أعجبني فعلاً ذلك الإنجاز الذي حققه زملائي في دار الكتب الوطنية ـ هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، حين استطاعوا وعبر مساع وعلاقات كثيفة مع مؤسسات عالمية، من الشرق، كما من الغرب، على تحقيق ما صاروا يصطلحون على تسميته بـ “مشروع مكتبة أبوظبي المستقبلية” و”مكتبة المستقبل” هذه، والتي قدّم الزملاء نماذج لها في معرض أبوظبي للكتاب في دورته الأخيرة تتسم ـ كما يقولون ـ “بالتنوع والإثارة فتكون مكاناً للتعليم والترفيه باستخدامها الأمثل لأحدث وسائل التكنولوجيا والتطبيقات في عالم الخدمة المكتبية”. والذي استطعت استيعابه، أن هذه المكتبة ستكون في إحدى مظاهرها “عبارة عن أجهزة منتشرة في مراكز التسوق والمراكز التعليمية” وتسمى هذه الأجهزة باصطلاح الزملاء بـ “منطقة الخدمة الذاتية”، فمرتاد المكتبة على الدوام بحاجة إلى استعادة هذا الكتاب أو ذاك، أو هذا هو المفترض، أو تماماً كما يذهب المرء إلى شركة التلفونات أو الكهرباء كي “يستعير” خط حرارة. الاستعارة الالكترونية “منطقة الخدمة الذاتية”، ستجعل هذا المستعير يجدد بطاقته دونما حاجة للعودة إلى مبنى المكتبة، يجددها تلقائياً، يعرف ما له وما عليه من خلال هذه المنطقة، ومن ثم ينطلق إلى منطقة أخرى يسمونها: “الاستعارة الالكترونية”، والتي تقوم على “تقنية تحديد هوية عبر الترددات الصوتية”. في هذه “المنطقة” يستطيع من يهوى ارتياد المكتبات، أو من يمكن أن يقع في مثل هذا الغرام، استعادة وإعادة الكتب والمواد المتوفرة الأخرى الأقراص المضغوطة والمواد السمعية والبصرية والمجلات. كما يمكنه “القيام بعمليات كالبحث في فهارس المكتبة وعمليات أخرى دون الاستعانة بموظف المكتبة مما يوفر الكثير من الوقت”. كما ويمكن للزملاء عبر نشر مثل هذه الأجهزة في فضاء المدينة توزيع سلاسل معينة من الكتب، منها مثلاً الإصدارات المميزة التي تتوالى سواء من قسم النشر في “دار الكتب الوطنية”، أو من “كلمة”، هذا المشروع الذي قدَّم لنا خلال الشهور القليلة الفائتة دزينة من العناوين الخلاّقة والتي لا ينقصها إلا التوزيع. محب للكتاب، ومن يهوى الركون إلى هدأة أو نفير قراءته يستطيع إذن ومن هنا، استعارته أو حتى اقتنائه (لدى الزملاء كما ظهر لي أحلام تقنيات وأجهزة أخرى قد توفر مثل هذا الاقتناء مستقبلاً، وبسهولة) وهو ماشي في مركز تسوق، أو منتظر تفرغ طبيب لمعالجة مرضه، أو معذب في الجلوس “الالكتروني” في مواجهة أحد الموظفين المتكلسين، أو حتى خارج من كل هذه الوحشة التي تفتعلها البنايات المرصوصة، وذاهب كي يرى الأمواج هناك على ما تبقى من ساحل الهجر، فلربما تجمعه الأمواج المتفرقة، ويهدأ حين يرى اضطراب البحر، ويطير في فراغ السماء. لكن أهم ما أعجبني في سعي وإنجاز الزملاء هذا هو تحويل المكتبة والتعاطي مع الكُتاب إلى مفردة عادية من مفردات الحياة اليومية. إذ لِمَ دائماً المكتبة عندنا بناء فخم تصعد له بالسلالم تحلب منك الأنفاس. لِمَ لا تكون المكتبة في كل مكان. في البقالة والمقهى والمشفى وسوق السمك، وفي ذلك المطعم المطل على البحر. روغال الألماني وفي قرية صغيرة تُدعى زود بروكرلاند، وتقع في منطقة فريزيا الشرقية بأقصى شمال غربي ألمانيا يعيش مصور نشيط اسمه يورغ روغال. هذا المصور قام بعمل تحويلي، أو تحولي هام. فلقد غيَّر كابينة هاتف قديمة أمام منزله إلى مكتبة مجانية، لفتت انتباه المارة، إذ “يتميز شكل المكتبة الصغيرة بخطوط صفراء وحمراء مع سقف أخضر يشبه قبعة خضراء كروية الشكل، بحيث تبدو وكأنها منارة غريبة”. هذه “المنارة” صارت بعد ذلك تجذب كثرة من الفضوليين، كما اجتذبت جناة مجهولين أقدموا على تخريبها، ولعدة مرات، في مارس من هذا العام. وما يعتبره روغال (47 سنة) “مشروعه الثقافي” راود باله حين كان يتساءل و”لايفهم كيف يمكن للمرء أن يتخلص من الكتب”، كتب قرأها، أو لم تعد تعنيه، كيف يمكن أن يتخلص منها؟ ورغم اشتهاء سكان قرية روغال “بقلة اهتمامهم بالثقافة مقارنة بمواطنيهم في أنحاء أخرى من ألمانيا”، إلا أنه تفاجأ حين تم “سحب 150 إلى مئتي كتاب شهرياً”، على سبيل الاستعارة على ما يبدو. أكثر من ذلك، فإنه صار لروغال مقلدون، “إذ فتح صاحب مخبز في مدينة أوريتش القريبة، خزانة كتب مجانية في منطقة مخصصة للمشاة، وفي بلدة فرايدبرغ حوّل متقاعد غرفته الشمسية المطلة على حديقته إلى مكتبة مجانية”. كل هذا جعل روغال يمتلئ بالثقة. إذ هذا يدل “على وجود رغبة كبيرة بالقراءة في الريف”. ورغم أن مكتبته، أو كابينة الهاتف سابقاً، “غنية بالتنوع والتباين، فتتراوح موجوداتها ما بين الروايات المعاصرة والقصص البوليسية إلى الأدب الكلاسيكي”، هذا بجانب تبادل الألعاب والاسطوانات المدمجة وشرائط الفيديو”، إلا أن أكثر ما يهتم به روغال، كتب الأطفال “لأنهم أكثر المترددين على المكتبة بينما البالغون أكثر التزاماً وتحفظاً”، ومن هنا، ولتوسيع مشروعه الثقافي، يأمل “في تحقيق فكرة قد تشجع الاهتمام بالكتب تتمثل في أكشاك للكتب أمام المدارس ودور رعاية الأطفال”. تقليد روغال أما أنا وبعد أن قرأت هذا الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية، فكرت بأن أقترح على زملائي في دار الكتب الوطنية دعوة روغال ومقلديه، كذلك الخباز أو ذلك المتقاعد إلى معرض أبوظبي للكتاب القادم، وإضافة إلى ذلك فكّرت أن أقترح أيضاً، وإلى جانب نشرهم إلى تلك الأكشاك والكابينات الآلية، والتي ستوفر الكتاب للعامة والمارة والمحتاجين والذين تضيق بأرواحهم الفراغ، والذين طلقتهم متع الدنيا، والذين يودون العودة، ولو قليلاً لذواتهم. إلى جانب ذلك أود أن يعملوا على استخراج من هو شبيه بروغال، من بينهم، أو من بيننا جميعاً، وأن يحوِّل “روغالنا” هذا أي شيء في غياثي أو المدام أو شعم أو الختم أو البدية. يحوِّل أي شيء: مجموعة جذوع أشجار، سيارة هالكة، سفينة سكنها الرّمل، جبل مثقوب، خيمة مهجورة، أن يحوِّل أي شيء إلى مكتبة مجانية. يأتي الصياد كي يستظل بها. يأتي ومعه طفله الذي يرى سمكة لأول مرة تسبحُ خارج البحر. تسبح في صفحات كتاب، وكذلك يأتي الموظف المتقاعد ومعه حفيده المتوحد.. وكذلك تأتي أم الأربع والأربعين رغبة.