تأتي أهمية اختيار الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي الشهيرة بـ«فتاة العرب» كشخصية محورية لحدث ثقافي كبير وحافل هو معرض أبوظبي الدولي للكتاب، لكونه اختياراً مشبعاً بالأبعاد والدلالات المعنية بتوقير الشعر والشعراء في الإمارات، خصوصاً أنه تكريم يصادف الاحتفاء بعام التسامح الذي كرّسته الدولة لإعلاء قيم المحبة والخير والمشاركة، من خلال أطر إنسانية تتسع برحابتها وانتمائها الأصيل للثقافة والكتاب والكلمة، تلك الكلمة المتجاوزة لكل لبس وتشويش ولكل تعصّب وانغلاق أمام فسحة الحياة وجمالها. وهذا التكريم يضع الشاعرة عوشة السويدي التي يمكن وصفها بقمر الشعر الإماراتي في المحلّ الأرقى، والمقام الأسمى، وباستحقاق كامل، بعد أن أضاءت سماء القصيدة المحلية بنتاجها الغزير والوهّاج والمتلألئ.

إنها بادرة ثقافية مهمة للرهان المتجدّد على الشعر، باعتباره حافزاً منتجاً للرؤية والرؤيا، وتحويل الخيال إلى طاقة معرفية تخترق الأزمنة والأمكنة وتعيد اكتشاف ذاتها في مدارات من الدهشة والتأملات العميقة في معنى الوجود وسرّ الموجودات، ويأتي اختيار عوشة السويدي كشخصية محورية للمعرض في سياق التكريم الحقيقي لشعراء أسسوا لأسلوب خاص ومتفرد للتعبير عن إشارات وشرارات أرواحهم، وباعتبارهم رموزاً ملهمة وقامات مضيئة، وشخوصاً امتلأت دواخلهم بالحدس والتجلي وتطويع المفردات وترويضها كي تكون هي المنتج الأجمل والأبهى عند استجلاء المكنونات الفردية للشاعر، والتي لا يمكن لها أن تنمو وتتنفس دون الاتصال بذائقة جمعية قوامها المستمعون والقراء وعشاق القصيدة الشعبية التي أبدعت عوشة في نقلها من اليومي والعادي والتقليدي، إلى منطقة تعبيرية خصبة يتألّق في أعطافها ما هو استثنائي ومتفرّد ولامع من تلاوين البوح والقول والبلاغة والبيان.
تقول الشاعرة عوشة السويدي في إحدى قصائدها الشعبية المبهرة شكلاً ومضموناً:
لا تشطّ يا زين التلاميح
رفّ بي تراني منك ميروح
يا قايد الفيج المساريح
يا اللي ودادك ينعش الروح
إنه فعلا «الوداد» الذي ينعش الروح ويطربها ويسلّيها عندما تغفل القلوب ويصبح الهجر مانعاً للقيا، فبين شدّ وجذب، ولذة ومرارة، يصبح الشعر وسيلة لمداراة الحزن وتخفيف حدّته وقسوته، إنها الروح التي ظلت عطشى أيضاً لماء القصيدة حتى بعد اعتزال عوشة الشعر في أواخر حياتها، إنها الروح التي تطرق باب الودّ، رغم رحيل أهل الدار، ورغم انكشاف العين والسمع على الأطلال والغيابات والصمت القاحل، إنه التوق الداخلي إذن، الذي ظل يربط عوشة بالشعر، وكأنهما توأمان، أو رافدان لنبع واحد ومصب مشترك.

مساجلات
وكما تذكر سيرتها المدونة في وثائق متفرقة فقد ولدت عوشة بنت خليفة بن أحمد بن عبدالله خليفة السويدي بمنطقة المويجعي في مدينة العين عام 1920، عاشت معظم حياتها في دبي، ورحلت عن عالمنا في العام الماضي 2018، وكانت قد توقفت عن نشر قصائدها في أواخر التسعينيات، واعتزلت الشعر تقريباً إلا من بعض القصائد التي كرستها لمدح الرسول والاستئناس بالقرآن وتلاوته وحفظه، وقد تساجلت الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي، مع كبار الشعراء في الدولة، وعلى رأسهم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، والشاعر أحمد بن علي الكندي، وسعيد بن هلال الظاهري، وقد وصفها المغفور له الشيخ زايد بأنها ركن من أركان الشعر بقوله:
ياركن عود الهوى وفنّه
شاقني جيلك بالوصافي
وعززت عوشة بنت خليفة السويدي حضور القصيدة النبطية في الوجدان المحلي، وساهمت في انتشاره من خلال الوسائط الإعلامية المختلفة، وخلقت بالتالي حالة من الحراك والجدل والانتباه لنتاجها الشعري المتميز والراصد لتحولات اجتماعية وأدبية وتاريخية كبيرة في الإمارات خصوصاً والمنطقة عموماً، إضافة إلى ذلك حظيت الأغنية الإماراتية من خلال قصائدها بإقبال كبير، وتغنّى بكلماتها كثير من الفنانين، أمثال جابر جاسم، وعلي بن روغة، وميحد حمد، وعزيزة جلال، وحارب حسن، وغيرهم.
وجاء في إعلان معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته التاسعة والعشرين، حول هذه الاحتفالية، أن تكريم الشخصيات والرموز الثقافية والفكرية في العالم العربي، والاحتفاء بإنجازاتهم التي تشكل نموذجاً للأجيال المقبلة، وتدفعهم إلى مزيد من الجهد للنهوض بواقع الثقافة العربية. وتعد الشاعرة «فتاة العرب»، رائدة من رواد الشعر النبطي في الإمارات، وقد اختار لها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، لقب «فتاة العرب»، بعد تكريمها وتقليدها وسام إمارة الشعر في عالم الشعر الشعبي في عام 1989.
وقال سيف سعيد غباش وكيل دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي: «نفخر في دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، باختيار «فتاة العرب» شخصية محورية في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، وذلك تقديراً لما تحفل به سيرتها من تجارب وخبرات طويلة، أثرت الحياة الثقافية المحلية، وبخاصة الشعرية النبطية، حيث شكلت إضافة مهمة للمشهد الثقافي العام، من خلال مؤلفاتها واهتمامها بالقضايا العربية والوطنية في قصائدها. ومن خلال تسميتها الشخصية المحورية في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، نعمل على تسليط الضوء على شخصيتها وأعمالها، كونها نموذجاً رائعاً لابنة الإمارات التي تمسكت بالقيم والمثل الإماراتية، وليظل فكرها وكلماتها ومعانيها التي لامست مشاعرنا، منارة للأجيال القادمة».

رمز
عوشة السويدي هي إذاً رمز حاضر ومعبّر عن ذاكرة شعرية ممتدة، ضربت بجذورها في التراكيب اللفظية المتداخلة بين الفصيح والعامي، سواء في القصائد الشفاهية أو تلك المدونة على مرّ العصور الذهبية لتألق الشعر منذ ما قبل الإسلام وحتى حيازته لقب ديوان العرب، حيث تتمتع قصيدة عوشة السويدي بالجزالة اللفظية والبلاغة الأسلوبية المستندة على جذر لغوي فصيح استقى تراكيبه من القرآن الكريم، ومن ميراث الشعر العربي المتنوع الأغراض والأجناس والبحور، وقبل ذلك فقد غرفت قصائد عوشة السويدي من معين لغوي عميق ومتجذر وأقرب للغة البادية المحافظة على نقائها وصفائها، لأنها أقرب إلى الفصيح مقارنة بسائر اللهجات الدخيلة على المكان بحكم الهجرات الوافدة واختلاط الألسن وتداخل الهويّات.
امتلكت عوشة السويدي مبكراً عدة الجرأة والقوة لكسر الحاجز الاجتماعي بكل ما فيه من تصورات مغلوطة وأوهام متراكمة، واستوعبت المعنى القابع خلف كل هذه الأسوار الترجيحية العالية، وخلف كل هذه الأسرار والخبايا والموانع، فذهبت إلى الشعر بعنفوان متقد وحازم، ومسّها لأول وهلة عارض القلق، وهو عارض مطلوب إذا تعلّق الأمر بتوليف الكلمات المغايرة، وسبك التصاوير المتفرّدة، وامتحان الموهبة، والركون إلى ما هو عصيّ على الترويض، وهذا القلق لن يكون ذهنياً فقط بل مادياً وملموساً وصاخباً، فهي وكما يقول عنها الشاعر «سالم بو جمهور» كانت تزن ألف رجل، وامتلكت شخصية فذّة، وكانت قصائدها تتردد في المجالس والإذاعات والصحف والأغاني الشعبية الأثيرة، فرغم قيود المناخ المحافظ وهيمنة التقاليد إلا أنها استطاعت أن تخترق هذه الحواجز دون أن تسبب حرجاً لأحد، وكانت موهبتها هي جواز مرورها نحو القلوب والعقول والأذهان، وصار شعرها مطلوباً ومرغوباً من الجميع، أما طبيعة قصائدها فقد انحازت في مجملها للعاطفة، وتمحورت حول الغزل السامي والشفيف، وهي أول امرأة توثق قصائدها وبصوتها في تسجيلات سمعية، واشتهرت في فترتها بشرائط الكاسيت، ولقت هذه التسجيلات رواجاً هائلاً بين الناس، في وقت كانت فيه وسائل الإعلام محدودة وذات نطاق ضيق جدا، ووصفها بو جمهور بأنها كانت «ملكة الكاسيت» في الثمانينيات من القرن الماضي، إضافة إلى أن قصائدها المغناة من قبل المطربين المحليين في الإمارات أضفت زخماً آخر لهذا التفاعل السماعي والملموس مع قصائدها.

مرجع
وتعد الباحثة الدكتورة رفيعة غباش من أكثر المتحمسين والمهتمين بعوالم «فتاة العرب» الشعرية والحياتية، وأصبح كتابها: «ديوان فتاة العرب – الأعمال الكاملة والسيرة الذاتية» مرجعاً شاملاً ومهماً لتتبع سيرة وقصائد عوشة السويدي، فهو كتاب أشبه بالببلوغرافيا الضخمة والآسرة في ذات الوقت، لأنه كتاب مليء بتفاصيل ثرية وحكايات مدهشة ومعلومات تكشف لأول مرة أمام القراء والنقاد والباحثين، وهي معلومات تتعلق بالبدايات المبكرة لارتباط عوشة السويدي بالشعر، وتحوّل هذا المنحى التعبيري إلى هاجس كبير وملحّ ومهيمن على حياتها.
تذكر الدكتورة رفيعة غباش في كتابها أن أكثر ما توقف أحفاد عوشة عنده في الحديث عنها هو الحالة النفسية التي وصلت إليها بعد اعتزالها الشعر، فقد عاشت درجة عالية من القلق والتوتر والحركة المفرطة، وكأنها تهرب من قصيدة ملحّة، ولم يكن لمزاجها أن يسكن إلّا بعد أن تلجأ لقراءة القرآن.
ويسرد الكتاب أيضاً رواية لفاطمة بنت أحمد العتيبة تقول فيها إن حالة القلق التي اتسمت بها شخصية الشاعرة عوشة تعود لقريحة الشعر وهيمنته على تفكيرها، وعلى حالتها الذهنية والنفسية، مضيفة: «يبدو أن الشاعر الملهم بأفكاره وكلماته ومعانيه وصوره البلاغية قد يجد من الصعوبة البقاء في مكان واحد، إذ تبقى سكناته، صمته، حديثه، وكل تحركاته متصلة وتابعة لتدفق المعاني والكلمات والأبيات بداخله، تضغط عليه فيقصد المكان الذي يحرّك فيه كل تلك الأحاسيس، ثم يترك المكان بمن فيه ليخلد إلى نفسه، أو لينتقل إلى غيره، وهكذا يظل الشاعر الملهم في حركة دائمة، ولا يعرف الهدوء».

قلق
سوف تحيلنا علامات قلق عوشة شعرياً وحياتياً إلى «غريزة التنقل» التي خبرتها منذ نشأتها في مدينة العين وحتى استقرارها في إمارة دبي، بعد كل ما لقيته في أسفارها البحرية والبرية من نصب وإعياء وجرح نازف في الروح، جرح سوف يلتئم لاحقاً ليكون بمثابة طاقة تزودها بالحكمة الناجزة والبصيرة الموجهة، ومعاينة التباين المذهل في طباع البشر وفي صنوف الأمزجة وتقلّب الأحوال.
لقد ساقتها الأقدار إلى متاهة ضارية، فاستدلت بالشعر ودلّت به، وكانت هي بكامل عنفوانها الأنثوي بوصلة الحيارى والعاشقين الذين رهنوا قلوبهم لظل نخلة سامقة في واد غير ذي زرع.
تقول عوشة في إحدى قصائدها التي نظمتها في جزيرة «دلما» بعد أن تعطلت السفينة وبقيت في الجزيرة مدة ثمانية عشرة يوماً:
«تكفى وزا ما صابنا والقلوب اشتات
ضحى ما يودع ذايب القلب مضنونه
وجوه يظهر عليها الحزن والحسرات
نهار الحبيب يودّع اللي يحبونه
علينا اظلمت لوطان واغبّرت الفيّات
وسالت ادموع اللي زها الكحل بعيونه
يخفي بكاه لا يفرح الشمّات
ولها عبرة في باطن اليوف مكنونة»

باحت عوشة بهذه القصيدة وهي في العشرينيات من عمرها لتدشّن مسيرة قلق رافقها طوال حياتها، وهي هنا تصف انكشافها مبكراً على حالة اغتراب لم تختره، لكنه عزّز لديها حسّ الاستقلالية واعتبار الحياة مغامرة تستحق الخوض في أهوالها، واستكناه غوامضها، وتجاوز عثراتها بالصبر والحنكة والمداراة، والاستعانة بالقصيدة أيضا لتعويض الخسارات الذاتية عند المواجهات المحتدمة مع العزلة والخيبات وغدر الأحباب وانكفاء الأمل.

حزن شفيف
تتقاطع المعاني المؤلمة في قصائد عوشة السويدي، مع حزنها الشفيف، ولكن هذه المعاني سرعان ما تصعد فوق الهمّ الشخصي، وتتحول إلى حكمة تندلع من نفس توّاقة للبوح وتبيان مكنونها من الرؤية الخاصة للوجود، رؤية لا تعكرها شوائب الانفعال اللحظي، بل تجلّيها الفكرة القائمة على تأمل الظواهر الخارجية ونقدها، واستثمار الألم كحالة استنارة داخلية تعيد شحن الذات بما يعينها على تخطي المواجع والانكسارات.