محسن الرملي

«الشعور بالجوع يشبه الكماشة
يشبه عضّات سرطان البحر
يحرق، يحرق بلا نار:
الجوع حريق بارد»
هكذا هو الجوع كما يصفه شاعر أميركا اللاتينية الخالد بابلو نيرودا (نوبل 1971)، ومن المؤسف أن نلحظ في السنوات الأخيرة تراجع جهود مكافحة هذا الحريق الذي يقضم أرواح المستضعفين في هذه القارة الغنية بالخضرة والخيرات والتنوع البشري والثقافي، فوفق كل الإحصائيات المحلية لبلدانها وللمنظمات العالمية، قد تجاوز عدد الذين يعانون من الجوع وسوء التغذية، الـ 40 مليوناً، أغلبهم من الأطفال.
عدا ضعف وسوء التصدي للكوارث الطبيعية، يفسّر الدكتور آرمادو دي لاتوري، الأكاديمي الغواتيمالي والخبير بالعلوم الاجتماعية، زيادة الفقر وتراجع النمو الاقتصادي في أميركا اللاتينية، بأنه نتيجة لسوء سياسة الحكام هناك، بالدرجة الأساس «فهذه القارة لم تكن فقيرة هكذا قبل خمسين عاماً، يوم كانت تتمتع كوبا والأرجنتين وأوروغواي وفنزويلا بثروة كبيرة، يمكن مقاربتها بثروات الدول المتقدمة، ولكن هذا الحال بدّدته القرارات السياسية للحكام المتزمتين، الذين يصرون على إبقاء الناس غارقين في الفقر». ويشير لاتوري إلى أن دولًا مثل شيلي وبيرو كانت قد بذلت جهودًا كبيرة لتحسين ظروفها المعيشية للخروج من حالة الركود والتأخر، وأن البرازيل والمكسيك كانتا في طريقهما ليصبحا من القوى الاقتصادية القوية في العالم. ويشير إلى أن الفقر الذي كان يعد حالة طبيعية للإنسان صارت تقابله تجارب استثمار الثروات التي أتاحت للبشرية تعزيز الأمل بحياة أفضل، كما يؤكد على ثلاثة عوامل مهمة لتعزيز التنمية: «المنافسة الحرة، والجهد الفردي، والانضباط في العمل».

ديمقراطية الجوع
ومما يزيد من المخاوف في تواصل تراجع النمو الاقتصادي هناك، هو تفاقم الأزمة في أحد بلدانها الغنية، ألا وهو فنزويلا التي وصل عدد الجياع فيها إلى أربعة ملايين وغادرها حتى الآن قرابة الثلاثة ملايين شخص، وعلى حد قول أحد الهاربين منها، الكاتبة والصحفية الفنزويلية الشابة كارينا ساينث بورغو، أثناء تقديمها لروايتها «ابنة الإسبانية» قبل أيام في مدريد، فإن «الديمقراطية الوحيدة الموجودة الآن في فنزويلا هي الجوع والموت»، وتتناول في روايتها الكثير من المعاناة والمشاهد المروعة، إلى الحد الذي تصف فيها بطلة روايتها العاصمة كاراكاس بأنها «مكان يتصارع فيه الناس بحثاً عن فسحة للموت». وتعزو سبب ما تسميه بالتراجيديا ووصول الحال إلى هذا المستوى من التردي، إلى سياسة الرئيس السابق هوغو تشافيز.
وهنا تجدر الإشارة إلى مفارقة تتعلق بموضوع الفقر والجوع بين السياسة والثقافة، وهي أن أهم وأشهر الكتب وأكثرها تأثيراً في أجيال متعاقبة من قراء أميركا اللاتينية حول قضية الفقر، والذي يتحدث عن تاريخ نهب الولايات المتحدة لثروات هذه القارة على مدى خمسة قرون، هو كتاب «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية» لمؤلفه إدواردو غاليانو، والذي انطلقت شهرته العالمية بفضل إهداء رئيس فنزويلا الراحل هوغو تشافيز إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما سنة 2009 نسخة منه بغرض الاحتجاج، وقد تُرجم هذا الكتاب بعدها وأغلب أعمال غاليانو إلى أهم لغات العالم ومنها العربية، وربما يكون هو أكثر كتّاب أميركا اللاتينية تطرقا لموضوع الفقر هذا، عبر التقاطاته الذكية ولغته التهكمية المفعمة بالمرارة، ومن أقواله بالشأن الفقر والجوع مثلاً: «فقراء ضد فقراء، كالعادة: إن الفقر لحاف قصير جداً وكل طرف يسحبه نحوه». و«إننا نعرف كل شيء عن الفقراء: ما الذي لا يعملون فيه، ما الذي لا يأكلونه، كم لا يزِنون، كم لا تصل قياساتهم، ما الذي ليس لديهم، ما الذي لا يفكرون به، على ماذا لا يصوتون، ما الذي لا يعتقدونه... ولكن فقط، ينقصنا أن نعرف لماذا الفقراء هم فقراء؟ تُرى الآن عريهم يكسينا وجوعهم يطعمنا؟» ويصف العالم بأنه «تناقض كبير يدور وسط الكون، وعلى هذا النحو، فليس من المستبعد أن مالكي الكرة الأرضية سوف يمنعون الجوع والعطش كي لا ينقص الخبز ولا الماء».

