أتساءل كثيراً، كلما رأيت معرضاً للخط العربي، معرضاً لحرف يرسم بطريقة واحدة، لا تتغير أبداً، طريقة يظل فيها المكان أو نستخدم مصطلح التشكيليين الفضاء أو الفراغ مملوءاً بجسد الحرف الذي لم يتغير منذ أن نطق به الإنسان العربي. أتساءل أيضاً، ما دام الأمر كذلك، وما دام الحرف لا يتغير أبداً، كيف إذاً نهض علم خطي على جسده، وصار فناً، ودرساً، ومعرفة، له قوانينه وأسسه وحالاته اللامتناهية في التشكيل، حتى صار يُقال للخطاط أستاذاً ولا يصل الى هذه المرتبة إلا من برع لعشرات السنين، ومن حقه حينذاك أن يُعطى “الإجازة”. وصل الأمر بمن عشقوا الحرف العربي أن قسموا حركاته، فصارت لدى البعض تشابه البناء الكوني: 7 حركات، ووصلت عند البعض إلى تشابه مع البناء الزمني: 3 حركات، ولم تأت هذه الأفكار إلا بسبب تبحر هؤلاء وأولئك ببحور هذا العلم الذي أقيم على المتحول داخل الثابت، متحول في رسمه، ثابت في شكله، متحول في آفاقه وانحناءاته، ثابت في فراغه، متحول في زواياه، وثابت في أركانه. قدسه الكثيرون لأنه جاء من مقدس، فاختص به، بل ابتدأ منه ولأن المبتدأ كان معشوقاً، مقدساً، فإن المتنوع أراد أن يظهر جمالية ذلك المقدس. كان ولا يزال القرآن الكريم منبعه، والشعر العربي غنائيته، والقول النثري العربي حكمته. في البدء كتب به القرآن ولأن التجميل يصبح هنا ضرورة، والإبداع مسلكاً، كان لابد من أن يذهب الخطاطون به الى أبعد المسالك وأرق التشكلات كي يزيدوا جمالية معنى النص القرآني جمالية في الشكل الى حد بعيد وبدون مغالاة، فإن علم الزخرفة امتد منه لضرورة أن يكون بديلاً عن تجسيد وتجسيم الجسد الآدمي. صار خط الحرف العربي وزخرفته جسدين في اللوحة، أحدهما يعطي الآخر عمقاً وكأنهما يتنفسان من بعضهما، وزادهما طلى أنهما تعانقا مع الحلية فصارا ثلاثياً ساحراً. ذلك هو التنوع في الثابت، تلك هي براعة حرف الـ “ع” والـ “واو” ولـ “ضاد” كونها تحتوي كل زوايا الحروفية العربية. ثنائيات الحرف قادني الى هذا الحديث أمر في غاية الأهمية هو ثنائية المتحول والثابت، وتساؤلي عن الثابت في ذاته والمتغير في شكله. أما المناسبة فهي تنظيم هيئة أبوظبي للثقافة والتراث قبل أسبوع معرضاً للفنان السوداني تاج السر حسن، تحت عنوان “جوهر الصور” والذي قدم فيه 30 عملاً حروفياً، خط فيها نصوصاً قرآنية، وأبياتا شعرية، وأحاديث نبوية وحكماً مستخدماً أنواعاً مختلفة من الخط العربي. استخدم تاج السر الاكرليك على الورق، والحبر والذهب على الورق، والحبر الأبيض على ورق مخمل أسود، وفي إحدى اللوحات المينا على الحديد. نفذت اللوحات بمختلف صنوف الخطوط العربية، وهي الديواني والكوفي الحديث بأغلبها والثلث الجلي مع الإجازة والمغربي الحديث وخطوط متنوعة والثلث والنسخ. في لوحة “بسم الله الرحمن الرحيم” 2009 وبحجم 60X50 سم من الخط الديواني في قالب طغراء بالاكرليك على الورق امتدت “الـ” التعريف كالأوتار نازلة من الأعلى في تجاوز أخاذ، 3 حروف، حرفان زرقاوان في وسطهما حرف مخضر ولهيب شفيف منحنٍ حول هذه الحروف وحرفان آتيان من فراغ اللوحة الأيمن ليلم بجسده مجمل الحروف التي تجمعت في قلب اللوحة، آية في الجمال والسحر والبراعة، حتى توزيع اللون الثلاثي بتدرجات الأزرق وتدرجات الأخضر لون الشفق الذي زاد اللوحة جمالاً. وفي لوحة “بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. الرحمن الرحيم....” سورة الفاتحة وبخط ديواني 100X70 سم عام 2011 حاول تاج السر أن ينحت الكتلة رسماً بـ “6” مستويات حيث طغى الازرقاق الواضح الذي يجانس الأرضية مع تعدد مستويات اللون بدخول “الشفق اللوني” أيضاً. يظل تاج السر محافظاً على اللونين، الأزرق والأحمر الفاتح المخلوط بالسواد في لوحة “رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري” من الديواني الحديث بالاكرليك على القماش 80X60 سم ليقدم زورقاً من الحروف المهاجرة بشراع ممتد الى الأعلى هو حرف الألف في “اشرح”. الشكل المربع وينتقل تاج السر الى الشكل المربع ليريح النص القرآني داخله عبر الخط الكوفي الحديث فيخط “رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين”، ويستخدم اللونين اللذين درج على استخدامهما وهما الأزرق بتدرجاته والأخضر الفاتح. وهذا ما نشاهده أيضاً في لوحته “ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب” بالخط الديواني الجلي عام 2011 وبحجم 61X82 سم حيث يتلاعب بالأزرق والأبيض وكأن الضوء يشع من جسد الحرف الذي رسم بالبياض فسح على فضاء اللوحة وأرضيتها. وقبل أن ننتقل الى موضوع آخر في لوحات تاج السر حسن لا بد لنا أن نتتبع هذه الظاهرة حيث نراه يجانس اللونين الأزرق والشفقي أيضاً في لوحة “وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم” بخط الثلث الجلي من الاكرليك على القماش بحجم 70X70 سم، حيث نجد النص القرآني وقد تحول الى ختم مدور ترتفع فيه “الألف” و”اللام” في أعلى الختم حتى تصل في النصف العلوي للختم المدور الى حوالى 8 حركات بينما يجلس الختم الاسطواني المدور على نهايات حروف العين والواو والحاء ما دام الأخير من جنس حرف العين حركة في نهايته. تجانس الألوان في هذه اللوحات تجانست الألوان وهذا ما نشاهده في لوحة الحديث النبوي الشريف “الراحمون يرحمهم الرحمن.. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” بخط الثلث الجلي من الاكرليك على الورق وبحجم 54X57 سم وهي تشابه في تنفيذها اللوني لوحة الآية، “ومن يتق الله يجعل له مخرجاً” التي تحدثنا عنها، إلا أنها هنا نفذت على شكل دائري مقفل بحرف “الألف” الذي احتوى مجمل الآية والرسمة، ومن الداخل يظل تاج السر الحسن يلعب على أمور كثيرة وهي: 1 - الضوء الأبيض المشع من داخل الحروف. 2 - صعود الحاء (يتكرر 3 مرات) في الأعلى. 3 - مناصفة الدائرة بين ألف “السما” و”الرحمن” حيث ينحني الأول في النصف العلوي ويدور الثاني الى النصف السفلي، ونجد مثيلاً للوحته “سورة الفلق” من الثلث الجلي 70X70 سم حيث يظل تاج السر مصراً على استخدام هذين اللونين “الأزرق والأحمر المزرق “الشفقي كما يمكن تسميته”. ما السبب؟ أعتقد أن تاج السر حسن يرى في شكل الحرف تنزيلاً إلهياً يرتبط بفضاء علوي مزرق، مما جعله لا يتخلى في جميع هذه اللوحات التي تحدثنا عنها عن اللون الأزرق من الغامق فيه حتى الأفتح، أما اللون المحمر فهو التعبير عن الملكوت المشتعل وبدء تكون الكون، وما البياض الشفيف المشع من داخل الحرف القرآني إلا نور الله الذي تجلى في حرفه. يحاور تاج السر الوجود الروحاني بشفافية متعددة المصادر ومنها انسيابية الحرف الالهي، في محاولة لإعطائه روحاً وشعرية عالية، واستخداماته اللون بدلالة معنى النص حيث يمنح اللون حروف تاج السر أبعاداً دلالية جديدة تطفوا فوق ما هو واقعي لتحلق في فضاءات أوسع وأرحب، ومما يميز أعماله هذه هو تفردها في حركة الحرف ونسبة تحليقه في أجواء اللوحة اللونية والشكلية، وكأن الفنان يخلق إيقاعه الموسيقي الخاص به. الشعر والحرف يلتقي المتنبي وأبو العلاء المعري ويزيد بن معاوية وأبو الفتح البستي وأحمد شوقي والإمام الشافعي، بل وحتى أمل دنقل في “لا تصالح” معاً، يلتقون عند ريشة تاج السر حسن، فيخط للمتنبي: ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته وما فاته وفضول العيش أشغال وكذلك: صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شأنه ما عنانا وتولوا بغصة كلهم منه وإن سرّ بعضهم أحياناً ويختار ليزيد بن معاوية قصيدته الشهيرة: نالت على يدها ما لم تنله يدي نقشاً على معصم أوهت به جلدي كأنه طرق نمل في أناملها أو روضة رصعتها السحب بالبرد كأنها خشيت من نبل مقلتها فألبست زندها درعاً من الزرد ويبحر تاج السر مع القصيدة “الزينبية” لصاحبها صالح عبدالقدوس والتي ينسبها البعض الى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فدع الصبا فلقد عداك زمانه وازهد فعمرك مرَّ منه الأطيب ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب دع عنك ما قد كان زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب واذكر مناقشة الحساب فإنه لا بد يحصي ما جنيت ويكتب القصيدة الحاشية في المبنى الشكلي للشعر العربي في لوحات تاج السر نراه عمودياً، هابطاً من الأعلى للأسفل في تراص منضبط لقالب طولي حاول ببراعته أن يلعب في داخله، ففي القصيدة “الزينبية” بخط النسخ من الأحبار على الورق 100X44 سم اتبع بناء القصيدة العربي الكلاسيكية من شطر وعجز متقابلين وتراصف تراكمي، ليس فيه جديد من حيث شكل اللوحة بمجملها إلا أنه خلق 3 مستويات عرضية من حروف القصيدة وأبياتها نفسها، وبحجم حرف كبير مستويان خارج القصيدة يميناً وشمالاً ومستوى داخل القصيدة، وهذه الحركة هي الملفتة في فن تاج السر حسن، حيث لا يبقى هذا الفنان النص على حاله جامداً، متراصفاً، بل يشيع فيه الحركة عبر الاستثناء المتغير الذي يلعب فيه على الثابت. في نص الشعر الآخر “صحب الناس قبلنا ذا الزمانا” يعطي تاج السر للخط الكوفي الحديث جمالية وروعة من خلال استخدام الحبر على الورق 100X44سم حين يلعب على الشطر والعجز في البيت الواحد بأن يضع العجز مقلوباً تحت شطره لا مقابله، وهذا هو المتغير في الثابت، كما يمتلئ البياض بينهما “الشعر والعجز” بنفس البيت مقلوباً أيضاً. إن تاج السر يشتغل على ثلاثية الحركة الثابت والمقلوب، والثابت ثانية. أما في قصيدة يزيد بن معاوية: “نالت على يدها ما لم تنله يدي..”، والتي نفذت بالخط الديواني من الأحبار على الورق بحجم 100X44سم فبراعة تاج السر فيها أنه خلق من أبيات القصيدة نفسها حاشية لها، ولم يغادر تاج السر اللونين الأخضر والأصفر بتدرجهما. الطغراء والثريا في المبنى الشكلي يخلق تاج السر أيقونات متعددة، حيث يظل في بعض اللوحات أسيراً لشكل الحرف التقليدي الذي يتمثل في الكمثرى والزهرية والثريا والظلال والمستطيلات والدائرة، والطرة والختم، ولكن لنتساءل: أين نجد براعة هذا الفنان؟ بتصوري أن تاج السر يبرع في قلب اللوحة، فهو لا يهتم أن تكون اللوحة ذات شكل مستطيل، إذ سيخلق داخله عالمه الخاص وحركته الاستثنائية، ولا يهمه أن تكون اللوحة ذات شكل دائري، إذ أنه سيحيط هذه الدائرة بحرف واحد. ولا يهمه أن تكون اللوحة ذات شكل مربع إذ أنه سيجلس هذا المربع على الألف نازلة واللام النازلة أيضاً وكأنهما قدمان. والأخير يمكن رصده في لوحته “الجمال في اللسان والكمال في العقل” 76X64 سم من الحبر على الورق. إنه يخلق إيقاعه داخل قلب اللوحة فيلبس مفردته الخاصة شكلها الخاص، إذ هو صوفي في تطويع جسد الحرف، يعرف في أي لحظة يبهر المتلقي، ولا يعتمد المعنى العميق في الشكل، بل يعطيك أشكالا غاية البساطة والوضوح. في لوحات تاج السر حسن عالم من التصوف والموسيقى والدلالات الأيقونية والتي وإن بدت لعباً على قلب اللوحة إلا أنه لعب له معنى أو لنقل معنى المعنى. محطات وجوائز تاج السر حسن سيد أحمد من مواليد عام 1954، في السودان، وفي سجله الأكاديمي والمهني المحطات التالية: 1977 دبلوم كلية الفنون الجميلة والتطبيقية (امتياز)، الخرطوم، 1983 ماجستير الكلية المركزية للفنون والتصميم، لندن المملكة المتحدة، 1977 ـ 1981 مساعد تدريس بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية ـ الخرطوم، 1989 ـ 2008 مخرج فني وخطاط بوزارة التربية والتعليم ـ دبي، 2009 مصمم مطبوعات بوزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع ـ دبي، 2000 عضو مؤسس، وعضو هيئة تحرير مجلة “حروف عربية” ـ دبي. وحاز تاج السر العديد من الجوائز، على النحو التالي: 1990 جائزة تقديرية (ديواني) المسابقة الدولية الثانية لفن الخط، أستانبول، تركيا، 1993 الجائزة الأولى (ثلث) المسابقة الدولية الثالثة لفن الخط أستانبول تركيا، 1995 الجائزة الأولى (خط) بينالي الشارقة للفنون التشكيلية ـ الشارقة، 1995 الجائزة الأولى (خط) المعرض السنوي لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية ـ الشارقة، 2001 الجائزة الثالثة (ديواني) المسابقة الدولية الخامسة لفن الخط ـ تركيا، 2001 جائزة تقديرية (نسخ) المسابقة الدولية الخامسة لفن الخط ـ تركيا، 2004 جائزة تقديرية (ثلث) المسابقة الدولية السادسة لفن الخط - تركيا، 2004 جائزة أولى مسابقة قرقاش للخط العربي - دبي، 2004 جائزة الحروفية معرض المرئي والمسموع الدورة الثامنة ـ الشارقة، 2007 الجائزة الثالثة (التيار الحديث)، مسابقة (البردة) - أبوظبي، 2008 الجائزة الثانية (التيار الحديث)، مسابقة (البردة) - أبوظبي، 2008 جائزة الحروفية ملتقى الشارقة الدولي الثالث لفن الخط العربي، 2009 الجائزة الثانية (التيار الحديث)، مسابقة (البردة) - أبوظبي، 2010 جائزة الحروفية معرض المرئي والمسموع الدورة الثالثة عشرة - الشارقة، 2011 الجائزة الثانية (التيار الحديث)، مسابقة (البردة) - أبوظبي.