يصعب على المرء أن يتصور نزيلات سجن النساء بملابس زاهية، فاللون المعتاد هو الأسود أو الألوان القاتمة وفي أفضل الحالات يمكن أن يكون الأخضر، لكن سجن النساء في دبي يبدو مختلفاً عما نراه في ''الأفلام السينمائية'' وما نعرفه من الوقائع والبرامج الوثائقية التي رصدت عذابات السجون، فالنساء يرتدين اللون الزهري الذي يضفي عليهن نوعاً من الهدوء والسكينة يصعب تصور وجودها خلف القضبان، ورغم العقوبات المتباينة (من الخفيفة إلى المؤبد) إلا أنهن يمتلكن الأمل والتفاؤل والرغبة في التغيير· وربما يصعب أيضاً تصور أن يقام احتفال في السجون، لكن مثل هذا يحدث هنا، بل ويقام احتفاء بالسجينات اللاتي تمكنَّ من تحويل العقوبة إلى عطاء، واستطعن أن يستثمرن هذه السنين من أعمارهن في بناء شخصياتهن واكتساب حرفة تكون بمثابة سلاح لهن لمواجهة ظروف الحياة· تجربة تؤكد - ربما - أن السجن يمكن أن يكون مؤسسة للتوجيه والإصلاح أكثر منها مكاناً للقمع والإهانة وسلب الكرامة· لم تستطع ''ف· ر'' أن تخفي فرحتها بالتكريم الذي كان سببا كافياً لتنسى - كما تقول - الذكرى الأليمة التي ترتبط بدخولها إلى السجن، تقول: ''الإنسان غير معصوم من الخطأ، وأنا نادمة أشد الندم على ذنبي الذي أوصلني إلى السجن، لكن السجن أفادني من حيث لا أحتسب، فتغيرت رؤيتي للحياة وما كنت عليه من الاستهتار والسذاجة في التعامل مع المحيطين بي· هنا، في هذا المكان تجددت أرواحنا وشعرنا بأننا جزء من المجتمع، ولنا قدرات كغيرنا؛ ومنتجاتنا تتحدث عن مهارتنا التي اكتسبناها من خلال دورات التأهيل التي تم توفيرها لنا لإصلاح حياتنا والبدء من جديد''· وتنظر ''أ· م'' إلى حفل التكريم باعتباره ''شرفا عظيما وانتصارا على المحنة''، وتؤكد أنها استعادت ثقتها بنفسها بفضل هذه الدورات، تقول: كنت مكبلة بالسبب الذي دفعني إلى الخطيئة، ولا أنكر أن 8 سنوات عقوبة قضيت منها سنتين ونصف السنة هي حقاً مؤلمة، ولكن ما وجدناه من رعاية واهتمام من قبل المؤسسة وحرصها الشديد على تنميتنا وتأهيلنا لإعادتنا مجددا إلى الحياة، كان عوناً لنا على تجاوز الألم أيضاً، فنحن بالرغم من وجودنا خلف القضبان لدينا إسهامات إنتاجية خارج الأسوار نفيد بها المجتمع''· أما ''ت· ب'' التي تقضي عقوبة مدتها سبع سنوات مضت منها سنتان، فلم تكن تتوقع أن تحقق داخل السجن ما عجزت عن تحقيقه خارجه، تقول: لقد أتيحت لي فرصة تعلم مهنة أكسب منها الرزق الحلال، وأتقنت فن التجميل وأسرار البشرة الجميلة، وهو الأمر الذي لم يكن متاحاً لي خارج أسوار السجن· وهي تأمل بعد الخروج من هنا أن تعود إلى وطنها لتفتح صالون تجميل تعتاش منه وتغلق به منافذ الإجرام· وحول برامج التأهيل تقول النقيب نوال عبدالله الدوسري رئيس قسم الأشغال اليدوية في المؤسسة العقابية والإصلاحية: يهدف قسم الأشغال اليدوية إلى اكتشاف ميول النزيلات ومواهبهن، وهو يوفر لهن بعض الدورات التي تصقل مواهبهن· وعندما تتمكن النزيلة من عملها وتصبح محترفة تقوم بتعليم الأخريات، ولدينا الآن ست نزيلات أنهين الدورات بنجاح ويتمتعن بمهارة عالية، ويمنح لهن راتب شهري مقابل تعليم النزيلات بعض المشغولات اليدوية· ونحن نحرص على أن تتواجد المنتجات والأعمال التي حاكتها أنامل النزيلات في المحافل الداخلية والخارجية، ونسعى دائما إلى تطوير وابتكار منتجات جديدة من خلال متابعة أحدث المنتجات في الأسواق، مع خلق روح إبداعية جديدة متميزة للمنتج، وتشجيع النزيلات على الابتكار لتطوير مهاراتهن الفنية· وتحصل النزيلة على شهادة خبرة تؤهلها للعمل بعد خروجها من المؤسسة· وعادة ما تباع هذه الأعمال بسعر رمزي جدا والهدف ليس الربح المادي بقدر ما هو تعليم النزيلات وتشجيعهن على مزاولة حرفة تعينهن في تدبير أمورهن بعد الخروج من السجن· وهناك مقر دائم لعرض هذه المنتجات للزوار في الاستقبال عند بوابة المؤسسة العقابية والإصلاحية· مشاركة مجتمعية وتشارك بعض المؤسسات المجتمعية في تقديم برامج مختلفة للنهوض بالنزيلة ومنحها مهارة حرفية، تقول خبيرة التجميل منى: ''هذه أول تجربة لنا في سجن النساء، ولمست خلالها الرغبة الشديدة لدى النزيلات للتعلم حيث قمت بتدريبهن على فن التجميل، واستطعنا تخريج مجموعة ماهرة في فنون العناية بالبشرة وخطوط التجميل· الأمر نفسه أكدته المدربة أمل الشافعي من جمعية النهضة النسائية التي نظمت دورة تدريبية في الفنون لمدة أربعة أشهر ضمت مختلف الورش الحرفية، والتي لمست تجاوباً من النزيلات واستمتاعاً بالعمل وطرح الأفكار والحرص على تعلم أدق التفاصيل، ونجاحهن في إنتاج منتج ذي جودة عالية من حيث المواد الخام والصناعة وإتقان العمل· إصلاح لا عقاب ربما يعكس رد الرائد فوزية محمود الملا مدير إدارة سجن النساء، المنهجية التي تسير عليها الأمور في السجن، فهي ترى ''أن السجن ليس مكانا للعقاب وتكبيل الحرية بل مؤسسة ثقافية توجيهية مهنية تهدف إلى مساعدة وتوعية وتوجيه وتثقيف السجين، وتسعى لتأهيله وإصلاح اعوجاجه حتى يعود عضوا نافعا في المجتمع· وقد وضعت القيادة العامة للمؤسسات العقابية والإصلاحية أنظمة وبرامج إرشادية تساهم في إصلاح السجينات مهنيا من خلال تنميتهن ذهنيا واجتماعيا ونفسيا لتتغير نظرتهن إلى الحياة على نحو إيجابي، وتعريفهن بالقوانين وكيفية التعامل مختلف التحديات بعقلانية وحكمة تمنعهن من الوقوع في براثن الجريمة· وتشير الرائد الملا إلى أن معاناة المرأة السجينة أكبر من الرجل، خاصة إذا كانت أماً وتركت أطفالها وراءها، مما يوقعها تحت ضغوطات نفسية وعصبية صعبة قد تفقد معها الرغبة في الحياة فتقوم بسلوك شنيع للخلاص، وهنا يأتي دور المؤسسات العقابية والإصلاحية لامتصاص الشحنة السلبية والعمل على تهدئتها من خلال عرضها على معالج نفسي إذا احتاجت إلى ذلك، ومحاولة تأهيلها نفسيا واجتماعيا ومهنيا وتعويدها قبل كل شيء على النظام والانضباط في كل خطوة تقوم بها· وعادة ما تكون البداية صعبة جدا على النزيلة التي تحاول أن تتكيف مع الوضع الجديد، وغالباً ما تعتريها موجات من الندم والحسرة تصل إلى الاكتئاب وتسد منافذ العلاج، والدورات واحدة من الأساليب التي تحاول إخراجها من شرنقتها وإعادتها إلى الحياة مجدداً، ورسم طريق آخر لها يجعلها أكثر قدرة على الثبات وتقبلا للحياة الجديدة التي تنتظرها خارج أسوار السجن· وهناك حوافز أخرى نمنحها لهن من خلال برنامج الشيخ محمد بن راشد لتحفيظ القرآن الذي كان بمثابة باب لدخول عدد كبير من غير المسلمات إلى الإسلام، ويقلل حفظ أجزاء من القرآن مدة الحكم عليهن، وأيضا يوجد برنامج ربع المدة فكلما كان سلوك السجينة سوياً وكانت ملتزمة بالقوانين واللوائح تقصر مدة سجنها· وتلفت الرائد الملا إلى أن نسبة كبيرة من النساء - للأسف الشديد - يقعن في الجريمة بسبب جهلهن وعدم وعيهن بما يدور حولهن، ودائما تستغل المرأة في الجريمة وتتورط أحيانا من أقرب الناس لها· ونأمل من خلال إكسابها مختلف المهارات أن تكون أقوى في مواجهة المغريات، وأقدر على شق طريقها في الحياة بقوة وثبات، لأنها ستسد منافذ العوز من خلال مزاولتها للحرفة التي اكتسبتها أثناء فترة بقائها في المؤسسة العقابية الإصلاحية· وبعد··· طوال الطريق إلى سجن النساء كنت أتخيل مدى الألم الذي يمكن أن يعانيه الإنسان عندما يفقد حريته، إذ ليس هناك ما هو أشق على النفس من فقدان الحرية، لكن يبدو أن الألم وسيلة للتعلم أيضاً على حد تعبير الفرنسي موسييه، ولم لا··· ألم يقل وليام جيمس أن ''الألم مفتاح الإبداع''، وهل هناك ألم أشد من ألم السجن وفقدان الأهل والبيت والحرية؟ بقي أن نقول إن من المظاهر التي تلفت الانتباه أيضاً في سجن النساء وجود مجسمات لأم خماس وصويحباتها أنجزتها السجينات لتستقبل الزائرين