف» البريطانية أنه «أحد أكبر ممولي الإرهاب في العالم». وبخلاف انتقاد منظمة «هيومن رايتس ووتش» لدول ذات سيادة، فإن تقريرها لعام 2015 نشرت تفاصيل عن تجاوزات الجماعات المسلحة في سوريا، ومن بينها «أحرار الشام»، وما تقوم به من إعدامات وجرائم حرب، واستخدام المدنيين دروعاً بشرية، وهي المنظمة ذاتها التي نعت منذ عامين قائدها الميداني محمد العبدولي الذي خلفه في رئاسة ما يسمى «حزب الأمة الإماراتي».