الثقافة بالضرورة هي ثقافة العولمة، فهي عولمة بحكم الصلات التي تربط حضارات الشعوب ببعضها البعض. كل حضارة يمكن أن تكون عالماً ثقافياً. إن فكرة اعتبار العولمة نتاج وسائل التواصل الجمعي ـ التقني الحديث هي فكرة سطحية مبتذلة يتناولها البعض بطريقة احتفالية ـ احتفالاً بالانتصار الأبدي لحضارة الرأسمالية الليبرالية هذه الفكرة لا تستحق عناء رفضها أو تقيدها. لماذا العولمة ظاهرة تاريخية؟ هناك كثير من الباحثين انتبهوا الى تهافت هذا المنط اللاتاريخي، وأكدوا على التلاقح الثقافي الاعتيادي بين الشعوب والحضارات منهم من اعتبرها صراعاً تاريخياً على الهيمنة والقوة على صعيد عالمي، ومنهم من اعتبرها تواصلاً يغني الحضارات مما يجعل منها حضارة يتولد عنها سلوكاً معيارياً يحدد قيماً أخلاقية مشتركة كما في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والحكم الدستوري الرشيد. ومنهم من اعتبرها حلقة جديدة غير مسبوقة لامبريالية تريد أن تستولي على عقول البشر بعد أن استولت على أبدانهم. هذه المدرسة الثالثة في التفكير عن العولمة تعكس أزمة بنائية مستفحلة. أما كون العولمة ظاهرة تاريخية مرتبطة عضوياً بالحداثة، أقول إن الحداثة ليست مقصورة على هذه المرحلة الحالية من تطور الرأسمالية الليبرالية الغربية. محيي الدين اللاذقاني كتب مرة أن الجاحظ، والتوحيدي والمتنبي يمثلون الحداثة. وما كان هذا إلا ملمح من ملامح الحداثة في الفكر العربي. وفي الحقيقة فإننا نملك حداثات في مراحل تاريخية مختلفة منذ ما قبل الإسلام، كما عند زيدان عن اللاهوت العربي واستمراره الى العصور الحديثة. ويرصد راندال كوينز في دراسته الموسوعية أربع مدارس من الفكر الحداثي عند العرب والمسلمين (في تصوره عن طقوس التواصل بين الأجيال والشعوب): (أ) الممارسون للاهوت العملي (علم الكلام)، (ب) السلفيون، (ج) ثم المتصوفة، (د) المتداولون للفلسفة والنصوص المترجمة، الذين أدخلوا اللاهوت الإسلامي في الميدان والقضايا الفلسفية الذي مهد الى نهضة أوروبا الفلسفية. تمرين نهضوي أريد الآن أن نضع أنفسنا موضع جيل النهضة العربية في مطلع القرن العشرين ونفكر سوياً في مشروع نهضوي عربي لا يجعل من الغرب (بمعناه الجيوسياسي) كإطار مرجعي، أو لنموذج يمكن أن تحيد الأمم عنه، كما فعلت اليابان في القرن 19 ومصر محمد علي، وكما تفعل الصين والهند وكوريا الجنوبية ودول شرق آسيا عموماً في الوقت الحاضر. القصد من هذا التمرين هو في نهاية المطاف إثبات أننا نعيش حلقة جديدة من المواجهة التاريخية ـ الحضارية التي تكلم عنها بيرين، مع الغرب، والتي كانت إحدى حلقاتها الحملات الصليبية. لقد اتخذت هذه المواجهة بعداً حضارياً جديداً بفعل عدة عوامل: (أ) الادعاء بأن للغرب المنتصر تراثاً يهودياً ـ مسيحياً متزامناً مع ميلاد فكرة أوروبا أو حضارة أوروبا الموحدة. (ب) استغلال الابتكارات التنظيمية التي جاءت بها الثورة الفرنسية كالعلمانية، والدول القومية، والديمقراطية كعقيدة تريد فرضها على العالم دون اعتبار للتعددية الحضارية التي تسود العالم. (ج) استعمال العنف المنظم