أحمد محمد (القاهرة) - انزعج الجميع من الصرخات التي كانت تنم عن أمر جلل وكارثة كبرى فخرج الرجال والأطفال والشيب والشباب، أما النسوة فقد شاركن بالصراخ من قبل أن يعرفن المشكلة وهرع الجميع نحو مصدر الصرخات وبعضهم تعثر وكاد يقع على الأرض من السرعة وراحوا يتساءلون عمّا حدث وجاءهم الجواب بسرعة بأنه تم العثور على جثة الشاب «علي» الذي لم يبلغ العشرين من عمره والفاجعة أنه الابن الوحيد لأبيه بعد خمس بنات، لذا كاد الأب أن يفقد عقله ولم يتحمل المصيبة وطاش تفكيره وتوّعد بالانتقام ممن فعلها. الجريمة وقعت في الصباح الباكر عندما كان القتيل في حقل والده بالقرية ووجدوه مذبوحاً وغارقاً في دمائه، لكن المشكلة الأكبر أنه لا يوجد شاهد واحد ولا دليل على من ارتكبها وهذا ما جعل الجميع يتكهنون ويتوقعون ويسترجعون خلافات الشاب مع أي شخص وحتى خلافات أبيه مع الآخرين، لكنهم لم يصلوا إلى شيء، وكذلك لم تأت تحريات وأدلة الشرطة بجديد لأنها في الأساس تعتمد على الشهود وأهل القرية وهؤلاء لم يكن لهم وجود وليس لديهم أي معلومات وتوترت الأجواء وتناثرت الاتهامات جزافاً ولم يتوقف النمامون عن نشاطهم الذي كثفوه فتسببوا في اللغط وكثرة المواقف المختلقة والأحداث والوقائع التي لا أصل لها. تم تكفين الجثة وتجهيزها وإعدادها للدفن في موقف مهيب إلا أن الكثيرين تباروا بأفكارهم الغريبة في هذه الأجواء المتوترة التي لا تحتاج إلى أي كلام وقدموا بدعتهم التي تثير الفتن وتشعلها ناراً وقالوا إنه لابد أن يتم الطواف بالميت بجميع شوارع القرية والبيت الذي تتوقف عنده الجثة يكون صاحبه هو القاتل والأغرب أن الفكرة المدمرة لقيت قبولاً واستحساناً عند الكثيرين الذين يعتقدون أن هذا صحيح وكما سمعوا من آبائهم وأجدادهم أن الميت يتوقف أمام بيوت الأشخاص الذين كان يحبهم في الدنيا أما القتيل الذي يكون قاتله مجهولاً، فإنه يتوقف أمام منزله. لم يستطع العقلاء أن يثنوا هؤلاء عن هذه الخطوة التي تفسد ولا تصلح ومن المؤكد أنها ستتسبب في العداوة والبغضاء وتؤلب أبناء القرية وتكدر الصفو وتقود إلى نتائج لا تحمد عقباها وبدأ حاملو الجنازة السير بها في شوارع القرية لا أحد يمكنه أن يتحكم في السرعة بسبب الجموع الغفيرة المشاركة إذ لم يتخلف إلا غائب بعذر لأن المصاب جلل والقتيل في مقتبل العمر والجميع آسفون عليه فحينا يسرعون الخطى وأحياناً يبطئون وقد يتوقفون تماماً أما لضيق الممرات أو الزحام الشديد والأعداد الكبيرة. وفي هذه الأجواء وبلا ترتيب وللأسباب والظروف السابقة كلها توقفت الجنازة أمام بيت «جلال» للحظات فبدأ الهمس بأنه القاتل أو أحد أبنائه وما أن راح هذا الكلام يستشري بينهم حتى تغيّر الموقف وتداولوه علنا وارتفعت به الأصوات وحدث هرج ومرج وكادوا يتحولون عن المهمة العاجلة بالدفن إلى الفتك بالرجل الذي اتهموه من عندياتهم بلا دليل وتدافعوا أكثر لكي يتبادلوا الحديث والتنفيذ وليس المشورة كل واحد يرى أنه على الصواب إلا أن الكبار استطاعوا أن يفرضوا كلمتهم بصعوبة، خاصة أن ما يتم لا يجوز وأن إكرام الميت دفنه وليدعوا فرصة للتفكير وتدبر الأمر بعد هذه الخطوة العاجلة. نذر «الحرب» أطلت برأسها عندما رفض والد القتيل بناء قبره قبل أن يأخذ بثأره، وهذا من العرف عندهم وتصرفه ذاك يعني أنه لن يجنح إلى العفو أو السكوت عن دم ابنه الذي اغتيل غدراً، أما الخطوة الثانية فإنها استمرار لموقفه، فقد أعلن أنه لن يتقبّل العزاء فيه أيضاً لنفس الأسباب وذات الرؤية الاجتماعية المتوارثة بينهم وساد الترقب لمعرفة ما سيسفر عنه قراره وان كان أقاربه وأبناء أخوته وشباب العائلة يعبرون عن اندفاعهم وتعجلهم في طلب الثأر والانتقام وبعدما وصلت الأمور إلى نقطة الخراب وكادت تنفجر تدخل كبار العائلات وعلية القوم من المحيطين بهم في محاولة لعدم أخذ الرجل بلا دليل وكي يتم حقن الدماء، لكن بعضهم اقترح اللجوء إلى «البشعةِ» لحسم الخلاف ووضع النقاط على الحروف. و»البشعة» وسيلة بدائية قديمة تنتشر في بعض المناطق البدوية والصحراوية وهي أن يقوم شخص يطلق عليه «المبشع» بوضع قطعة من المعدن في النار لفترة طويلة حتى تتوهج ثم يطلب من الشخص الذي تحوم حوله الشبهة بإخراج لسانه، فيضع عليه قطعة المعدن الملتهبة، فإن كان بريئاً لا يحدث له شيء ولا يصاب بضرر أو أذى، أما إن كان مذنباً وارتكب الجرم، فإن لسانه يحترق ثم يتم الحكم عليه بعد ذلك بما يناسب فعلته ويرى البعض أن هذه الوسيلة وما يقال عنها صحيح، بينما يرى الآخرون من العارفين بالسر أن ما يتم يكون في الظلام غالباً وأن «المبشع» تكون لديه قطعتان من المعدن وأنه يحضر الشخص المقصود أمامه وهو يقوم بوضع إحداهما في الجمر ليحاول التأثير عليه نفسياً ويجعله يشعر بالخوف من هذا المشهد المرعب، فإن كان مذنباً يتراجع عن الإنكار ويعترف أما إذا استمر في إنكاره واستمر على موقفه، فإن «المبشع» يصطحبه في الظلام ويأمره بأن «يلحس» بلسانه قطعة المعدن التي هي في الحقيقة باردة وان كان بريئاً، فإنه يقدم عليها باطمئنان ويفعل ما طلب منه فيترك ذلك على لسانه لونا أسود يضعه «المبشع» لهذا الغرض أما إذا كان مرتكباً للاتهام فإنه لا يضع لسانه أصلاً خشية أن يكتشف أمره فيخرج لسانه نظيفاً ومن هنا يمكن الحكم عليه ويعترف وإن كان الطرف الثالث يرى أنها نوع من الخرافة والشعوذة. ووافق الجميع على هذه الطريقة التي يعتبرونها معملاً للأدلة الجنائية حسب رؤيتهم واعتقادهم وموروثهم وبعد أسبوعين اجتمع الناس ليشهدوا اللحظات الحرجة الحاسمة وهم يأملون أن تضع نهاية للشكوك وأياً كانت الطريقة التي أجريت بها «البشعة» وبغض النظر عن جدواها فإنها أثبتت براءة «جلال» وأبنائه الثلاثة من قتل الشاب وسادت فرحة بينهم وقد أثبتوا من قبل أنهم كانوا في منزلهم أثناء وقوع الحادث، وثانياً أنه لا يوجد بينهم وبينه ما يدعو لارتكاب الجريمة وهدأت الأوضاع بشكل حذر، لكنها لم تستقر والجميع يترقبون ما ستسفر عن التوابع. لم يرتض والد القتيل بنتيجة «البشعة» رغم أنه في البداية رحب بها ووافق عليها بمحض إرادته ولم يهدأ له بال وهو لا يعرف قاتل ابنه من يكون ربما ممن حوله أو يجلس معه أو ممن يواسونه ويتظاهرون بالأحزان وقد يبالغون فيها واحتار الرجل ولعبت الظنون برأسه وعجز عن الحسم وما زال الوشاة عند طبائعهم يدسون السم في أذنه بما يزيده ألما على فراق فلذة كبده بهذه الطريقة المؤلمة ويشتتون أفكاره وهدفهم في النهاية هو الاقتتال وإشعال النيران حتى جعلوه يعود إلى اتهام «جلال» وأولاده بقتل ابنه ويهدد صراحة بالانتقام له. مرة أخرى يتدخل المصلحون وحاولوا إيجاد حل مرض وبعد كثير عناء اتفقوا على إعادة تطبيق «البشعة»، ولكن عند خبير آخر ووافق جلال وأبناؤه الثلاثة من أجل حقن الدماء وتقديم دليل قاطع على براءتهم وتم تحديد الموعد اشترى والد القتيل كمية من الأطعمة والمشروبات ليتناولوها في طريق سفرهم إلى الخبير المحايد الذي لا يعرفهم ولا يعرف قضيتهم أو خلافهم ليكون حكمه عادلاً استقلوا سيارة واحدة ومعهم ابنا عم جلال وما أن قطعوا من المسافة حوالي ثلاثين كيلو متراً حتى شعر هذا الأخير بألم في بطنه وطلب من السائق التوقف لينزل من السيارة ويستريح قليلاً، ففعل لكن ما أن خرج منها حتى فوجئ الجميع بوابل من الرصاص نحو جلال وأبنائه الثلاثة وابني عمه ولقي الستة مصرعهم وفارقوا الحياة في الحال وأصيب السائق الذي لا ناقة له ولا جمل في الأحداث بإصابات خطيرة أغرقت الدماء السيارة وتدلت الجثث من جوانبها من أبوابها ونوافذها. ما كان ذلك إلا فخاً نصبه والد القتيل الذي اتفق مع أقاربه على الاختباء في هذا المكان وانتظارهم وقتلهم وقد فعلوا واستقلوا سيارة أخرى وعادوا بها إلى القرية دخلوها مثل الفاتحين المنتصرين أطلقوا آلاف الأعيرة النارية في الهواء احتفالاً بالانتقام والثأر لابنهم وأعلنوا فور وصولهم عن الجريمة الشنعاء التي اقترفتها أيديهم وتباهوا بها وتفاخروا بعد الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها ست أرواح بريئة، وكانت النتيجة الظالمة ستة رؤوس برأس وإذا بأقاربهم يتوعدون بالثأر لهم وأنهم سيقتلون كل من تقع عليه عيونهم ليتواصل المسلسل الدامي، خاصة بعدما تأكد أن المجني عليهم أبرياء تماماً من التهمة وتبين بعد شهر واحد أن القاتل هو أحد أصدقائه المقربين بسبب تنافسهما على خطبة فتاة. لم يعد هُناك وقت للندم فقد وقعت الكارثة وقضي الأمر وكل عائلة تبحث عن الثأر لقتلاها، خاصة أن الفاعلين أصبحوا معروفين.