لم يكن اهتمامه وشغفه باللغة العربية وليد صدفة. ولم تكن مثابرته المضنية في تأليف كتاب لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها باستخدام اللغتين الإنجليزية والإسبانية أمراً هيناً أو بسيطاً، ولا سيما أن لغته الأولى “الإسبانية” باعتباره أرجنتيني المولد والجنسية. تربيته ونشأته الأولى عضدت صلته العميقة بجذوره العربية السورية، فلم تغيبه سنوات المهجر عن أصله، ولم تفقده هويته الأولى، وعاش سنوات عمره يكرس اهتمامه وجهده في سبيل إعلاء لغة الآباء والأجداد الأصلية، ويعتبرها رسالته الأولى في حياته. ما هي تفاصيل القصة؟ وأين كانت البداية؟ ولماذا الاهتمام والتركيز على تأليف أكثر من سبعة كتب تكرس لتعليم العربية بلغات أخرى؟، وما هي الدوافع .. والمشاكل.. والمعوقات.. والطموحات التي يعول عليها ليجني ثمار جُهد سنوات عُمره؟ جاسينتو حسن، أرجنتيني الجنسية من أصول سورية، من مواليد 1941 في العاصمة بوينس آيرس، يعمل ملحقاً إدارياً بالسفارة الأرجنتينية في أبوظبي، وقد هاجر والده التاجر في محافظة طرطوس السورية إلى الأرجنتين عام 1927 شأنه في ذلك شأن آلاف البشر الذين تطلعوا إلى بلاد المهجر بحثاً عن الرزق . حرص والده منذ نعومة أظافره أن يعلمه العربية، في إدراك مبكر أنها الوسيلة الوحيدة التي تحفظ لأبنائه هويتهم وتربطهم بدينهم وتاريخهم ووطنهم، وخصص له معلماً لتعليمه وتحفيظه القرآن الكريم، وتعليمه القراءة والكتابة، وتدريس التاريخ العربي والإسلامي، ومن ثم أثمر هذا الاهتمام بأن أكمل حفظ القرآن الكريم وعمره سبع سنوات. ويقول جاسينتو حسن: “أتقنت اللغة العربية إلى جانب الإسبانية، والتحقت بالتعليم الثانوي، وكنت خلال هذه السنوات شغوفاً بالقراءة والمطالعة بالعربية أكثر من الإسبانية، وقرأت لعدد كبير من الكتاب العرب وفي مقدمتهم جبران خليل جبران والمنفلوطي، ودأبت على قراءة الأدب والتاريخ وعلوم الدين، وفهمت ونشأت منذ الصغر على أن “الدين - المعاملة”، ولم أكن أتصور يوماً أن أتقن اللغة العربية وإجادتها، أو إمتلاك أدواتها بسبب الإعراب، وصعوبة النحو والصرف”. البداية الحقيقية عن بدايته الحقيقية مع اللغة العربية، يقول جاسينتو حسن: “بعد دراسة اللغة العربية لمدة ثلاث سنوات بالمرحلة الثانوية، وبعد دراسة اللغة اللاتينية القديمة في نفس الفترة، وجدت أن اللاتينية تتضمن ست حالات إعراب وتصريف، ومن ثم بدأت استوعب أهمية تعلم الإعراب، والتحقت بالجامعة، وبعد خدمة الجيش كرست إهتمامي لتعليم أبناء الجالية العربية في الأرجنتين اللغة العربية، إلى جانب تعليم أبناء غير الناطقين بالعربية هناك، ولمدة تزيد عن 25 سنة”. ويضيف جاسينتو: “سنوات الغربة في المهجر جعلتني أشعر بأهمية اللغة الأم، ومدى حاجة العرب هناك إلى وجود مؤلف يعين أبنائهم على تعلم العربية بشكل صحيح وفعّال، وقمت بتأليف سبعة مؤلفات بالإسبانية لشرح طرق تعليم العربية بداية من عام 1973، وفي الطبعة الثانية عام 1975 طورت الفكرة، وظهرت كُتبي التي استعان بها المركز الإسلامي في بوينس آيرس، وقمت بالتدريس لأبناء الجالية العربية هُناك لمدة سبع سنوات”. ويكمل جاسينتو: “تابعت التأليف والتطوير، ونشرت مؤلف تعليم العربية عن طريق الإسبانية عام 1999 في كتاب من جزئين وأشرطة فيديو لمدة أربع ساعات، وكثيرا ما استعان بها الطلاب، وأعانتهم كثيراً، ولمست ردود أفعال إيجابية هناك، وذاع صيت الكتب في تشيلي والأورجواي كذلك، وكل ذلك النجاح أزعم أنه تم بصورة شخصية وبمجهود ذاتي صرف، لانعدام دور النشر العربية في بلاد المهجر، وتحملت عناء التأليف والمراجعة والتكلفة والإشراف على الطباعة إلى مراحل الشحن والنقل والتوزيع والبيع”. ويعلق جاسينتو: “ربما كانت مرحلة البيع أصعب المراحل، لأنه يصعب على الإنسان أن يسوق ويمتدح عملاً هو من إنتاجه في الأساس”. العربية في المهجر عن حال اللغة العربية في بلاد المهجر، يقول جاسينتو: “للأسف اللغة العربية في بلاد المهجر في خبر كان!، لأن المغتربين الأصليين الأوائل ماتوا، ولأن المهاجرين الأوائل كانوا يقضون ساعات طويلة خارج المنزل لظروف العمل وطلب الرزق ومن ثم اعتمدوا في تربية أبنائهم على الأمهات “الزوجات”، وأغلبهن كن أجنبيات ومن بلاد المهجر، وبالتالي فرضت لغة البلاد وثقافتها نفسها على الأبناء، وجاء الجيل الأول يحمل قليلاً من ثقافة الأب الأصلية، وتناقص هذا القدر في الجيلين الثاني والثالث وهكذا حتى اضمحلت اللغة العربية، ولم يحافظ عليها إلا القليل ممن تمسك بأصوله وثوابته وحرص على التواصل والزواج من الوطن الأصلي، أو بتكرار الزيارات السنوية، ومن خلال الاستفادة من المركز الإسلامي هناك، مع نقص الأعمال الثقافية من كتابة وطباعة وترجمة، وتجاهل الإعلام هناك، أو انعدام تأثير الثقافات العربية والإسلامية وتقصير الملحقيات الثقافية في سفارات الدول الناطقة بالعربية عن القيام بدورها وسط متغيرات عالمية ودولية عديدة، فهناك في “الأرجنتين وحدها ما يقرب من أربعة ملايين نسمة من أصل سوري ولبناني وعربي ولا نجد منهم إلا بضعة آلاف ممن يجيدون العربية البسيطة”. ويضيف: “إن اللغة العربية في بلاد المهجر بشكل عام ارتبطت بالديانة “الإسلام”، وتعلمها المسلمون هناك في المركز الإسلامي، ومما لاشك أن تعلم وحفظ القرآن ساعد كثيراً على تعلم كثيرين اللغة العربية، بينما نجد أن الأخوة المسيحيين هناك لم يهتموا بتعليم أبنائهم العربية، لأن معظمهم يعتقد أنه إذا افتقد تعلم العربية، فإنه لن يفتقد ديانته، أي أنهم استطاعوا أن يفصلوا ما بين الجانبين”. عن سر حرصه على امتداد التواصل مع جذوره في موطنه الأصلي في سوريا يقول جاسينتو: “لم أفقد تواصلي مع بلدي وموطني الأصلي في أي مرحلة من حياتي، فحياة الاغتراب والمهجر قاسية جداً، وربما كانت ظروف التنشئة وحرص والدي على هذا الارتباط بالوطن والثقافة العربية والإسلامية ما ساعدنا على ذلك، فقد حضرت إلى سوريا عام 1964 وتزوجت منها، وعادت زوجتي مع أبنائي عام 1977 ليتعلموا في سوريا، فابنتي الكبرى مهندسة عمارة، والثانية خريجة التربية وعلم النفس، وابني يعمل محامياً في سوريا، وأحمد الله على ذلك، وإلا كانت ثقافة بلاد المهجر أثرت عليهم، فهم تزوجوا وأقاموا في سوريا مع أبنائهم منذ هذا التاريخ”. ويضيف: “عشت في سوريا ما بين 1983 - 1999 حيث عملت خلالها بالسفارة الأرجنتينية في دمشق، وعدت إلى بيونس آيرس عام 2000 إلى أن جئت للعمل في سفارة الأرجنتين في أبوظبي، وحيث أعمل بها حتى الآن”. قصة المغتربين عن أعماله يشير جاسينتو حسن، قائلاً: “في عام 2002 جمعت قصص المغتربين العرب في الأرجنتين، وأسباب الهجرة وظروفها والمشاكل التي تواجه المهاجرين، وكيفية تأقلمهم وتكيفهم مع الحياة الجديدة في كتاب بالعربية ووضحت فيه أيضاً تاريخ الصحافة العربية أو دورها في بلاد الهجر، وبالأخص الأرجنتين منذ عام 1897 نشره مركز زايد للتنسيق والمتابعة في أبوظبي وهو الآن جاهز للنشر باللغة الإسبانية، ثم أصدرت كتابا بالعربية “اقرأ لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، إلى جانب مؤلفاتي عن تعليم العربية التي أشرت إليها.ويضيف: “أعكف حالياً على الانتهاء من كتاب قصة المغتربين العرب في بلاد المهجر في جزئه الثاني، حيث أضيف إليه معلومات مهمة للغاية عن حياة المغتربين المشاهير الذين عاشوا في البرازيل وتشيلي والأرجنتين من كتاب وشعراء وفلاسفة ومؤرخين وإعلاميين واقتصادين وغيرهم، وآمل الانتهاء منه قريباً”. خصوصية اللغة العربية اللغة العربية رغم صعوباتها حتى على أبنائها فإنها لغة جمال وفصح وبلاغة، ومليئة بالصور البلاغية والمعاني ذات الدلالات الجميلة، وهي لغة ليست قاصرة - كما يزعم البعض - في مجال البحث العلمي، لكن ربما يحتاج انتشارها وتداولها وتعلمها شيئا من المرونة ولا سيما عند استخدام المصطلحات العلمية الدارجة في كل اللغات الأخرى، ومن ثم يمكن إدخال هذه المصطلحات قاموس الاستخدام اليومي حتى تصبح سهلة ومرنة دون الاعتماد على الكلمات الفصحى الجامدة وغير المستخدمة. «كتابي العربي» عن مؤلفه “كتابي العربي” لتعلم العربية عن طريق الإنجليزية في جزئيه الأول والثاني، يقول جاسينتو حسن: “الآن الناس يتخذوا من اللغة وسيلة وليس غاية أو هدفاً، وهذا خطأ كبير، فاللغة العربية لغة صعبة حتى على أبنائها من حيث القواعد والنحو والاملاء، ولقد درج تعلم اللغة العربية في بلداننا العربية على الأخذ بالطريقة التوليفية في التعليم، حيث يبدأ الطالب بتعلمها غيباً أو حفظاً، دون الدخول في عالم التحليل، فكانت اللغة علة للمدرس وللطالب معاً، فالطريقة التوليفية قد تناسب اللغة الإنجليزية، ولا تفيد اللغة العربية، لذلك حرصت في كتبي على المخرج بين الطريقتين التحليلية والتوليفية في وقت واحد، فالتحليلة تبدأ بتعليم الطفل الحرف ثم الكلمة ثم الجملة، وهذا يتسق مع الاتجاه المعروف من “الجزء إلى الكل” وليس العكس، وأنا أميل إلى هذا الاتجاه في تعليم اللغة العربية حتى يتأسس المتعلم عند تعلم اللغة بشكل سليم، فمن خلال حفظ ومعرفة الأحرف يمكن للطفل أن يكون كلمة ومن ثم جملة، ونعتمد على ألوان الحروف واستخداماتها في الكلمة، ومراعاة التدرج من البسيط إلى المركب”. ويأمل جاسينتو من خلال “الاتحاد” أن يستعان بمؤلفاته في تعليم اللغة العربية من قبل الجهات المعنية، وأن يلقى مؤلفه اهتمام التربية والتعليم وإتاحة الفرصة للاستفادة منه أمام الناطقين بالعربية والأجانب الموجودين في الإمارات، وأن يسهم هذا الجهد في نشر اللغة العربية وثقافتها، وثقافة وحضارة العرب، ويقول: “إن اللغة تسهم في تكوين العاطفة. فمن خلال حب اللغة، يمكن أن تحب أهلها، فاللغة وسيلة إيجابية وفعالة في تكوين المشاعر والاتجاهات بين الشعوب، ووسيلة أهم في نشر الثقافة والحضارة”.