عندما اقترح النائب«جون بوينر» -جمهوري من ولاية أوهايو- وغيره من النواب «الجمهوريين»، مشروع القانون المعروف بـ(إبعاد الإرهابيين خارج أميركا)، اكتفيت بتقليب بصري في أرجاء القاعة، وبدا لي في ذلك الوقت أن عاصفة النار القصيرة التي أطلقها الحزب «الجمهوري» بشأن نقل معتقلي جوانتانامو إلى سجون داخل الولايات المتحدة، تنحصر بالفعل داخل المركز السياسي لمدينة واشنطن، وما يحفل به من سخافات. أما خارج نطاق هذه المدينة، وفي المدن الأميركية المختلفة الواحدة تلو الأخرى بدءاً من كولورادو، ومونتانا، إلى تنيسي، فإن ممثليها يقترحون إحضار مقاتلي العدو إلى مجتمعاتهم. لم يساورني أدنى قدر من الدهشة حيال ذلك، لأنني كنت أدرس موضوع السجون في المدن الريفية عبر الولايات المتحدة منذ 2003، وتبين لي من واقع تلك الدراسة أن تلك المدن ليس لديها أي مشكلة بالنسبة لنزلاء السجون، بصرف النظر عن درجة الخطورة التي يمثلونها في نظر مجتمعاتها. والدهشة التي تنتاب الجمهور عندما يعرف أن المدن الصغيرة تتنافس من أجل استضافة نزلاء جوانتانامو، تبين بشكل جلي مدى محدودية معرفة سكان المدن والضواحي الكبرى في أميركا بمدنها الريفية الصغيرة وطبائع سكانها. فبالنسبة لتلك المجتمعات الريفية، فإن السجون والسجناء يعنيان توفير المزيد من الوظائف، والمزيد من فرص كسب الأموال. فعلى مدى خمسة وعشرين عاما أو أكثر، ظلت المدن الريفية تمارس الضغط، وتداهن، بل وربما «ترشي» المؤسسات الحكومية للموافقة على منحها سجوناً. لقد عشت ودرست في مدينتين من أمثال تلك المدن لفترة تزيد عن عام: المدينة الأولى هي «فلورنس»التابعة لولاية «كولورادو»، التي يتركز فيها بعض السجال الدائر حالياً حول موضوع معتقلي جوانتانامو. وهذه المدينة تضم سجن«الكاترا» الرهيب الذي تضع فيه الحكومة الفيدرالية أكثر سجنائها خطورة تحت رقابة بالغة الصرامة. وهذا السجن يضم بعضا من أعتى المجرمين في أميركا، ومنهم السجين«ثيودور كازينسكي» (مفجر القنابل)، و«ريتشارد ريد» الإرهابي صاحب «الحذاء المفخخ»، و«زكريا موسوي» أحد مدبري هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وغيرهم كثيرون. ومن اللافت للنظر في هذا السياق أن مدينة «فلورنس» قد جمعت الكثير من الأموال ودفعتها للحكومة الفيدرالية كنوع من العرفان بالجميل لأنها-الحكومة- قد خصتها بميزة استضافة هذا النوع من المجرمين الشديدي الخطورة. من تلك المدن أيضا مدينة«هنتون» بولاية «أوكلاهوما» التي أدت نهاية فترة الازدهار النفطي بها إلى ترك اقتصادها في حالة يرثى لها. ولمواجهة هذا الوضع اقترضت المدينة عدة ملايين من الدولارات من«أميركان إكسبرس» لبناء سجن، ثم كلفت بعد ذلك شركة مستقلة متخصصة في مجال إدارة السجون بإدارته. ولم تكن تلك المدينة هي الوحيدة التي اتخذت هذا المنحى، حيث شاركتها مدن أخرى كانت تمر بصعوبات اقتصادية جمة مثل«يانجستاون» بولاية «أوهايو»، وهي مدينة كانت فيما مضى مركزاً مزدهراً لصناعة الحديد والصلب، ومدينة «وارين» بولاية «مين» التي كانت فيما مضى مركزاً مزدهراً لصيد الأسماك وقلعة من قلاع تجارة الأخشاب، ثم اتجهت هي الأخرى إلى بناء السجون كحل لمشكلاتها الاقتصادية. وعلى الرغم من أن الدراسات قد أثبتت أن النتائج التي ترتبت على بناء السجون في تلك المدن كانت مختلطة بمعنى أن بعضها كان إيجابياً والآخر سلبياً، إلا أن ذلك لم يوقف تلك المدن عن المضي قدما في هذا الاتجاه. إن هؤلاء الذين يعيشون في المدن الكبرى وضواحيها، وينظرون شذرا لهذا النوع من «النفعية الصارخة» كما يصفونه، وينهالون بالنقد على مجمع (الصناعة/السجون) لا يدرون أن الأمر يختلف بالنسبة للمدن الصغيرة التي لا يوجد لديها من وسيلة أخرى لاستنقاذ نفسها من الإفلاس الاقتصادي غير تلك الوسيلة ذات النفعية الصارخة. لذلك فإنه ليس هناك ما يدعو للدهشة أن نرى أنه في الوقت الذي ينتقد فيه السياسيون في واشنطن استقبال نزلاء»جوانتانامو» في سجون داخل الولايات المتحدة ، فإن هناك مدناً صغيرة تكثف جهودها من أجل الترحيب بهم. إيريك ويليامز أستاذ العدالة الجنائية بجامعة «سونوما ستيت» الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست»