لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموماً، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح متكئاً لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون.. هنا إطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس. قد لا يوجد الكثير في أوراق ومسيرة الكاتب والروائي الإماراتي عبدالله محمد عيسى الناوري العلي الذي يرقد الآن على سرير الشفاء، من جانب الكتابة الغزيرة المتواصلة بوجه عام، والمشهد الروائي المحلي بوجه خاص، بعد أن كتب أول رواية بوليسية بعنوان “عنق يبحث عن عقد” مستفيدا في بنائها من تجربته وعمله كضابط في سلك الشرطة. ولكن يوجد في رحلته الكثير مما يمكن التشبث به لتقديمه للقارئ الجديد الذي قد لا يعرف عنه شيئا، فهو أحد كتاب جيل الريادة والتأسيس ممن شقوا طريقهم بصعوبة، ومع ذلك نجحوا في ذلك الوقت ـ مرحلة السبعينات ـ في التأسيس لذائقة جديدة وقارئ جديد، دون أن ننسى أن الرعيل الأول الذي كان متسلحا بذخيرة كبيرة من المورثين العربي والعالمي، كتب إبداعاته ضمن منظومة فكرية واجتماعية وإنسانية متكاملة يتصدرها الحرص على التأريخ للأحداث التي يمر بها الوطن ضمن قالب الرواية الواقعية لتحقيق مبدأ الالتزام لدى الناس، ومع حساسية مرهفة، وخيال خصب، وموهبة فطرية تلقائية، وصدق في التعبير، والعمل على بث رسائل توعوية للمجتمع من خلال المنتج الأدبي، أمكن لهؤلاء الرواد من التّشكل مع زخم التطور الذي شهدته الإمارات بعد مرحلة النفط، وبناء دولة الاتحاد. في تلك الأجواء المناخية الصحية الوثابة والتشجيع الرسمي اللامحدود، والتواصل مع تجربة الكتابة العربية، كان الكاتب المؤسس ينجز بإبداع حقيقي وعلى نار هادئة، ودون قلق من مقص الرقيب، أو غير ذلك من إشكاليات تعوق تدفق الكتابة التي شهدت زخما غير مسبوق في مسيرة الحركة الأدبية في الإمارات حتى وقتنا هذا.. وهنا نستذكر قول الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز: “في بيت دافئ وآلة كاتبة، ومعدة ممتلئة، أستطيع انجاز أفضل الأعمال والروايات والكتابات”. على الرغم من عدم ذيوع صيت عبد الله الناوري الأدبي، لأسباب تتعلق بظروفه الصحية، إلا أن منجزه الإبداعي، يجعل منه مستحقا للقول الذي حملته مقدمة الطبعة الثانية من روايته وهو: “عبد الله الناوري أديب مستتر تقديره هو !” رواية بوليسية نقرأ مسيرة الكاتب عبد الله الناوري باحترام شديد ونرفع له القبعات لأسباب كثيرة، أولا: كونه تمتع بجرأة عالية في اختراق عالم الروايات البوليسية وهو في سن صغيرة ولم يكن هذا النوع من الروايات مألوفا في ذلك الوقت، وثانيا لأنه فتح المجال أمام هذا النوع من الكتابات التي كان يفتقر لها الأدب الإماراتي في مرحلة السبعينيات، وما زال منجزها محدودا أن لم يكن نادرا على مستوى الأساليب الأخرى لكتابة الرواية. صحيح أن تجربة الناوري الكتابية ليست غزيرة، ولكنها في الواقع تجربة تكشف عن المخبوء في حياة الرجل الذي يرقد الآن على سرير الشفاء، ويتلهف كثيرا بحسب قوله في اتصال هاتفي معه إلى قراءة رأي جديد في مسيرته “حتى أشعر بأنني ما زلت في الذاكرة، وأن ما كتبته يبحث فيه الجيل الجديد الذي لا يعرف الكثير عن رواد الحركة الأدبية في الإمارات، كما أن قراءتي لشيء جديد قد تعيد الجسد المتعب إلى النهوض والكتابة من جديد”. الناوري غير دماثة خلقه، ورحابة صدره، فهو واحد من الكتّاب الذين مارسوا فعل الكتابة بطريقته الخاصة وإنسانيته الصادقة، لقد نجح في لفت الأنظار إليه وهو في التاسعة عشرة من عمره، من خلال روايته التي ما زالت تثير لدى القارئ تلك الحالة من الدهشة الجميلة، ولعل الذين يعرفون الناوري الضابط المتقاعد الآن، يعرفون مدى حرصه على الدقة داخل النص، دقة وانضباطية استمدها من روح عمله في الشرطة، بحيث تبدو الثرثرة الروائية شيئا مملا بالنسبة إليه، لذا فان روايته “عنق يبحث عن عقد” فيها سردية حافلة بالتنوع، وتوصل الفكرة إلى القارئ دونما إطناب مجاني، وربما يكون هذا الحرص، هو من أحد أهم الأسباب التي جعلت روايته جاذبة للانتباه حتى يومنا هذا، فقد جمع فيها بيئة الواقع، ومخزون الذاكرة الذي استثمره بطريقة جيدة. وعندما انتهيت من قراءة الرواية بغلافها الجميل والمعبّر، لم أتخيل أنها تحتوي على مضمون ممتلئ بالإيحاءات والإسقاطات على سلبيات بعض العادات الاجتماعية البالية، فمضمونها في الواقع مهم ومصقول بأساليب لغوية كثيرة مثل التشبيهات والاستطرادات التي تعطي الأجواء النفسية للأحداث وعيا مع كل تطور جديد، بحيث تدفعه لمعايشة الشخصيات وما ستنتهي إليه مع نهاية الرواية، وفي هذا السياق ليس غريبا أن نجد كاتبا وروائيا مثل يوسف القعيد يستعير في روايته “يحدث في مصر الآن” بنية الرواية البوليسية لينقلنا إلى مناخ الحصار والتعب اليومي والتضييق والإدانة الذي يعيشه الإنسان في القرى المصرية. زاد الذاكرة قديما قالت الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان: “كيف يمكن النظر إلى حدود الكتابة من دون الرجوع إلى الذاكرة؟”