احتلت منطقة جبل طارق، وهي شبه جزيرة تديرها بريطانيا في أقصى الطرف الجنوبي لإسبانيا، محور السجال مؤخراً ضمن تداعيات قضية الخروج البريطاني. ومسودة الموقف التفاوضي للاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بشروط خروج بريطانيا من التكتل تعطي إسبانيا فيما يبدو سلطة القول الفصل بشأن أي صفقة قد تُتخذ بشأن جبل طارق. ويعتقد بعض المحللين أن لندن ستضطر إلى التفاوض مباشرة مع مدريد في أي اتفاق يتعلق بالخروج البريطاني يؤثر على جبل طارق. وهذا يعطي ورقة تفاوض قوية لإسبانيا التي ترفض الاحتلال البريطاني القائم منذ ثلاثة قرون للمنطقة، ويقدم لمدريد فرصة لتجديد دعواتها بالسيادة المشتركة على المنطقة التي تعتمد بشدة على إمكانية الدخول إلى إسبانيا. وهذا يعطي أيضاً فرصة لبعض القوميين البريطانيين للتذمر بل وتهديد مدريد بمزيد من التصعيد. ويعيش نحو ثلاثة آلاف مواطن بريطاني في المنطقة التي تستمد اسمها من القائد العربي طارق بن زياد. وفي الاستفتاء على الخروج البريطاني العام الماضي، صوت سكان جبل طارق بشبه إجماع على البقاء في الاتحاد الأوروبي، ويرجع هذا في جانب كبير منه إلى علمهم بأن ترك السوق الأوروبية المشتركة سيدمر تجمعهم السكاني الصغير بشكل كبير. وجبل طارق محل نزاع ومفاوضات منذ زمن طويل في أوروبا. ففي عام 1704، استولت قوة استكشافية بقيادة بريطانية على القطاع الضيق بجانب الجبل ضمن الحرب المعقدة الإسبانية على ملك البلاد. وانتهى الصراع في عام 1713 بسلسلة من معاهدات السلام تم التوقيع عليها في مدينة «أوتريخت» الهولندية. وإحدى المعاهدات تعطي حق السيادة على جبل طارق للبريطانيين. ووفرت المنطقة للبريطانيين موقعاً استراتيجياً يتمكنون من خلاله من السيطرة على حركة الملاحة في مدخل البحر المتوسط. وسرعان ما ظهرت تحديات للسيطرة البريطانية على المنطقة. فقد طالب الهولنديون الذين شاركت قواتهم في غزو عام 1704 بحقوق في المنطقة، ولكن الدبلوماسيين البريطانيين تغلبوا عليها. ثم حاولت إسبانيا استعادة السيطرة على المنطقة في مراحل مختلفة من القرن الثامن عشر. ففي عام 1727 فرضت قوة إسبانية حصاراً على جبل طارق براً وبحراً وشنت قصفاً مكثفاً. ولكن الحامية البريطانية صمدت أمام الهجوم، بينما أصاب العطب المدافع الإسبانية وعجزت من مواصلة القصف. وبعدها رفض البريطانيون عدة طلبات إسبانية بالتخلي عن المنطقة. ثم شنت قوات فرنسية وإسبانية مشتركة هجوماً طويل الأمد على المنطقة من عام 1779 إلى عام 1783 في أطول حصار تواجهه القوات البريطانية. ودمرت القذائف الإسبانية المتواصلة من البر والبحر جانباً كبيراً من البلدة من ناحية البحر، ولكنها فشلت في تفكيك تشكيلات الفرق البريطانية على المنحدر الصخري للجبل. وفي سبتمبر عام 1782 حشد الإسبان والفرنسيون نحو 35 ألف جندي حول جبل طارق. وأطلقوا وابلاً من القذائف من البر والبحر بلغ نحو 40 ألف قذيفة مدفعية. ولكن هذا الهجوم الكبير فشل أيضاً. وظلت جبل طارق أرضاً بريطانية. وشهد القرن التاسع عشر أفولاً لنجم إسبانيا كقوة استعمارية، وصعود بريطانيا كقوة مهيمنة على مستوى العالم. ولم يكن هناك الكثير من الشك في مكانة جبل طارق باعتبارها قاعدة بحرية بريطانية محورية. ولكن النزاع تصاعد مرة أخرى في ظل حكم الزعيم الفاشي الإسباني في القرن العشرين فرانشيسكو فرانكو. ولم يذعن فرانكو لضغوط ألمانيا النازية كي يستولى على المنطقة في عام 1940 وتمسك بحيادية بلاده، ولكنه أغلق الحدود البرية لجبل طارق في عام 1969. ولم تُفتح الحدود بشكل كامل إلا في عام 1985 بعد عقد كامل من وفاة فرانكو، وقبل عام من انضمام إسبانيا لما يعرف الآن باسم الاتحاد الأوروبي. ووثائق الخارجية البريطانية من ثمانينيات القرن الماضي تشير إلى أن الملك الإسباني خوان كارلوس الأول أبلغ السلطات البريطانية في ذلك الوقت بأنه ليس من مصلحة إسبانيا استعادة جبل طارق في المستقبل القريب، لأن هذا يؤدي على الفور إلى مطالبات من المغرب باستعادة سبتة ومليلية وهما بلدتان صغيرتان في شمال أفريقيا ما زالتا خاضعتين لإسبانيا حتى الآن. ولكن هناك توترات ونزاعات على مناطق الصيد ووجود غواصات نووية بريطانية في ميناء جبل طارق. والمنطقة التي أصبحت ملاذاً مثيراً للشبهات لشركات القمار وصناديق التحوط ما زالت موالية بشدة لبريطانيا. وفي استفتاءين أجريا في عامي 1967 و2002 اختار كل المصوتين تقريباً التمسك بالارتباط بلندن. ولكن الخروج البريطاني سيختبر هذا الولاء مرة أخرى. فنحو 12 ألف عامل يعبرون الحدود كل يوم من مقاطعة الأندلس المجاورة، وجبل طارق تستورد منها كل شيء تقريباً. وقد أشار رئيس الحكومة في جبل طارق «فابيان بيكاردو» في وقت سابق من العام الجاري إلى أن التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي كان محزناً للغاية لسكان جبل طارق نظراً لما قد ينتظرهم من متاعب. * محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»