مصارع الجوعى
المفارقة الأخرى، هي أننا لا نجد في أغلب الأعمال الأدبية التي كتبها كبار أدباء أميركا اللاتينية، في النصف الثاني من القرن العشرين، أمثال غابريل غارثيا ماركيز (نوبل 1982)، أوكتافيو باث (نوبل 1990)، وماريو فارغاس يوسا (نوبل 2010) وكارلوس فوينتيس وبورخيس وغيرهم.. تناولا خاصاً أو كافيا أو لافتاً لموضوعة الجوع، بل على العكس، نجد في أغلب أعمالهم احتفاءً بتفاصيل أطعمة ووجبات بلدانهم وما تشتهر به مطابخهم، فيما نجد اهتماما أكثر بها في مطلع القرن الماضي ومطلع هذا القرن، ففي سنة 1910 مثلاً، نشر الكاتب إيرنستو هيريرا من الأوروغواي مجموعته القصصية الشهيرة «جلالة الجوع.. قصص فظيعة» والتي تتمحور أغلبها حول ثيمة الجوع عبر الصراع بين البرجوازية والفقر، وقد استلهمها لاحقاً بعض الرسامين والمسرحيين.
وحتى الروائي الغواتيمالي الكبير ميغيل آنخيل آستورياس (نوبل 1967) الذي يعتبر من مؤسسي بدايات (الواقعية السحرية) عبر أهم رواياته «رجال الذرة» والتي تعد أكثر وأشهر رواية في أميركا اللاتينية التي تتناول موضوع الجوع، إلا أنه حول الصراع فيها إلى الدفاع عن الذرة كرمز مقدس عند الهنود في ثقافة المايا، مما حداهم لمقاومة الشركات الاحتكارية البيضاء على هذا النحو النادر والمدهش، وأنه وظف الأسطورة ليحتفي بالرمز أكثر من التركيز على قضية ومعاناة الجوع نفسها.
وبالمقابل نجد أدباء أوروبا والغرب بشكل عام ومنهم الأسبان، الأقرب إلى أميركا اللاتينية ثقافيا، قد تناولوا الجوع في أكثر من عمل ناجح وخالد أصبح من كلاسيكيات الآداب العالمية في هذا الباب، منها رواية «الجوع» للنرويجي كنوت هامسون والتي حاز بفضلها على جائزة نوبل عام 1920 والتي يصور فيها ضراوة الجوع بالتفصيل وبحس عالي وكيف يضطر بطلها الذي يحرص على الحفاظ على مظهره الآدمي وقيم إنسانية إلى مص الخشب لشدة جوعه.
ومكسيم غوركي في روايته «الأم» الذي يقول عن الجوع بأنه «يتبع الإنسان كمتابعة الظل للجسد»، وفي رواية (عناقيد الغضب) لجون شتاينبيك (نوبل 1962) التي يصف فيها بقسوة وطأة القحط والجفاف في الثلاثينيات، قائلا أثناء إعداده وعزمه على كتابتها: «أريد أن أضع علامة عار على جبين الأوباش الجشعون المسؤولون عن هذا»، وكيف «يمكن أن يكون الجياع مواطنين مثاليين، لكنهم قد يتحولوا أيضًا إلى جيش تحركه المعاناة والكراهية، بحيث ينتهي بهم المطاف لأخذ كل ما يحتاجونه بالقوة». أما في إسبانيا فيزخر تاريخ الأدب بأعمال مهمة تناولت الجوع ومنها الرواية البيكاريسكية، رواية الصعلكة، الأولى (لاثاريو دي تورميس)، وفي نصوص لثربانتس وغيره من الكلاسيكيات وصولاً إلى العصر الحديث بأعماله التي تناولت قسوة الدكتاتورية وآثار الحرب الأهلية من خراب وجوع وموت، والتي اشتهر من بين شعرائها ميغيل هيرنانديث، صديق بابلو نيرودا وجيل السبعة وعشرين الشعري كغارثيا لوركا الذي تم إعدامه ورافائيل ألبرتي الفار إلى المنفى.. وغيرهم. هيرنانديث الذي مات شابا في السجن واصفا الجوع بأنه المعلم الأول للإنسان «الجوع أول المعرفة» حيث نبكي أطفالاً نطالب أمهاتنا بالطعام. وهو الذي اشتهر بقصيدة «أغنية البصل» أو «تنويمة البصل» التي كتبها إلى زوجته عندما اشتكت إليه في رسائلها من الجوع، حيث ليس لديها إلا قطع من الخبز والبصل، مما تسبب بشح حليبها لرضاعة طفلهما، وتحولت مقاطع هذه القصيدة إلى أغاني يرددها الناس حتى اليوم.

أنياب ناشبة
أما اليوم، فيبدو أن الجيل الشاب من المبدعين في عموم بلدان أميركا اللاتينية، أكثر حساسية تجاه موضوع الفقر والجوع، ومنها نتذكر على سبيل المثال حملة المغنية شاكيرا لتوفير مليون حذاء للأطفال الفقراء، وإقامة مهرجانات فنية وصدور أكثر من كتاب وأنطولوجيا قصصية وشعرية خاصة بهذه القضية في غواتيمالا والمكسيك والأرجنتين وكولومبيا وغيرها، منها كتاب «قصص الجوع» الذي أعده وقدم له الكاتب والناشط الغواتيمالي الذي يكرس أكثر جهوده لمحاربة الجوع خوسيه لويس بيبيرو، ومنه استقينا جل معلوماتنا بهذا الشأن، والذي يستغرب ويتساءل فيه عن أسباب عدم تناول الأدب عموما لموضوع الجوع على نطاق واسع، على الرغم من كل البؤس والقسوة والآلام التي يسببها في العالم، فهو لم يلهم الشعراء والكتاب والرسامين كثيراً في مختلف العصور... كيف للأدب الذي يحمل مسؤولية اجتماعية وإنسانية أن يغض الطرف عن هذه القضيىة، وهل يمكن تبرير الأمر بكون الأدب ذو وجاهة اجتماعية وجمالية مما لا يجعله يجد في الجوع وسيلة للإلهام، وأن جسد الكاتب الجائع لا يمنح إلا إلهاماً هزيلاً!
ويقول بصدد كتاب «قصص الجوع» بأنه خلاصة اختيار مجموعة قصة قصيرة من بين ثلاثمئة قصة مشاركة في المسابقة التي نظمتها (حركة ضد الجوع) غير الحكومية، وهي قصص متنوعة سواء واقعية أو خيالية، من الماضي أو حالية أو مستقبلية، مفعمة بالمشاهد والحوارات، وشخصياتها من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية، بينها المتفائل والمتشائم والمُنذر.. وغيرها، كما أن جنسيات كتابها متنوعة وأغلبها من بلدان أميركا الجنوبية، ومن بينها أسماء معروفة أمثال: سرخيو راميريث، جيوكوندا بيلي، مينديث فيديث، كلاريبل أليغريا، كارمن نارانخو أو إنريكه خاراميو. ولكن لا تتم الإشارة إلى جنسياتهم في الكتاب، كي يتعرف القارئ بنفسه على ذلك من خلال تعابيرهم اللغوية والمفردات والأسماء والأماكن والمناخات التي تصورها نصوصهم. كما أن الهدف من كتب أدبية مثل هذا، هو التوعيه عبر الحساسية الجمالية، حيث ستصل إلى المدارس والجامعات ونوادي القراءة والمكتبات، وبالتالي قد يتحول بعضها إلى مسرحيات أو أفلام قصيرة أو لوحات على أيدي الشباب، فيكون دورها أكثر فاعلية للوقاية والتصدي لهذه المعضلة الإنسانية... وهكذا يكون للأدب دوراً أخلاقياً إلى جانب كونه عملاً جمالياً.
ويرى خوسيه بيبيرو بأن الأدب وسيلة ممتازة لنقل الأفكار والقيم التي تنقي الضمائر، ولا يمكن للكتابة، في أوقات الأزمات، أن تسمح لنفسها برفاهية كونها جمالية فقط وإنما ينبغي لها أن تكون أخلاقية أيضاً، و»بأننا اليوم نمر في أزمة عامة، وانحطاط الثقافة (النيوليبرالية المعولمة)، لذا ينبغي أن يكون أدبنا أكثر التزامًا وانعكاساً وإيضاحًا.. نحتاج إلى المزيد من أمثال سارتر وساراماغو وساباتو».

معالجات
يعد التشيلي دانيل نعومي بويوناما من أهم النقاد الشباب اليوم ممن يجمعون في دراساتهم بين ماهو أدبي واجتماعي. ويشير في كتابه «قراءة الفقر في أميركا اللاتينية: الأدب والعنف» بتفحص وإمعان إلى طبيعة تناول الأدب هناك وعلاقته بأهم مشكلتين مرتبطتين ببعضهما وتؤرقان حياة الناس، وهما: الفقر والعنف... وكذلك كتاب «الجوع» للكاتب الروائي والصحفي الأرجنتيني مارتين كاباروس، والذي يسلط فيه الضوء بقوة على قضية الجوع في عالمنا المعاصر، بأسلوب وحس يجمع بين الأدبي والصحفي، ليس في بلده وبلدان أميركا اللاتينية وحسب، وإنما في بلدان عديدة منها آسيوية وأفريقية كالسودان، زارها للوقوف على مشكلة الجوع بنفسه مباشرة، وحاز هذا الكتاب على العديد من الجوائز، فقد اعتبره أغلب النقاد والقراء بأنه أهم الكتب المؤثرة بشأن قضية الجوع ومسبباته من جشع واحتكار وظلم وآثاره من أوجاع ومعاناة وموت، بعد كتاب أدواردو غاليانيو الأشهر «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية».