ما زلنا نتأمل الفلذات الشعرية التي انتقاها الشاعر العباسي السريّ الرفاء في الجزء الرابع من كتابه البديع “المحب والمحبوب والمشموم والمشروب” وهو الذي وضع عنوان الباب التاسع “في مزجها والحباب” واستهله بقول ابن المعتز: فلما صبها في الكأس سارت كما سار الشجعان إلى الجبانِ وقد لبست خمارا من حبابٍ كسلخِ الأيم أو دُر الجمان فخلت الكأس مركز أقحوان وتربته سحيق الزعفرانِ فالشراب هو الذي يقتحم بجسارة عالم شاربه المنتظر باستسلام لصولاته؛ الخمر هي التي تسير بقوة كما يسير الشجاع إلى الجبان وقد ارتدت خمارا من حباب يشبه جلد الحية الذكر عند سلخه أو دُر اللؤلؤ، حتى ليبدو الكأس في عين الشاعر وقد استحال إلى بؤرة من الأقحوان ترسب فيها مسحوق الزعفران، ولا يسرف ابن المعتز في استحضار هذه المواد الثمينة النادرة لأنه كما قيل يصف ماعون بيته. ويقول أحمد ابن أبي فنن عن هذا الحباب: أستلُّ من تحت الزّبد مدامة مثل الوَقَدْ أطيب في الكأس إذا جاءتك من ريح الولدٍْ فهو يمتص من تحت الزبد خمرا متوقدة، يضوع نفحها في وجهه بأطيب من ريح الذكر إذا بُشَّر بمولده، وهذه إشارة ثقافية حادة لعادة متأصلة لدى العرب في الفرح بمولد الصبيان والبهجة التي تغمرهم بروائحهم. وتكمن الطرافة هنا في هذا الجمع بين مجالين متباعدين في نسق شعوري واحد، مما يعطي الصورة تأثيراً جمالياً بارزاً، وإذا كان الحباب لا يتصاعد إلا بالمزج فإن المؤلف يرصد نثراً ما يطيب به هذا المزج في قطعة أدبية طويلة نجتزئ منها قوله: “والشعراء يمدحون ماء المطر للمزاج ويصفونه بالصفاء والرقة، والخفر والشيم، وأنه عذب نمير، قد فصلته الشمال، فأعلاه سلسال، وظاهره رقراق، وقراره حصباء، إلخ”. ثم يقول مسلم: وماء كعين الديك لا يقبل القذى إذا درجت فيه الصبا خِلته يعلو قصرنا به باع الشمول وقد طفت فألبسها حلما، وفي حلمها جهلُ فعين الديك هي التي يضرب بها المثل في الصفاء، لأنها لا تقبل القذى، وإذا مست الريح هذا الماء خلته يتصاعد بتموجاته، وقصر باع الخمر كسر حدتها، فكأن الماء يلبسها ثوبا من الحلم والأناة، وإن كان حلمها عنيفا وأناتها حمقاء، ومن اللافت أن الشعراء يسبغون على مشاربهم صفات قومهم، فهم يمتدحون الحلم في بعض المواقف التي تتطلب، ويشيدون بضده وهو الجهل والحمق والاندفاع في مواقف أخرى. والخمرة في مخيلة الشعراء إلى الأنثى منها إلى الرجل في شكلها ودبيبها، وسحرها وفتنتها، فهذا ابن المعتز يقول عنها: قهوة زُوجت بماء سحاب فكسا وجهها نقابُ حَبابِ مثل نسيج الدروع أو مثل ميمات تدانت بها سطور كتاب وتراها في كأسها مثل شمس طلعت في ملاءة من سراب فإذا صادفت فؤادا خليا لم تدعه فردا بلا أحباب