، نفس السؤال وجهته للناوري، الذي أجاب بدوره: “بالنسبة لي على الأقل، الذاكرة هي الزاد الذي يعمل مع المخيلة لتقديم منتج جديد، كل ما يمر بالكاتب قابل للتخزين وللاستخدام لاحقا، لا أعني السيرة الذاتية فقط، ولكن معايشة اللحظة والشخوص والانفعالات بإخلاص شديد. ذاكرتي لا تحتفظ بكل لحظة تمر بها بالطبع، ولا بكل شخص التقية، أو كل انفعال أعيشه، إنها ذاكرة انتقائية فيما يخص الكتابة. خلال عملي كثيرا ما استوقفتني عبارة بين شخصين، أو موقف ما مختزن بشحنة درامية، إن هذا الحوار أو تلك العبارات تبقى في ذاكرتي، تحفظها، وتعرف متى تمدّني بها، قد لا احتاجها أبدا، لكنها هناك جاهزة للاستعادة، علي أن أنوّه هنا أن الاستعانة بالذاكرة لا يعني استنساخ التفاصيل كما هي، ووضعها في المتن السردي، قد تكون مجرد أرضية أو أساس أمدّه بالتخييل ليفيد نصًي. لا أعلم ما المقدار الذي حققته في مجال العملية السردية، ولكن ما تحقق حتى الآن على مستوى طباعة الرواية مرة ثانية، وعلى مستوى ظهور أقلام شابة جديدة في هذا القالب الكتابي، يمنحني على الأقل شعورا بالخصوصية بالكتابة التي لم أسع فيها لتقليد أحد، فقد تركت نفسي على سجيتها قدر الإمكان من دون فذلكة أو ثرثرة زائدة أو بهلوانية في التعبير والرصد، وأظن أنني نجحت ولو قليلا في تكوين جبهة رفض مع القارئ ضد البلادة والاستسلام للواقع”. في سياق هذا الكلام يتوارد في الذهن تساؤل: هل تكون رواية “عنق يبحث عن عقد” قد سقطت سهوا من أوراق النقاد في تلك الفترة؟ سؤال ضروري لأنه وبعد التقليب في أوراق الحركة الأدبية في الإمارات في فترة السبعينات وما بعدها بقليل، لم أجد ما يمكن قراءته والاستشهاد به حول تجربة الناوري، مثل بقية من عاصروه كتابة في تلك الفترة، أو حتى في فترة لاحقة بعد صدور الطبعة الثانية من الرواية!، باستثناء ما كتبته الدكتورة فاطمة خليفة أحمد في كتابها “نشأة الرواية وتطورها في دولة الإمارات العربية المتحدة” ونجتزئ: “في الروايات الواقعية التقليدية للكتاب الإماراتيين كان اتجاه الزمن ـ في الغالب ـ صاعدا، بحيث يتوازى زمن الكتابة وزمن الأحداث في رواياتهم والتي كانت تتابع بتتابع الجمل وعلى نحو سببي فيكون الزمن ظرفا يحتوي الأحداث الجارية فيه، ويتمتع بسيرورة منظمة، تبدأ الرواية بناء عليها من حدث معين تكون بمثابة القاطرة التي ستجر خلفها العربات الأخرى (الأحداث اللاحقة) وصولا إلى العقدة التي تتمثل فيها الأزمة كمثل روايات: جروح على جدار الزمن، عنق يبحث عن عقد، شجن بنت القدر الحزين، عندما تستيقظ الأشجان، وغيرها” (الكتاب ص 327). وتقول أيضا: “من الروايات التي تجمع بين الأشكال اللغوية السردية كافة، رواية “عنق يبحث عن عقد”، فهناك الكلام المرسل والحوار والمناجاة، وقد طغى السرد المرسل على معظم الذين اعتمدوا الرواية التقليدية التي اعتمدت بشكل أساس على ضمير السرد الغائب، الذي رأى فيه الأدباء خير ضمير للروي، يتوافق ومنهجيتهم التراكمية لأحداث رواياتهم، الأمر الذي اكسب هذه الروايات طابع الإخبار المستمر، وجعل كل رواية عبارة عن جملة واسعة من الأخبار المتعاقبة” (المصدر السابق ص 350). كما صنفت الدكتورة فاطمة أحمد خليفة رواية الناوري على أنها قريبة من صياغة المسرحية، ونجتزئ: “ولا بد من الإشارة هنا إلى أن اللغة وظفت ـ دائما ـ في خدمة أسلوب الكاتب وقصديته من روايته، فلم يحاول هؤلاء الكتاب استخدامها لغايات تزيينية، وإنما كانت توظف لخدمة الإخبار أكثر مما توظف للتصوير، إذ قلّت المشاهد التصويرية (الوصف) إلى حد أن خرجت، أو كادت بعض الروايات أن تخرج عن جنسها كرواية لتغدو مسرحية أو شبه ذلك كرواية مثل: شجن بنت القدر الحزين، وعنق يبحث عن عقد، وابن مولاي السلطان لمنصور عبد الرحمن، وإذا كان هذا التصرف ينبئ عن شدة تمسك الكاتب بالحدث ومتابعته، فانه من جانب آخر يعكس افتقار بعض هؤلاء الكتاب للتخييل، أو عدم سعيهم إليه على الأقل، وقد ظهر هذا واضحا في الرواية التقليدية لعامة، وشكّل أثرا بالغا على اللغة، إذ ظهرت لغة موضوعية متناسقة تتطلع دائما إلى الدّقة في نقل الواقع، وبأبسط الصيغ، وبما أن الرواية أولا وأخيرا فن إبداعي لغوي، فإن افتقاد الرواية الإماراتية لتلك الشعرية التي يجب أن تتوفر فيها من خلال اللغة، قد جعلها في موقع مقارب للواقع، ولكنه بعيد عن الإبداع التخييلي، وأن لجوء الكتّاب الإماراتيين إلى تعميم الفصحى المبسطة التي اعتمدوها على جميع شخصيات رواياتهم دون التمييز بين شخصية وأخرى من حيث منزلتها الثقافية أو الإدارية أو البيئية الخ.. قد ترك مجالا للنظر في مدى موضوعية هذه الشخصيات من حيث مصداقيتها في تعبيرها عن الواقع الذي ينشده هؤلاء الكتّاب” (المصدر السابق ص 350 وص 351). وأيضا: “وكذلك في رواية “عنق يبحث عن عقد” إذ نجد أن شخصية (الزوج عادل) بتصرفاته الحركية وأقواله في التحقيق كانت قد خلقت لدى القارئ الريبة به وقد جسد ذلك المحقق أيضا، وهو المتمرس في قراءة مثل هذه التعابير اللفظية أو الملامح السيميائية التي تظهر عادة على الجناة” (المصدر السابق ص 352). وربما استندت الكاتبة في قولها السابق إلى حديث المحقق مع الزوج عادل: “إن إحساس رجل البوليس لا يخيب، وأنا أرفض رفضا باتّا أن أعتبر سحبك مبلغ عشرين ألف درهم من بنك ووضعها في بنك آخر لمجرد الموازنة كما تدّعي، ولو كانت الأمور تسير بهذه الصورة المعقدة لما تعاملت الناس مع البنوك” (الرواية ص 114). خضوع وذوبان من الإشارات القليلة الأخرى للرواية ما كتبه الدكتور سمر روحي الفيصل أستاذ النقد والأدب في جامعة الإمارات في كتابه “قضايا السرد في الرواية الإماراتية” الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2003، ونجتزئ: “هي ذروة الاهتمام بالحوادث الروائية أو هي بتعبير آخر نموذج لسيادة الحوادث وخضوع العناصر الروائية الأخرى لها، وذوبانها فيها، وهذا النموذج المعروف جيدا في روايات “الفتيان” وخصوصا “روايات الألغاز” لم يتكرر في الرواية الإماراتية. إن السرد الحكائي للحوادث فرض على السارد أن يبقي الغموض مستمرا حتى نهاية الرواية، وأن ينصرف في السياق إلى ابتداع حوادث فرعية، لكل حدث منها أهمية وعلاقة بالغموض المحيط بحدث الاختفاء. إن طباعة “عنق يبحث عن عقد” عام 1987 قبل نحو ربع قرن، وطبيعة السرد الحكائي فيها واتجاهها إلى النوع “البوليسي” وتوافر فرصة قبولها ضمن روايات الفتيان، تشفع لزلاّتها القليلة، وتجعل المرء يأسف لعدم تكرار تجربتها في الرواية الإماراتية. تلك الرواية التي لم تتجه بعد إلى هذا النوع المؤسّس لرواية الفتيان” (الكتاب ص 145 وص 149). هذه تقريبا بعض الإشارات البسيطة التي استطعنا التقاطها من بعض الكتابات النقدية التي تناولت رواية الناوري، وهي إشارات عامة في تقديري، ولا تفي الكاتب حقّه، إذ اتكأ بعض النقاد في تناولهم للرواية على منظور السطح الخارجي سواء في تتبعهم للخطاب اللغوي للجمل والمفردات المستخدمة في المتن السردي، أو على مستوى المضمون الذي أرجعه البعض إلى ما هو مستخدم في المصطلحات الشرطية والقانونية، ضمن قالبها البوليسي، متناسين أن اللغة المستخدمة في مثل هذا النوع من الروايات، هي من أصعب ما يمكن التعبير من خلاله عن حالة وعواطف وسلوك وردود أفعال الشخصيات، على نحو تلك الجماليات اللغوية التي شاهدناها في استخدامات الناوري في الثنائيات الحوارية التي جرت بين المحققين يوسف وعبد الله وبقية شخصيات الرواية، ثنائيات لم تخل من الإثارة والتشويق لمتابعة الغموض الذي يغلف أجواء الأحداث، بعيدا عن أجواء الترفية. وعودة سريعة إلى كتاب “الأجناس الأدبية” لفولكر أوت، ترجمة الدكتور محمد فؤاد نعناع تجد فيه مقالة جميلة للكاتب والمخرج الألماني الشهير برتولد بريشت يقول فيها حول شعبية الرواية البوليسية: “تظهر الرواية البوليسية بلا شكّ سمات أحد الفروع الأدبية المزدهرة” (الكتاب ص 450). في حين ترى الكاتبة البوليسية دورتي سايروس: “إن الرواية البوليسية هي رواية أدب القول والحكاية والسرد، وليس أدب التسلية كما يشاع” (كتاب “مقدمات للقصص البوليسية العظيمة ـ الجريمة والرعب” لندن 1960). وكتب الناقد والأستاذ الجامعي المغربي شعيب حليفي الساوري في السياق، منوها إلى النظرة القاصرة من النقد العربي تجاه الرواية البوليسية العربية من خلال تناول نصوص من مصر وتونس والجزائر والمغرب، ونجتزئ من دراسة له بعنوان “التخييل ولغة التشويق: مقاربة في البناء الفني للرواية البوليسية في الأدب العربي” ما يلي: “باعتبار الرواية نصا ثقافيا يوظف كل المعارف والحقائق والأحلام ضمن رؤية فنية ذات شكل، وضمن ذلك ظهر التخييل المؤطر بقضايا التحري والتحقيق وفكّ الألغاز، أو ما يسمى بالرواية البوليسية، مما يمكّن من خوض تحليلات لخوض علاقة الرواية بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والتوظيف المتنوع لعناصر الحياة المدينية وما تفرزه من جرائم واختفاءات، لقد حفلت الرواية العربية بنصوص جميلة في هذا الاتجاه وبأشكال مختلفة تقوم على لغة ممتعة، وتشويق مبهر، مع التركيز على عنصر الصراع وتأويلاته، ثم اللغة وقدرتها في تحقيق وقيام هذا النوع الروائي. ما زالت نظرة النقد في أدبنا العربي قاصرة في رؤيتها للرواية البوليسية، بمقابل كيف استطاعت هذه الرواية أن تحتلّ في الغرب موقعا مميزا داخل الأدب ونقاده، وكيف حظيت باهتمام النقاد والدارسين الغربيين، وكيف نالت مقرونية لا بأس بها، تجاوزت القارئ العادي إلى الناقد والباحث الأكاديمي مثل: جاك ديبوار، وتودوروف، وجيل دولوز وغيرهم كثيرون”. (مجلة فصول العدد 46، القاهرة 2009). كان لا بد في تقديري من هذا العرض السريع لمكانة الرواية البوليسية لدى بعض نقاد الأدب العربي والغربي، للدخول في مقاربة قصيرة وأولى تجاه رواية الناوري “عنق يبحث عن عقد” في قالبها الواقعي، وقد اتسمت بمزايا عديدة تجاهلها النقد المحلي، ومن ذلك جانب وصفه الجميل لواقع الشخصيات من الداخل، سواء من خلال تنميط تلك الشخصيات عن طريق تركيز الكاتب على الفرد وصراعاته للوصول من خلال ذلك إلى دلالة اجتماعية أكثر شمولا، وأيضا تحليل المتناقضات الاجتماعية من خلال الرسم الدقيق للشخصيات، وبخاصة شخصية الزوج “عادل”، والضابطين يوسف وعبد الله. هذا إلى جانب تلك للغة السردية الرشيقة الموحية التي استخدمها الناوري في روايته، لغة تنوعت ما بين السرد والحوار، بحيث جمع مجمل البناء الروائي المحكم ما بين الرواية البوليسية النموذجية (جريمة ومجرم، ألغاز، تحقيق)، وبين الرواية ذات الإيقاع البوليسي، كما وجدنا في “اللص والكلاب” عند الروائي العالمي نجيب محفوظ، والتي قد تشترك مع الرواية البوليسية في عناصر عديدة (جريمة، تحقيق، مطاردة). لقد نجح الكاتب عبد الله الناوري في روايته في تحديد مجمل مركب الموضوع بأن فتح عينية مثل عدسة كاميرا دقيقة على التناقضات القائمة داخل المجتمع المحلي وأدت إلى حدوث (جريمة)، بالإضافة إلى صلته الوثيقة ببيئة الزمان والمكان للإحاطة بعالم جدليات الصراع بين شخصيات روايته وبيئتها، وإبراز حالة انعدام الوزن لدى الشخصية الرئيسية (عادل) بطريقة موحية، كذلك تفهم الوضع الإنساني لمجمل الشخصيات وفي مراحل تطورها مع تزامن تطور الأحداث، حيث وجدنا بعض الشخصيات (سلوى، والدة سلوى) نماذج رافضة للانهزامية والعدمية، وتملك إيمانا شديدا بقدرة الإنسان على تغيير واقعه، وبذلك يكون الكاتب قد وضع يديه على مكونات الشخصية الايجابية، تملك دلالات الدوافع والتطور، إنها شخصيات حيّة رسمت بعناية وهي تتحرك بتدفق على سطح الورق. عبد الله الناوري وقد حاول الكاتب من خلالها إدانة الواقع الاجتماعي، وإدانة عالم العنف والجريمة، سواء جرائم الأفراد، أو الجريمة المنظمة التي تقوم عليها المافيا والعصابات، ولعلها رؤية استشرافية لنتائج استخدام القوة وفعل التسلط، حيث المزيد من القهر والجوع والاستلاب والقتل، لتتشكل في النهاية أزمة الإنسان المعاصر، أزمة الإنسان الذي يعيش في بيت تسكنه أفعى مختبئة، أفعى اسمها الجريمة. جيل جديد لعل فضل الناوري في مجال الرواية البوليسية ـ وهو أحد أبناء رواية جيل السبعينات، جيل الرواية الأكثر تعبيرا عن روح مجتمع التحول والبناء ـ هي تلك الحمولات التي قدمها بقدر من النظرة التفاؤلية للمستقبل، لعل ذلك يقودنا بالضرورة للحديث عن الندوة التي عقدها اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات في الشارقة بتاريخ 2/2 /2011 وجمعت كاتبين من الفائزين في مسابقة القصة البوليسية التي أطلقتها شرطة دبي قبل عدة سنوات، والقاصين هما: النقيب سعاد يوسف محمد سعيد، التي فازت بجائزة المركز الأول عن قصتها “جريمة في منتصف الليل”، والشرطي محمد أحمد جار الله الذي يعمل في مجال الأدلة الجنائية ورفع البصمات، الفائز بجائزة المسابقة عن قصته “القفاز” المستوحى مضمونها بالكامل من وحي الخيال. أدار الندوة الأديبة أسماء الزرعوني نائب رئيس مجلس إدارة الاتحاد، وأشارت في كلمتها: “إن الأدب الإماراتي يفتقد القصة والرواية البوليسية، إلا إذا استثنينا رواية “عنق يبحث عن عقد” لعبد الله الناوري”. من تحت عباءة الناوري، خرج أكثر من عشرين قاصا وقاصة، نجحت شرطة دبي في اكتشافهم من خلال مسابقتها، تم جمع قصصهم في كتاب ساهمت في طباعته وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، وقد استوحيت معظم مواضيع القصص مستلهمة من الواقع المعاش، معززة من الناحية التقنية بما يتطلبه فن كتابة القصة من سرد وحوار ووصف ورسم الشخصيات والإيقاع، والبناء الفني العام واللغة وغيرها من العناصر والمفردات، ونجتزئ مما جاء في مقدمة الكتاب: “قد يعتبر هذا الكتاب الأول من نوعه على مستوى العالم كأسلوب مبتكر وحديث في الشكل الأدبي، وذلك لتحقيق غاية هامة هي الاحتراس والحيطة