عندما يُقدم أحد الآباء على إساءة معاملة أبنائه ويهملهم تماماً، فإن الحكومة تتدخل لصالح الأطفال، لكن من يتدخل في الحالة التي تنتهك فيها الحكومات حقوق الشعوب وتتقاعس عن تلبية احتياجاتهم الأساسية؟ قبل ثلاث سنوات تطوعت الأمم المتحدة بالإجابة عن هذا السؤال، وتبين أنها هي من سيتولى الأمور· وفي القمة الشهيرة التي احتفلت بمرور ستين عاماً على تأسيس المنظمة الأممية العتيدة اتفق 171 بلداً على أنهم مستعدون للتدخل، بالقوة لو استدعى الأمر ذلك، إذا ما فشت إحدى الدول في حماية شعبها، وقد اعتُبر التعهد وقتها محاولة دولية للتكفير عن الفشل الذريع في وقف الإبادة الجماعية برواندا، وتنديد بالطريق الأحادي الذي تنتهجه الولايات المتحدة على الساحة الدولية· وفي تعبير واضح عن هذا التوجه الدولي الجديد الداعي للتدخل قال ''بول مارتن''، رئيس الوزراء الكندي وقتها: ''إني أشعر بالسعادة اليوم بعدما أصبحت حماية الشعوب، وهي فكرة كندية، مسؤولية العالم كله''، مضيفاً ''أن الأمم المتحدة لن تشيح بوجهها عن معاناة الناس، أو تنظر بعيداً''· لكن منذ ذلك الوقت أشاحت الأمم المتحدة بوجهها عما يجري في دارفور وما تقوم به الحكومة السودانية ضد أهالي الإقليم، كما غضت الطرف عن النظام الحاكم في زيمبابوي وإرهابه للشعب· والآن تجد الأمم المتحدة نفسها مغلولة اليدين أمام الطغمة العسكرية الحاكمة في بورما بذريعة السيادة الوطنية، هذا في الوقت الذي يترك فيه النظام العسكري الملايين من ضحايا إعصار ''نارجيس'' يواجهون المجاعة والكوليرا والأوبئة الأخرى بدل السماح لفرق الإغاثة الأجنبية بدخول البلاد وتقديم المساعدة للمنكوبين· وحتى في الولايات المتحدة التي كانت تفضل التحرك بمفردها باتت، في ظل مصاعبها في العراق ومناطق أخرى، أكثر حرصاً على إشراك القوى الدولية والبحث عن حلول جماعية للمشاكل المستعصية تنسجم مع القانون الدولي· وليس غريباً أن يتعهد مرشحو الانتخابات الأميركي الثلاثة بإعادة الدفء إلى علاقاتهم مع الحلفاء وتعزيز الثقة في العمل المشترك· لكن الأزمة التي تمر بها بورما تظهر صعوبة ترجمة مبدأ ''مسؤولية الحماية'' إلى تحرك دولي على أرض الواقع· فمن غير الممكن تصور المعاناة التي يكابدها الملايين من سكان بورما جرّاء الإعصار الذي ضربهم، في حين تقف الأمم المتحدة عاجزة عن التدخل، ويصر النظام العسكري على إبقاء الوضع كما هو· وللتدليل على تعنّت النظام العسكري أخبرني الدكتور ''كريس باير'' المتخصص في علم الأوبئة من جامعة ''جونز هوبكنز'' الأميركية كيف قضى سنوات طويلة في مناطق قريبة من بورما يحاول إقناع حكامها بمساعدة السكان وتزويدهم بما يلزمهم· لكن الخلاصة التي خرج بها من محاولاته العديدة طيلة السنوات السابقة أن ''النظام لا يرى مصلحة في مساعدة السكان وتلبية احتياجاتهم الأساسية· وفي هذا الإطار يمكن فهم التصرفات المشينة التي أقدم عليها العسكر بمنع دخول المساعدات الخارجية، ذلك أن ما يهمه بالدرجة الأولى هو استمرار النظام وبقاؤه على قيد الحياة حتى لو كان ذلك على حساب الشعب ومصلحته· والواقع أنه حتى قبل أن يضرب الإعصار بورما ويُلحق بها دماراً كبيراً ويشرد عشرات الآلاف من الأسر، كان يعيش الشعب ظروفاً صعبة، حيث ثلث الأطفال تحت سن الخامسة يعانون من سوء التغذية· وبموازنة عامة للقطاع الصحي لا تتجاوز 3% من الإنفاق الحكومي مقارنة مع 40% موجهة للنفقات العسكرية، ليس غريباً أن تعاني البلاد من نقص حاد في المستشفيات والأطر الصحية· وفي بعض مناطق البلاد مازالت بعض الأمراض التي اختفت في دول أخرى نامية مثل السل والملاريا تقتل الآلاف من الأشخاص سنوياً· ومع أن الحكومة فشلت في تحذير الأهالي من قدوم الإعصار، وأخفقت في مساعدتهم لاحقاً وتوفير المستلزمات الضرورية من مأوى ودواء، إلا أنها تصر على منع دخول فرق الإغاثة الأجنبية· ويبدو أن النظام لا يريد للغرب أن يكون له فضل التواجد داخل البلاد وتوزيع المساعدات على المنكوبين خشية تراجع مصداقيته وتكريس ''القوة الناعمة'' للغرب· وبدلاً من نشر الجيش في المناطق المتضررة بالجنوب، حيث تشرد 1,5 مليون إنسان وغمرت المياه أكثر من 65% من الأراضي، أرسلت الحكومة أعداداً كبيرة من قوات الجيش إلى الشمال لترويع السكان ودفهم للتصويت بنعم في استفتاء يهدف إلى إدامة الحكم العسكري· وعندما ذكّرت فرنسا الأمم المتحدة بمبدأ ''مسؤولية الحماية'' سارعت الصين وروسيا وشريكهما في التصويت ''تامبو مبيكي'' إلى إغلاق الأبواب في وجهها· وهكذا تظل أطنان من المساعدات عالقة قبالة سواحل بورما دون أن تصل إلى أصحابها، بينما ينعم الجنرالات بالراحة والحياة الرغدة في العاصمة، كما تُهنئ الصين نفسها بمنع التدخل الأممي ووقوفها بجانب السيادة الوطنية· لكن في غضون ذلك لم يستسلم الشعب البورمي، حيث تقوم بعض الجماعات المعارضة بالتسلل إلى المناطق المنكوبة في الجنوب لتقديم ما في استطاعتهم من مساعدات، رغم أن الجنود لا يتورعون أحياناً عن مصادرة المساعدات ومنع وصولها· فريد حياة محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست