يواجه المتظاهرون الذين خرجوا بعشرات الألوف، للاحتجاج على حكم بوتين، بنية قوية متجذرة تتخلل مفاصل الحكومة والصناعة، وتحقق أرباحاً هائلة، ولديها استثمارات ضخمة في الوضع القائم. وهذه العلاقات تعطي شبكة متغلغلة من البيروقراطيين، ورجال الأعمال، والطفيليين الفاسدين نصيباً حيوياً في انتخابات الرابع من مارس المقبل الرئاسية. ففوز بوتين في تلك الانتخابات سوف يحمي مزاياهم؛ بيد أن هذا الفوز وحده لن يكون كافياً في نظر بوتين، إلا إذا ما كان بنسبة كبيرة توفر له تفويضاً شعبياً. فالتفويض الذي يتوافر له هو الذي سيذكر هؤلاء الذين يشكّون فيه بأنه يمتلك بالفعل القوة التي تمكنه من الدفاع عن أتباعه وضمان ولائهم، في الآن ذاته. ويشار في هذا السياق إلى أن الأنساق العليا من الحكومة والصناعة مملوءة برجال بوتين، وأن المناصب في روسيا تحقق لمن يحتلونها ما هو أكثر بكثير من مجرد المرتبات الرسمية. ووفقاً لدراسة أعدتها مجموعة من الصحفيين والاقتصاديين الروس، طبعت في مجلة "نيو تايمز" التي تصدر في موسكو، يتحكم بوتين وأتباعه ودائرته من الأصدقاء فيما يقرب من 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما دعا "اندري إيلاريونوف"، المستشار الاقتصادي السابق لبوتين، للقول بأن الكثيرين في روسيا يقرون بأن بلدهم "فاسد"، لكن القليلين منهم هم من يعرفون حجم وعمق هذا الفساد. وشركة "جازبروم" المملوكة للدولة، وهي أكبر شركة للغاز في العالم، تقدم لنا صورة مختصرة عن الكيفية التي يعمل بها النظام في روسيا. فإنتاج هذه الشركة يمثل 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، والذي قدره البنك الدولي بـ1.47 تريليون دولار عام 2010. بيد أن هذا ليس كل شيء، حيث تمتلك تلك الشركة إضافة لذلك طائفة من الفروع تشمل ضمن ما تشمل محطات تلفزة تعكس بدقة ودأب الرسائل الرسمية ومزاج المسؤولين. وعندما كان بوتين يحكم قبضته على روسيا بعد أن تولى الحكم عام 2000 كانت جازبروم تمثل أولوية بالنسبة له. وفي عام 2001، عين بوتين صديقاً قديماً له من بطرسبرج يدعى "اليكسي ميلر" مديراً تنفيذياً للشركة، وفي العام التالي أصبح صديق آخر له، ومن بطرسبرج كذلك، رئيساً لمجلس إدارة الشركة كلها. ولم يكن هذا الصديق سوى "ديمتري ميدفيديف" الذي أصبح رئيساً لروسيا عام 2008 بترتيب من بوتين الذي اضطر للتنحي جانباً بسبب القيود التي يفرضها الدستور على الحد الأقصى لفترة ولاية الرئيس. وفي سبتمبر الماضي، أعلن ميدفيديف أنه لن يسعى للبقاء في منصب الرئيس، كي يتيح الفرصة لبوتين كي يرشح نفسه للعودة للكريملين مجددا، وهو الإعلان الذي كان سبباً في الاحتجاجات التي بدأت في ديسمبر مطالبة بانتخابات نزيهة. في روسيا بوتين يتم التحكم في السلطة السياسية، وبنية الحكومة، وقطاع ضخم من الموارد الاقتصادية، من قبل شبكة من الـ"سلوفيكي" يطلق عليها "إيلاريونوف" لقب "المؤسسة" ("سلوفيكي" كلمة روسية تعني "القوة" وتشير إلى المسؤولين المهمين من الشرطة والجيش والاستخبارات). ويقول "إيلاريونوف"، الزميل الحالي بمعهد "كاتو" الليبرالي في واشنطن، عن شبكة القوة هذه إنها "تمتلك النظام السياسي والبلد بأكمله... فهي شريحة كبيرة من الثروة العقارية في مختلف أنحاء روسيا، وكتلة ضخمة من التدفقات المالية … أي مليارات الدولارات". وفي الآونة الأخيرة رسمت مجلة "نيوز تايمز" خريطة كبيرة في إحدى صفحاتها تبين فيها المواقع والعلاقات التي تربط بين 104 أشخاص من الشخصيات ذات النفوذ في الحكومة وفي الصناعة. وتبين من تلك الخريطة أن الـ22 منصباً الأكثر قرباً من بوتين على قمة بنية السلطة، يشغلها 14 شخصية من عملاء جهاز الاستخبارات السوفييتية الرهيب "كي. جي. بي"، أما العدد المتبقي فكانوا من المنحدرين من نفس مسقط رأسه (أي بطرسبرج) أو من أصدقائه المقربين. وعملاء الـ"كي. جي. بي" يشغلون مناصب نائب رئيس الوزراء، ووزراء الداخلية، وخدمات الهجرة، والإعلام والنقل والمواصلات، والجمارك، وكذلك منصب سكرتير مجلس الأمن القومي، بالإضافة إلى مناصب كبرى في صناعات المصارف والمال، والنفط والغاز، والسكك الحديدية والمطارات، والإنشاءات، وغيرها من الصناعات. ويقول "نيكولاي بيتروف"، الزميل بمعهد كارنيجي فرع موسكو، "إن المحتجين لن يكونوا هم من يقوض بوتين في نهاية المطاف، وإنما الذي سيفعل ذلك هم المتنفذون وأصحاب المزايا الذين قد يقررون يوما ما أنهم بحاجة إلى راعٍ جديد أكثر ملاءمة". ولتوضيح ذلك يضيف: "إن النخبة السياسية هي التي ستحدث التغيير في نهاية المطاف، لأن هذه النخبة إذا لم تكن قادرة على تغيير الزعيم، فإن الزعيم سوف يأخذ النظام معه إلى الهاوية، وهو ما سيتيح الفرصة لنظام جديد كي يأتي مكانه. لكن" إيلاريونوف" يرى أنه قد يكون من الصعب على النخبة التخلي عن كل تلك الأصول المالية، وأماكن السكن الفاخرة، والقصور والمنازل الريفية، والحسابات المصرفية، والسيطرة على التدفقات المالية، والقوة والسلطة التي يتمتعون بها داخل روسيا وخارجها، لمجرد أن هناك 100 ألف شخص قد تجمعوا للاحتجاج في شوارع موسكو. وأضاف أنهم لن يتخلوا عن كل هذا بتلك السهولة، وأنهم "سيحاولون البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة... وربما للأبد إذا كان ذلك ممكناً". كاثي لالي - موسكو ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"