من سقوط أفراد المجتمع كضحايا للجرائم، لو واجهوا نفس الظروف التي وقع فيها المجني عليهم”، على ذلك يمكن القول أن شرطة دبي من خلال مسابقتها قد حصدت ثمار جهود الناوري في وضع الأسس والقواعد والأرضية لهذا النوع من الكتابات التي تجمع بين تقنيات فن السرد، ومتطلبات توعية المجتمع، وبخاصة أن عالم الجريمة قد تطور بشكل مذهل على مستوى الجرائم الالكترونية والقرصنة وأمن الشبكات، وخطورة المواقع الاجتماعية التي أصبحت اليوم من أخطر الوسائل التي يستخدمها قطاع الشباب بشكل خاص. معركة ذكاء صدرت الطبعة الأولى من رواية “عنق يبحث عن عقد”، عن مطبعة رأس الخيمة عام 1978، أما الطبعة الثانية منها فقد صدرت في 160 صفحة من القطع المتوسط عن منشورات وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع بالتعاون مع اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات عام 2009، وقدم للرواية الشاعر عبد الله السبب رئيس لجنة التأليف والنشر في اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات ونجتزئ: “إن الكاتب عبدالله الناوري يأتي في المرتبة الثانية على مستوى دولة الإمارات العربية المتحدة من حيث الإصدار الروائي، وفي المرتبة الأولى على صعيد إمارة رأس الخيمة وهو أول عمل روائي بوليسي على المستوى العام في الدولة. ولأن أحداث الرواية تدور حول عقد الذهب الذي هو بمثابة حلم قديم لـ”سلوى” بطلة الرواية، ونقطة التقاء لقصة اكتشافها تم اكتشاف جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد، كل ذلك يؤكد ذكاء ونجاح الروائي في اختياره لعنوان الرواية التي أخذ يسرد أحداثها بنفس بوليسي يحسب له قياسا بالعصر الذي ولدت فيه، مقارنة بزميلاتها من الروايات العربية ذات الاتجاه المشترك ونزولا عند الحركة الأدبية لدولة الإمارات وهي في بداية عصرها”. حول سر اهتمامه بكتابة الروايات البوليسية قال الناوري: “لقد أغرمت بالجرائم الغامضة وكتب التحقيقات الجنائية، ولأن منظومة العمل الشرطي مجال خصب للإبداع، فمنذ الالتحاق بالسلك العسكري عام 1975، وصولا إلى العام 1977 والدورات العسكرية التي شكّلت فضاء رحبا لتغذية ملكة الكتابة الكامنة في الفكر الإنساني منذ ولادته، علاوة على ذلك فان وقت العمل غالبا ما يفيض بساعات تضطرني لملئها بقراءات مركزة في مختلف الفنون والآداب والمعارف، وعلى رأس تلك الروايات، رواية الكاتبة العالمية أجاثا كريستي التي تعدّ منجما غنيا بالحبكة الروائية البوليسية”. حديث الناوري هذا لا يكشف للقارئ عن منابع فكره للكتابة، وكيف يستمد فكره منها، ويقصد بذلك عمله في الشرطة، الذي قاده ضمنا لكتابة الرواية البوليسية، وما تتمتع به من أجواء التحقيقات والغموض، وجذب القارئ لفك لغز الجريمة، وما إلى ذلك من قضايا ذات صلة بالموضوع، إنما هو وبعد أن تنتهي من قراءة روايته “عنق يبحث عن عقد” يدخلك في دهاليز الأدب البوليسي وغالبا ما يتضمن حكاية أو قصة أو رواية، قوامها اكتشاف رجل من رجال البوليس أو التّحري جريمة تبدو للعيان وكأنها (كاملة)، وفي هذا النوع من الروايات يتقدم الكاتب نحو (الحل) بطريقة مشوّقة تثير فضول القارئ وتحبس أنفاسه وتستثير ملكة حل الألغاز عنده، ويعتبر الآن بو مؤسس القصة البوليسية، من خلال قصته الشهيرة “عمليات القتل في شارع مورغ” عام 1841، كما يعتبر كل من: آرثر كونان دويل، وأجاثا كريستي، وجورج سيمون، من أبرز أعلامها. في تقديري إن الروايات البوليسية ومنها رواية الناوري هي (معركة ذكاء) بين المجرم والمحقق، على اعتبار أن الروايات من هذا الواقع هي ذات نمط واحد، سواء كانت الحكاية رواية أو قصة طويلة، أو رواية قصيرة، أو حتى قصة قصيرة، وفيها جميعا يتتبع الشرطي السّري مفاتيح الألغاز وقد تقوده التحقيقات إلى اكتشاف جرائم أخرى، وتبلغ الرواية ذروتها عندما يكشف المحقق عن الفاعل الحقيقي، كما يخبرنا الكاتب في سير الأحداث كيف تم فكّ لغز الجريمة، ومن هذا النمط من الروايات تطورت تقاليد وقواعد معينة، إذ يتوقع من الكاتب أن يتعامل بعدالة مع القارئ المتلهف على الدوام الوصول إلى الحقيقة، وصولا إلى ما يعرف اصطلاحا بـ(التطهير)، أو في النهاية انتصار الخير على الشر. وبالعودة قليلا إلى رواية الناوري، نجد أن فيها ما في القصص البوليسية من تشويق ومفاجآت تحث القارئ على المضي في قراءتها حتى نهاية آخر كلمة فيها، ولموضوعها وطريقة عرض شخصياتها وتشابك أحداثها، ولغتها وحوارها الرصين الواضح، ستظل تشكل إلى وقت طويل (حالة خاصة) في سياق مسيرة الرواية الإماراتية، نظرا لخصوصية الطرح والتنوع في استخدام التقنيات، والجرأة في التناول، الذي يبدو من السطح وكأنه تمرين مهني أو ورشة تدريب لرجل ذكي من الشرطة على فكّ ألغاز الجرائم. أديب مستتر اعتبر القائمون على الشأن الثقافي في مرحلة السبعينات عام 1978، التاريخ الحقيقي لميلاد الرواية البوليسية في الإمارات، من خلال رواية “عنق يبحث عن عقد” التي كتبها الناوري بحكم امتلاكه لتقنيات هذه الكتابة، فضلا عن انتسابه إلى ميدان العمل الجنائي لسنوات طويلة. أما شخصياتها الرئيسية فهي: الزوج عادل، الزوجة سلوى، والدة الزوجة، الضابط يوسف، الضابط عبد الله، شخصيات ثانوية. تدور فكرة الرواية التي كتبها الناوري وهو في التاسعة عشرة من عمره واستمد موضوعها من وحي عمله في سلك الشرطة، حول اختفاء “سلوى” في ظروف غامضة، وذلك بعد إعلانها نبأ جنين يتنفس في أحشائها، وفرحة زوجها “عادل” بهذا النبأ العظيم بالنسبة لزوج على علاقة طيبة بزوجته، ثم تتوالى أحداث الرواية بأسلوب شائق ممتع حتى ينكشف القائل الحقيقي. من أجواء التحقيقات في الرواية التي اتكأ الكاتب فيها على عنصر السرد والحوار في إيقاع سريع شائق نجتزئ: “إننا الآن نستدعيك لننبهك لخطورة إخفائك للسيدة سلوى، إنا بلا شك نستبعد أن يكون شخص مثقف وواع مثلك يجسر على شيء أكثر من الإخفاء، ولكننا ننصحك الآن أن تعترف لنا بالمكان الذي أخفيت فيه السيدة سلوى، ونريدك أن تتذكر أن تتذكر أن لك ابنا منها، ولك أن تتصور الحال الذي يكون فيه ابنك وهو يفتقد أمه. لنفترض يا سيد جاسم بأنك أخفيتها وأوكلت شخصا لخدمتها في ذلك الوقت، ألم تضع في حسابك أن تمرض هذه السيدة وتحتاج حالتها لمقابلة الطبيب مثلا؟ ثم لا يجسر الشخص الذي أوكلته بإخفائها أن يعرضها للطبيب خوفا من افتضاح الأمر فتموت هذه السيدة ويتلوع بذلك ابنك، وبالطبع ستكون النتيجة بالنسبة لك جد خطيرة. إننا وكما ذكر لك السيد عبد الله لا نقيم وزنا للزمن هنا، وسنظل نحتفظ بك حتى تعترف، ولا بد مما ليس بد منه”. فيما يتكشّف لنا مع الوقت مهارة الناوري في توظيف شكل التحقيق والبحث الذي يقوم به المحقق، حيث تحضر عديد من المفردات المستعارة من حقل التّقصي البوليسي، ولنا أن نعلم أن النقد الأدبي حتى حدود الثمانينات، كان يستبعد تماما الرواية البوليسية من الحقل الأدبي واصفا إياها برواية الحوادث، حتى بدأت الأقلام النقدية الجادة في فترة لاحقة بتفهم حقيقية وواقع هذه الرواية، حتى أن بعض الأعمال الأدبية المجمع على رفعتها، قد ظلّت لصيقة بالبناء البوليسي، بل ان بعض الأدباء الكبار اليوم يبحث عن موضوعاته في أخبار الجرائم والقضايا الجنائية التي يسمع بها أو يقرأ عنها، بحيث أصبح للجريمة مجتمع خاص له خصوصيته وغموضه ورموزه أيضا. أهدى الناوري الطبعة الثانية من روايته إلى كل العيون الساهرة ممثلة في شخص المقدّم محمد عبد الرحمن أبو قصيدة، والى منتسبي “اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات” لما يبذلونه من عطاء وفكر أدبي في الساحتين المحلية والعربية. ونجتزئ من تقديم الرواية تحت عنوان: “عبد الله الناوري أديب مستتر تقديره هو !”: “هل يمكنني الاستدلال على الكاتب الروائي البوليسي عبد الله الناوري؟ على ضوء هذا السؤال المباغت مثل أزيز طائرة كاتمة للصوت، وائتلافا مع هدوء المثقف الواثق من ذاكرته ـ الحافلة برموز وأسماء وشواهد نزدان بها رأس الخيمة بكل شرايينها، وتقرّها الأوساط الثقافية في كافة الحوارات والحارات.. يأتي رد الشاعر احمد عيسى العسم ـ رئيس فرع اتحاد كتاب وأدباء الإمارات برأس الخيمة ـ بأن “نعم”! إلا أن علامة استفهام كبيرة كتلك لم أدع لها مجالا بالمرور هكذا دون امتطائها أو تقصّي أثرها.. إذ ساهمت تلك العلامة كثيرا في على التحريض على البحث الجاد عن إجابة شافية لها نفعها الخاص، ونأمل لها أن تميط اللثام عن قلم، نادرا ما نجده في ذاكرة الثقافة الأدبية الإماراتية! أجل عبد الله الناوري ليس بالاسم الغريب على ذاكرتنا المعطوبة، ففيما سؤال زميلنا أحمد محمد عبيد يحوم في الأفق كنسر جائع، أخذت أناملنا في المسير نحو صندوق مقفل يعجّ بأمانات الكتب الجاثمة في حوزتنا منذ سنين.. ثم ها هي تلتقط الإصدار الروائي الأول للناوري، لتبدأ الرأس بقراءة صامتة أشبه برنين مغناطيسي مفخخ بالمرايا. (الرواية ص 10). عودة ثانية إلى رواية “عنق يبحث عن عقد”.. في البدء ثمة غلاف لافت لها من تصميم الفنان علي الجالك هو عبارة عن رسم لوجه امرأة وعنق طويل، وعقد متمثلا بحلم يتطاير في الأفق. أما غلاف الطبعة الأولى فقد قام برسمه وتصميمه الفنان الراحل يوسف خاطر. ويقول الناوري حول ذلك: “نزولا عند الرؤيا الجغرافية لمصمم الغلاف عمدت إلى تسمية شخصيات العمل الروائي بأسماء لها القابلية القرائية لدى شريحة كبيرة من القراء في الوطن العربي قاطبة. وعلى ذلك بدأت أنسج خيوط روايتي الجديدة حتى وصلت إلى منتصفها، ثم توقفت عن الوصول بها إلى خط النهاية لظروف خارج الاحتمال ومعيقة للعمل الإبداعي، لقد توقفت منذ ذلك الحين، عن مجاراة صهيل الكتابة الذي ما زال يرنّ في ذاكرتي وفي روحي كجرس، مما يدعوني دائما وأبدا لعقد اتفاقية تعيدني إلى ركب الكتابة الإبداعية من جديد” (الرواية ص 13). رواية “عنق يبحث عن عقد” تنتهي بمحاولة الزوج عادل الانتحار، ومن ثم اعترافه بقتل زوجته سلوى أمام الضابطين يوسف وعبد الله، وربما يكون رسم مشهد الاعتراف من أجمل مشاهد الرواية، إذ صبّه الناوري في قالب درامي بديع، يبدأ بثنائية حوارية بين المحققين: طريقته في الحوار ألا تعتقد أنها تثير الشّك؟ كيف؟ إنه فعلا كان جادّا في انتحاره.. حتى لوكان جادّا لطعن موضع القلب أو قطع شريانا من شرايينه، إنه فقط فعل ذلك من أجل التمويه، هل سمعت بشخص انتحر لمجرد انه يجرح فخذه؟ إنها فعلا نقطة هامة ويجب ألا ندع هذه الفرصة دون أن ننتزع الاعتراف منه. (ويدخل الشرطي وأمامه عادل ليجلس في نفس المكان الذي كان يجلس عليه وقد بدل الضابطان خطتهما في الاستجواب) ـ يا عادل.. إننا ألان أمام قضية قد تبدو معقدة إلا أننا في نفس الوقت أمام شخص لا نخفي بأننا نشير له بأصابع الاتهام وهو شخص يمكنه الاعتراف بما ارتكب حفظا للعهد والحب الذي كان يمنحه لزوجته، انك يا عادل ستخسر كثيرا ان ظللت منكرا والأمور ستظل خفيفة بعد الاعتراف، فلماذا تعذب نفسك كل هذا العذاب؟ (وقد تفاجأ عادل بهذه اللهجة الرقيقة التي خاطبه بها الضابط يوسف، وبسرعة نهض واقفا ليقول): ـ سلوى، نعم، نعم، اكتبوا أنا الذي قتلت زوجتي، اكتبوا بسرعة، أنا الذي قتلت سلوى.. أكتبوا هذا الاعتراف قبل أن أغير رأيي” (الرواية ص 155 و156). نجد أن هذا المشهد الدرامي أو المقتطف السابق هو بناء فني ناجح بكل المقاييس، فالتحقيق الذي جاء متكئا على الحوار الوصفي حقق وظيفة التحقيق على مستوى المعرفة لاستجلاء لغز الجريمة، وعلى المستوى النفعي نيل الاعتراف بهدوء تام، أقيم على لغة المناقشة، ومنطق سردي يقوم على منطقية الإحداث. إن الحوار واللغة في هذه الرواية لعبت دورا مهما، وأشار وجودها بهذه الحرفية إلى مغزى عميق، فهي تبحث في المعاني الاشتقاقية الواردة في الرواية وتكشف عن بعض إيحاءاتها الدلالية: “المدينة لا تفتر عن الحديث حول اختفاء سلوى، والحديث يصبح ممتعا ان كان يدور حول شيء مبهم فيستبق الناس بآرائهم وتخيلاتهم، منهم من يؤكد شيئا لا علم به، ومنهم من يقول ربما، ومنهم من ينتقل من مجلس الى آخر، يبحث في نفس القضية، فيتبنى بذلك الآراء التي سمعها في مجلسه الاول، ولا يبخل في أن يزخرف الآراء التي سمعها بكلمة أو كلمتين، ويستمر الحال هكذا بينما تتلاشى الحقيقة شيئا فشيئا” (الرواية ص 72). في تقديري إن الناوري كتب الرواية البوليسية (الأصعب) والأكثر تفردا، لأنه ببساطة شديدة توجّه إلى شريحة قراء ذوي طبيعة خاصة، ونقصد جمهرة القراء الذين لم يتعودوا على مفهوم الرواية البوليسية في ذلك الوقت، ما يتطلب بناء حبكة درامية تقوم على منطقية الأحداث ومواصفات الشخصيات والصراع بينها، لكن الأهم من ذلك إن الناوري استطاع بمهارة عالية من صياغة (رواية الضد) أو المفارقة حينما صنع من قصة الحب بين زوجين، جريمة قتل، بمعنى الخلاص بالحب، على نحو ما توارد عبر المدارس الأدبية مثل: الخلاص بالإيمان، ومبدأ الخلاص بالأعمال، والخلاص بالموت، وغيرها من الاصطلاحات التي إذا ما تم استخدامها بمعادل موضوعي جيد، تفضي إلى عمل محكم، ونجتزئ من حالة الحب بين الزوجين سلوى وعادل قبل أن تقع جريمة القتل: “بدا الفرح ظاهرا على وجه عادل بينما جلس ليشرب كوب الشاي، وهو يتعمد أن يعانق رأس سلوى ويوجّه كلمات الرضا إلى عمّته، ويقبّل ابن سلوى، ويقول له ان أخا سيهل علينا قريبا ليشاركك هذا البيت الذي يصبح عامرا بكما.. وقد شرد عادل بفكره قليلا مما جعل عمّته تناديه وتقول له: إن الإنسان دائما يسرح بفكره في مثل هذه المواقف التي يصبح فيها أبا ويحمل مسؤولية مقدّسة جديدة، وأنا واثقة يا بني أن حياتكما ستزداد سعادة، وسيرفرف الخير على هذا البيت. وكان عادل يجيب بالتأكيد مبديا سعادته لهذا الحدث الذي سيهبط عما قريب على البيت” (الرواية ص 31). تجربة الكاتب قد لا نودّ الحديث كثيرا عن رواية “عنق يبحث عن عقد” بقدر ما نودّ قراءة ما في داخل الكاتب عبد الله الناوري الذي أفنى زهرة شبابه في العمل الجنائي والبحث والتقصي عن (العدالة) بين خفايا الحياة وغموض الشخصيات، نتحدث عن الضابط الإنسان الذي تحامل على نفسه رغم المرض لكي يقول في حوار معه: إنه لم يكن يسع كثيرا إلى دفع الجناة إلى الاعتراف بجرائمهم، بقدر حرصه على دراسة شخصياتهم وظروفهم الحياتية وهمومهم وآمالهم في الحياة، واتجاهاتهم ودوافعهم وإيقاعهم النفسي ومزاجهم المرتبط بالبعد السيكولوجي، وقد ساعدني ذلك على الاقتراب من فهم الشخصية وتقلباتها وانعكاس ذلك على سير الأحداث والصراع وبناء الحبكة، وطريقة رسمها ووضعها في المكان الصحيح بين شخصيات الرواية، وقد ساهم ذلك في تحقيق رؤية واضحة لعناصر فن المناقشة، وتقديم الشخصيات بروح من الديناميكية والطاقة، تقف في موقف النّدية مع بعض الروايات البوليسية العربية”. عن اختياره طريق الرواية البوليسية قال الناوري: “الناس يعشقون قصص الجرائم، والروايات البوليسية موجودة تقريبا أينما تذهب في أي مكان في أي عاصمة عربية أو عالمية تسافر إليها، وهذا النوع من الكتابات يجد هوى لدى قرّاء من مستويات ثقافية متباينة، ومن آليات هذه الروايات ما يتعلق بالكاتب نفسه، وتبعا للثقة التي يصنعها هذا الكاتب لدى قرائه فان البائع نفسه يتحمس بتوزيع كتابه أو روايته، فلا شك أن اسم أجاثا كريستي مثلا يشجع الناشر على إعادة طبع أي رواية، حتى لو صدرت قبل هذا عديد من المرّات، فهو مطمئن أن هناك جيلا جديدا يهوى هذه الروايات التي لم يسبق أن وصلت إليه. بالنسبة لي لقد بنيت علاقة طيبة مع القراء منذ الطبعة الأولى من الرواية، وقد ساعد ذلك على إعادة طباعتها مرة ثانية، وذلك يكفي للتأكيد أن الرواية تتمتع بمستوى جيد، ووجدت إقبالا مميزا، بالإضافة إلى أن إعادة طباعتها مع المزيد من التنقيح، قد ساهم في ظهور جيل جديد من الأقلام الشّابة في هذا المضمار، مما سيؤسس مع الوقت قاعدة واعية من الكتاب لرسالة هذا النوع من الكتابات الصعبة”. عندما تتحدث مع كاتب مثل عبد الله الناوري تأكد أنك ستغرق في بحر من المشاعر الرقيقة المنسابة كندى الربيع، وعليك أن تجتر سريعا معه المناخ الثقافي لمرحلة السبعينات، بكل كتّابها، ومزاجها، كذلك أولئك المؤسسين الذين مهدوا وبأقل الإمكانيات المتاحة الطريق أمام الجيل الجديد من كتّاب الإمارات، وبذلك لا تستطيع أن تنسى مثلا أن كاتبة مثل شيخة النّاخي قد أصدرت رواية اسمها “الرحيل”، فيما يصدر عبد الله صقر أول مجموعة قصصية بعنوان “الخشبة” عام 1974 في دبي، وقصة” ذكريات وأماني” لحاج مظفر عام 1971، وأيضا قصة “ضحية الطمع” لعلي عبيد علي عام 1972، وقصة “يوميات موظف صغير” لعبد العزيز خليل عام 1874، ومجموعة “الشقاء” لعلي عبد العزيز الشرهان، وغيرها كثير، وهذه ظاهرة فريدة ولافتة للانتباه وتصور نشاطا متفوقا على ما في البلدان العربية سواء من الناحية الإحصائية أو من ناحية عدد الأقلام المشتغلة في المجال الإبداعي، ومنهم عبد الله الناوري الذي يتحمل الآن وجعه وألمه وحدة مع قليل من الأصدقاء الذين يزورونه من فترة وأخرى، وقال: “إن عالم الجريمة تطور مذهلا بسبب سيطرة رعاة العولمة على الكثير من مناحي الحياة، فلم تعد جرائم القتل هي المصدر الوحيد لكتابة الرواية، هناك جرائم طفت على السطح ومنها على سبيل المثال لا الحصر، جرائم الاتجار بالبشر، والأخرى ذات الصلة بثورة المعلومات والانترنت، وعالم الجاسوسية، وغيرها مما يتيح مادة خصبة للكتابة، وأتمنى أن يكون لدي شيء يليق بالناس والقراء، ومن ثم أعمل على استثمار خبرتي وأدواتي للشروع في كتابة روايات بوليسية جديدة ترتقي إلى المستوى المطلوب”. يظل للناوري مكانته ومساحته على خريطة الإبداع الإماراتي، فهو من ذلك الجيل الذي عايش بدايات تجربة (الوحدة) الرائدة نحو الفكر الإنساني ودعم الثقافة الوطنية عبر جهود أبنائها، الذين وجدوا أنفسهم بشكل تلقائي يسهمون في رفعة هذا البناء الوطني الجديد، ومنذ ذلك الوقت بدأ المجتمع يتعرف إلى شريحة من الشعب حملت على عاتقها المسألة الثقافية محمل الجد، وفتحت قنواتها نحو ما يحقق موروث وهوية الوطن ، مستفيدة من التجارب العربية الإنسانية، فكان لوجود الأديب ضرورة قصوى تكمل وجه النهضة، والعمل على تطوير الحراك الثقافي الذي نلمس آثاره الممتدة حتى اليوم. ننتهي من حيث ما قاله عبد الله محمد السبب رئيس لجنة التأليف والنشر في اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات حول تجربة الناوري: “هو من الطراز المطرّز بالغموض الإبداعي، فهو أقرب ما يكون بروائي الأحلام الغامضة وأسلاكها، ولأنه ارتضى لقلمه السير في تلك الدروب البوليسية الملامح والصفات، وظيفة وإبداعا كتابيا، لا سيما وان لديه قصة بوليسية أخرى في طريقها للاكتمال، فلا بد للناوري من العودة السريعة إلى ركب الكتابة الجادة والمركزة والحذرة ، فالساحة الثقافية بحاجة إلى قلمه الذي ما زال على قيد المياه المتدفقة من شرايين الإبداع الإماراتي الذي اشتد عوده ونمت شجرته في حقل الإبداع العربي”.