والمأسس لا لنهب موارد الشعوب الأخرى فقط وإنما لإخضاع العالم الثالث ثقافياً (نفسياً) لقبول الهيمنة الامبريالية بدون مقاومة على صعيد الفكر كما على صعيد الفعل أن ما يحدث الآن في أفغانستان والعراق وتونس ومصر في هذا السياق التاريخي، ثقافة الخضوع وثقافة المقاومة في آن معاً. أنا أعترف إن هذا كلام عسير على الهضم ذهنياً وتاريخياً دفعة واحدة ولكن الذي أريد أن أصل إليه هو أن معضلة العولمة الحالية ومأزقها أن مآزقها المستفحلة تعود جذورها الى هذه المصادر الثلاثة وسوء الفهم العميق الذي يتولد عنها. لقد ذكرت في موضع سابق إن العولمة الرأسمالية الافتراسية ستضعف الدعائم الثلاثة التي يقوم عليها المجتمع العولمي أو العولم: (أ) الدولة الوطنية ومفهوم السيادة على الأرض، (ب) الأسرة باعتبارها وحدة التنظيم الأساسية في المجتمعات الأبوية. (ج) والدين كونه المصدر الرئيسي للأخلاق وللسلوك المعياري. وأضيف هنا دعامة رابعة وهو تقويض الإرث الحضاري للشعوب حسب عقلية التبعية التي تريد تجريد شعوب العالم من القدرة على الابتكار ما لم يكن على الابتكار ما لم يكن على النمط الغربي، وما لم يتحول هذا الإرث سلعة يقبلها الغرب. حزب الشاي قبل أن نغرق في التأمل نعود الى السؤال الذي بدأنا به: هل من الممكن تصور العولمة من غير الولايات المتحدة ليس كطرف فاعل، بل كطرف مهيمن؟ الجواب جاءنا من الانتخابات النصفية الأخيرة في الولايات المتحدة، التي شهدت ميلاد حزب جديد من جوف الآلة (حسب تعبير حليم بركات) الجمهورية والنزعة المحافظة الرجعية ـ حزب الاستقلال/ حفلة الشاي. وما هي المطالب التي تبناها هذا الحزب؟ ستعجبون! 1 - العداء الكامل للمهاجرين غير الشرعيين. 2 - تقليص الهجرة الشرعية من أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. 3 - زيادة الرسوم على كل السلع المستوردة. 4 - منع الشركات الأميركية من نقل عملياتها الى الخارج وتلك التي تستعين بموارد من الخارج. 5 - تحريم التعامل مع الصناديق السيادية الأجنبية من الاستثمار في الولايات المتحدة. 6 - انسحاب الولايات المتحدة من الأمم المتحدة ومن منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. 7 - إنهاء جميع التدخلات في الدول الأجنبية والانسحاب من قواعد الولايات المتحدة (3 آلاف في 172 دولة) في العالم. 8 - رفض دفع الفائدة على ديون الولايات المتحدة للصين، أي إعلان إفلاسها. 9 - والتوقف عن التجارة مع الصين ما لم تعوم الصين عملتها. 10 - منع الشركات الرابحة من تسريح عمالها أو تخفيض أجورهم. 11 - إلغاء البنك المركزي (الاحتياطي الفيدرالي). ومنع المتاجرة بالمشتقات المالية. 12 - إذا زاد دخل الفرد عن نصف مليون دولار سنوياً ستوضع عليه ضريبة تعادل 100%، وكل دخل يعادل (100) ألف دولار سوف توضع عليه ضريبة تسمى ضريبة الثروة السنوية وتعادل 2%. نحن وهم والبديل أما نحن فماذا تبقى لنا الآن من وثيقة سايكس ـ بيكو ومن وعد بلفور، بعد اجتياح أفغانستان وتدمير العراق كمجتمع وكدولة لم يعد للسيادة أي تطبيق عملي، فقد استبدلت مفهوم السياسة بمفهوم التدخل الامبريالي الإنساني الرحيم. لقد كان حرياً برواد النهضة العربية أن يتوجسوا خيفة من نوايا الغرب، وأن ينطلقوا من منطلق جديد. ولكنهم استسلموا الى منطق الخضوع بدلاً من منطق المقاومة. وقد تولدت عندنا في هذا المفرق التاريخي مفارقة ما زالت تؤرقنا: إن الذين قاوموا الاستعمار وعقلية الخضوع هم أكثر القوى الاجتماعية تزمتاً ومحافظة: الحركات السلفية (...)، وهي التي تسعى الآن جاهدة لعقد صفقة جديدة حسب منطق الخضوع للهيمنة الأجنبية، لقد تكفلت العولمة الليبرالية الغربية بإضعاف وربما انهيار الحركات المسماة علمانية كالاشتراكية والقومية. أعتقد أن مهمة تاريخية جسيمة تقع على عاتق جيلنا، وهي التفكير في كيفية الخروج من هذه المفارقة. أحد المخارج من هذه المعضلة هو ما يفعله الآن شباب تونس وشباب مصر، بتحويل سلاح عولمة المعلومات وتقانتها الى غور الدول الغربية. ولكن ينقصهم وينقصنا أيديولوجيا المقاومة ذات النفس الطويل والمنظور الأصيل. وهكذا يتضح لنا أن العولمة الرأسمالية الافتراسية الغربية لم تنتج مجتمعاً معولماً عالمياً، وإنما عالماً مصمماً أساساً لحرية حركة رؤوس الأموال وحرية استثماراتها، وليس لحرية حركة الشعوب وهجراتها وتحولاتها السكانية الاعتيادية. فهنا نشاهد دولاً ليس لها مقومات الدول - هم يطلقون عليها دول In Limbo في حيص بيص. وتشتد المطالبة التي تحركها دول الغرب للانفصال ولتفكيك دول هي جزأتها، فهي تبني وتفكك: وتمنح الاستقلال الصوري وتحجب: في البلقان وفي كردستان وفي كوسوفو وفي جورجيا وفي الجبل الأسود وفي الباسك وفي بلجيكا، وكما فعلت حسب اتفاقية سايكس ـ بيكو عندنا، ولأن العرب مصابون بلعنة القرب من أوروبا، فهم يمثلون المانع الجغرافي والجيوسياسي والبشري التي يحد من جهة الجنوب الطريق الى أفريقيا، ومن جهة الشرق الطريق الى آسيا. ولأن العرب ـ صدقوني ـ يملكون البديل أو التحدي الحضاري الجدي لثقافة أوروبا ـ شعوب الغرب ما زالوا لا شعورياً يخافون من الانبثاق العربي الذي حدث في القرن السابع الميلادي من أن يتكرر كما تكرر في الأندلس ـ فقد كان أولى بالعرب مجتمعين أن يضعوا على رأس أولوياتهم تحديد مجالهم الحيوي ومصالحهم الحيوية: ثقافة البحر المتوسط بما فيها دول البلقان، ودول شرق أفريقيا، ودول وسط آسيا - دول القلب، بما فيها تركيا وإيران. هذا المجال الحيوي تربط دوله وشعوبه بالعالم العربي صلات تاريخية وثيقة. على هذا للتصعيد ليس على صعيد الحرب والغزو يمكن أن يتكون عالماً حضارياً يتحدى الغرب وثقافته، ليس على مستوى الحلم وإنما على مستوى الطموح. مشروع نهضوي من هذا النوع ليس القصد منه معاداة الغرب أو حصاره، وإنما يمكن أن يكون نواة لأممية جديدة تؤسس لمجتمع عولمي ـ عالمي جديد يمثل بديلاً للرأسمالية الغربية الافتراسية. إذاً هذا ما يشغلنا فإنه يشغل الغرب وساسته وشركاته وعسكرييه واستخباراته أكثر بكثير. ريجي دوبريه مثلاً في حالة يأس يتساءل: “هل تعتقدون أننا سنتنفس براحة تحت الحكم الحديدي للإسلام”؟ * من محاضرة ألقيت بدعوة من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث