لا جدال في أن الدين لهو بمثابة النواة الصلبة لأيّما ثقافة. أوَلم تكن أساطير اليونان وميزوبّوتاميا ومصر القديمة والهند والصين في مقام معتقدات روحية، ناجزة ومتماسكة، لأمم وشعوب بأتمّها صدرت عنها تمثّلات ومتخيّلات وحساسيات مثلما عكستها طقوس ومسلكيات تعبّدية دالة؟ لنستحضر، في هذا الباب الأدوار التي نهضت بها الديونيزوسية والأورفية في اليونان القديمة.. التّموزية في ميزوبّوتاميا.. الأوزيريسية في مصر القديمة.. البراهمية في الهند القديمة. لوحة متخيلة لبابل القديمة بنعيسى بوحمالة ممّا لا جدال فيه، أيضا، أن ماهية الأنا - الذات وماهية الآخر (أو الأخرية Autrisme) المنفصل عن الذات بوصفه حداًّ مقابلاًّ أو مغايرا نلفي جذورها سيان في صلب التفكير الديني - الذي سينحدر من رحم الاعتناق الميثولوجي وكذا في صميم التفكير الفلسفي، وحسبنا أن نتخذ الفلسفة الوجودية متخذ تمثيل في هذا الشأن وحيث تهيمن على آليتها التصورية والمفاهيمية أطروحة الأنا والآخر وما كان من تداعيات وانعكاسات تعالقهما العضوي، والمفارق في آن معا، على معاني الكينونة والإرادة والحرية والمسؤولية. وبأثر من منزعها الشمولي الضارب فإن المنظومات الدينية تنتصر، منطقياً، لقيمة التعايش أو التوادد الإنساني، أي، عمقياً، لقيم الاختلاف، التسامح، والقبول بالآخر المغاير، لكنها لا تعدم كذلك، بسبب من بنيتها النسقية وحافزيتها الروحية المخصوصة، عناصر ورؤى ودفوعات تصب، بهذا الوجه أو ذاك، في فكرة التمركز الذاتي (Egocentrisme) بما تفيده من تسام بالذات المؤمنة الجمعية وإقصاء للآخر وعدم الإقرار باختلافه. وفي مكنتنا الوقوف على فكرة التمركز الذاتي هذه اهتداء بالترسيمة التي تتوسل بها مجمل العقائد في تمثّلها للفضاء الإنساني، والجغرافي بالتبعية. فاليهودية تدرج أتباعها، كما نعلم، ضمن الامتياز العقدي الذي تنطق به عبارة شعب الله المختار، والمسيحية تفصل بين الإيمان والوثنية ضمنياً لما تفصل بين المعتقد اليسوعي وبين باقي المعتقدات، أمّا الإسلام فيلجأ إلى تشطير العالم تشطيراً حدّياً بموجبه تتقاطب دار الإيمان مع دار الكفر. وهو ما له صلة بتمظهرات تمركزية مشابهة سوف تستحكم في منتسج بعض الحضارات والثقافات الكونية. وفي هذا الباب سوف يعتقد البابليون أن بابل هي بؤرة العالم، والرومان أن روما هي جوهرته، في حين لن يتورع أرسطو، الأب الروحي للعقلانية الغربية، مثلاً، عن اعتبار أثينا مركز العالم بينما باقي أقاليم الأرض وأحيازها موئلاً للهمجية والدّونية، وبتعبير رديف مجرد عماء أو سديم هائل (Chaos). لكن، ورغماً من هذا، فنحن نمتلك قرائن ووقائع، تؤول إلى هذه الديانات والثقافات، تنحو منحى التوكيد على أخلاقية منفتحة إزاء الآخر، المختلف، بل وتخوّل له ليس فقط ممارسة حقوقه المعتقدية وإنما، أيضاً، إمكانية الارتقاء الاجتماعي والفكري وحتى السياسي. حجة هذا أن اليهود، على سبيل التمثيل، كانوا جزءا لا يتجزأ من الدينامية الحضارية والثقافية العربية - الإسلامية وكان معظم مستشاري الخلفاء والسلاطين وخبرائهم إمّا يهوداً أو فرساً أو سُرياناً.. وفي نفس المضمار، دائما، فقد أقيمت الحواضر العربية – الإسلامية الكبرى (بغداد، دمشق، أصفهان، قرطبة، فاس، القيروان..)، هندسياً، كيما تستجيب، فضلا عن الأنشطة العقدية المختلفة (مساجد، كنائس، بيع، معابد الصابئة..)، لتعدّدية التركيبات والطبائع والميول والأمزجة البشرية: دور سكنية، حدائق، حمّامات (بالمناسبة في الوقت الذي كانت تقطن فيه بقرطبة، إبان العصر الوسيط، ساكنة تناهز مليون نسمة وتحفل بحوالي ألف حمّام عمومي كانت باريس محض نقطة ريفية موحشة يقطنها ألفا نسمة)، جامعات، أروقة حكمة، حانات.. وذلك إشباعاً لانتظارات بشرية متباينة بقوة الأشياء. ولنستحضر كيف كان الشاعر الحسن بن هانئ، المشهور بأبي نواس، وعلى شاكلة ما يرويه أبو الفرج الأصفهاني في مصنفه الذائع الصيت «الأغاني»، يرتدي، كل يوم جمعة، أفخر ثيابه المطرّزة بأبيات من خمرياته ويجول رفقة رهط من أصحابه في جادّات حاضرة كبغداد بدون أن يعترضه أو يتأفف من مظهره أيّ كان بأثر من درجة التسامح العالية التي كانت تنماز بها هذه الحاضرة كنموذج فجعلتها تدرج أبا نواس، الشاعر والإنسان، ضمن دائرة المقبولية الثقافية والقيمية، أمّا المفارقة فهي أن تمنع إعادة طبع ديوان الشاعر، وأيضا الصرح الحكائي الباذخ «ألف ليلة وليلة»، قبل سنوات، في القاهرة، إحدى عواصم التنوير العربي الحديث. شدَّة حضارية ومع ما يتنفذ في الحضارات والثقافات من لاوعي تمركزي مستعر أو فاتر الفاعلية، فإن هناك جملة من الإشاريات الدالة، من نقاط الضوء، إن شئنا، التي تلتمع في خضم ظرفية الاحتباس العلائقي التي يحياها العالم راهنا، أو، لنقل، في نطاق الشدّة الحضارية، بتعبير الشاعر الألماني الكبير فريدريش هولدرلين، التي ترين عليه لكون الحضارات والثقافات منذورة، شاءت أو كرهت، للتعايش فيما بينها، للانفتاح على بعضها البعض، وبالتالي للتحاور بين نخبها وشرائحها المجتمعية الواسعة سواء بسواء، وفي هذا المجال قد تسعفنا، لا محالة، بعض الأمثلة الحية والمعبرة ومنها أن الكثير من رؤساء الأرجنتين وتشيلي والإكوادور وبعض دول أميركا الوسطى، وكذلك الشأن بالنسبة لبرلمانيين ورؤساء مجالس بلدية في أميركا اللاتينية، هم من أصول عربية (لبنانية أو سورية أو فلسطينية) رغم أنهم يشكلون أقلية ديمغرافية في أوطانهم الجديدة تلك.. رمزية تلك الفسيفساء الإثنية واللغوية والدينية والثقافية البديعة والخلاقة التي صنعت مجد بلد كالبوسنة - قبل اندلاع الحرب الأهلية العمياء والمريعة - وحيث كانت مواطنتهم الجمعية تتسامى على كافة عوامل اختلافهم وفرقتهم.. رمزية أن يحظى جينولاب الدين عبد الكلام، الشاعر والفيزيائي الهندي المسلم، وهو، بالمناسبة، أبو القنبلة الذرية الهندية، بمنصب رئاسة الهند، على فخرية هذا المنصب، بالرغم من أن تعداد المسلمين الهنود يبلغ حوالي مائة مليون نسمة في بلد تتجاوز أغلبيتة البوذية والهندوكية سقف المليار نسمة. وأيضا رمزية اختراق النائب الديمقراطي الأفرو -أمريكي المسلم، كيث أليسون، للكونجرس الأميركي خلال الاقتراع التشريعي النصفي الأخير كممثل لولاية مينيسوتا وكانت قاعدته الانتخابية يهودية وكذا المنابر و الوسائط الإعلامية التي ساندته. كونيَّة الشعر و لربّما جاز احتساب الشعر الفن الأوفر أهلية، بين جلّ الفنون التعبيرية، لخدمة قيمة نبيلة كالتسامح. فإذا حقّ لنا الحديث، مثلا، عن رواية قارية، أروبية، أمريكية لاتينية، آسيوية..، أو أخرى قومية، عربية، زنجية، سلافية..، أو ثالثة وطنية، ألمانية، فرنسية، إسبانية..، فإن الشعر لهو الفن الكوني، كما قال الفيلسوف هيغل، بامتياز لأنه من أعرق الفنون وأكثرها اندغاماً في الجوهر الإنساني وتذكيراً بأوّليات الكينونة الإنسانية ومشتركاتها الأصيلة. والظاهر أننا لا نحتاج كبير النظر وواسعه في المنجز الشعري الإنساني الشامل، قديمه وحديثه، حتى نوقن في صدقية هذه الخاصية الملازمة للشعر والفاعلة، كنتيجة، في اللغة الشعرية، الأبنية والتوليفات، المجازات والترميزات، والرؤيات والتمثّلات. ويكفي أن نلمح، في مرمى الاستدلال، إلى كبريات التجارب الشعرية الإنسانية الحديثة لنعاين مدى تعلقها بالإنسان، مطلق الإنسان، في ماهيته البدئية قبل أن تلوث روحه إملاءات العرق والجغرافيا والتاريخ والمصالح المادية والمعنوية الزائلة، أن نشير إلى الشاعر الهندي طاغور، الشاعر الباكستاني محمد إقبال، الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه، والشاعر الإسباني خوصي آنخيل بالنطي.. لنتأكد من درجة الواحدية والتجوهر والصفاء التي يتملكها الإنسان في نصوصهم متصالحا. بهذه الكيفية، مع ماهيته تلك، وقبل هؤلاء إلى الشاعر والصوفي الذائع الصيت محيي الدين ابن عربي الذي لم يحجم، تلقاء انفتاحه الإنساني اللامشروط، عن بسط قلبه فضاء تتجاور في شغافه الروحية اللامرئية أو بالأحرى، تتعايش فيه الديانات السماوية الثلاث بل وجماع الوجدانات العقدية. أدونيس وسينغور ولوركا وحتى يتبيّن لنا مدى مجافاة الشعر لكافة عوامل الاختلاف والفرقة ومنابذته لإملاءات العرق والجغرافيا والتاريخ والمصالح المادية والمعنوية الزائلة وولاءه لما هو مستديم، كوني، و موحّد دعونا نستأنس بثلاث وجهات نظر من آفاق شعرية متباينة: أولا: بوجهة نظر الشاعر العربي المعاصر أدونيس الذي لم يمنعه انحيازه إلى المرجعية الشعرية الأروبية، الفرنسية تحديدا، الثقافية ضمنيا، عوض المرجعية الأميركية التي نهل منها قرينه الشاعر العراقي بدر شاكر السياب من تسجيل أن أوروبا، موطن العقلانية والديمقراطية والحداثة وشتى صنوف التقنيات والمبتكرات العجيبة لم تقو، كما الشرق، على إبداع ولا عقيدة روحية واحدة، و إذ يسجل هذا الملحظ فهو يرمي إلى ملحاحية التكامل بين الحضارات و الثقافات و ترميم كل منها لثقوب و بياضات الأخريات. ففي كتابه «الثابت و المتحول» سيتعاطى مع مسألة الهوية بوصفها أمرا لا يشاد ويصنع دفعة واحدة بقدر ما هي تنشأ ضمن سيرورة قوامها التفاعل مع الآخر و استدماج حضارته وثقافته، ذلك أنها بنية متحولة، ديناميكية وليست ساكنة أو خاملة، و يعطي أمثلة من السير الفكرية لأعلام من عيار ابن سينا والفارابي وابن رشد الذين انفتحوا معرفياً على الآخر الإغريقي، أمّا في ديوانه «أغاني مهيار الدمشقي»، الذي هو أحد أهم أعماله الشعرية، فسيختار، عمداً، كقناع للأنا الشعرية الموظفة في رحاب الديوان، شخصية الشاعر الفارسي مهيار الديلمي، لا شاعراً من أرومة عربية قحّ، ويغدق عليها ذات المواصفات والسجايا الكونية المتعالية، على غرار «زرادشت» فريدريش نيتشه و»مالدورور» الشاعر الفرنسي إيزودور دوكاس لوتريامون.. محمّلا إياها رسالة تهديم الأوهام والضلالات وتفنيد كل أشكال الخنوع التاريخي والثقافي واجتراح أفق إنساني بديل جدير بسموّ الإنسان ومرتبته في الوجود. ثانياً: بوجهة نظر الشاعر السينغالي ليوبولد سيدار سنغور الذي رغم اعتباره الزنوجة مجموع القيم التي تميز العالم الأسود، وهي القيم التي سعى إلى شعرنتها والاحتفاء بها في دواوينه الشهيرة كـ «أغاني الظل»، «إثيوبيات»، القرابين السوداء، و»أشعار»..؛ وبغض الطرف كذلك عن جسامة الإهانة، العرقية والثقافية، التي سوف يستشعرها، في أثناء مقامه الطلابي بفرنسا ثلاثينات القرن العشرين، وهو بإحدى مقاهي مونمارتر بباريس بمعية رفيق دربه الشاعر المارتينيكي إيمي سيزير، فإنه سيدافع، في فترة لاحقة من مساره الفكري والإبداعي، عمّا أسماه بذكورية الثقافة الزنجية وفحولتها، لأنها أقرب إلى الطبيعة و الفطرة، وأنثوية الثقافة البيضاء، جرّاء اصطناعها وترهّلها أو عيائها، الشيء الذي يجعل ممكنا تركيب معادلة حضارية - ثقافية كونية تجمع بين العالمين، الأسود والأبيض، ويغتني معها الإنسان، ماديا وروحيا، وينال استحقاقه الوجودي المحتم. وفي هذا الإطار يجب ألا تغيب عنا دلالة تكفّل الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر بكتابة مقدمة «أنطولوجيا الشعر الزنجي والملغاشي الجديد» (1948) التي جمعها سنغور، إذ تعدّ، أي المقدمة التي تحمل عنوان «أورفيوس الأسود»، تأسيسية وعميقة بكل المقاييس، عالج فيها سارتر، انطلاقاً من منزعه الإنساني المفتوح وقناعاته اليسارية التآزرية، إشكالية العلاقة المتراكبة والحساسة بين الغرب والعالم الأسود. وثالثاً وأخيراً بوجهة نظر الشاعر الإسباني فديريكو غارسيا لوركا الذي تفيض دواوينه الشعرية، مثل «الأغاني الغجرية»، «أغنية السائر في نومه»، «شاعر في نيويورك»..؛ وكذا مسرحياته، بعاطفة إنسانية متراحبة وإيمان وثيق بعالم يصنعه الاختلاف والتكامل وبالتالي، التسامح. أو لم يعتبر غرناطة بمثابة عاصمة كوزموبوليتية خليقة بالاستعادة والاقتداء حيث آوت مسلمين ويهوداً وكاثوليكيين وغجراً وزنوجاً..؟ أوَلم تكن مصهرة للأعراق والألسن والوجدانات والمتخيّلات وساعة سقطت سقطتها التاريخية المأساوية تدحرجت معها إسبانيا إلى الحضيض، إلى التحجر، بله إلى الخواء؟ وإمعانا منه في محبة الإنسان ومناصرته سيعتبر، خلال زيارته لنيويورك، لحيّ هارلم الزنجي، السود ملح أميركا واستعارتها الحيّة، لأن بياض السحنة لا محيد له عن تلمّس معناه في مرآة السواد والعكس صحيح. من هذا الضوء فإن قدر أيّ شعر حقيقي وأصيل هو أن يخوض في معترك التمركز والانغلاق والتشتت، مغالباً شراساته وتداعياته المدمرة، ويجهد، توسلاً بطرائقه وأداءاته الجمالية المخصوصة، في سبيل تملّك بابل، رمزيا، من جديد.. أو، بالأصح، تملّك ذلك الرّقيم الطيني الخرافي الذي أثّثته، ذات برهة في تاريخ البشرية المديد والشائك، ألسن ولغات وثقافات عديدة مظهراً لكنها واحدة مخبراً