كتاب روبرت جرين «33 استراتيجية للحرب» من الكتب التي تخاطب الذات الإنسانية، وتحفزها على مجابهة الحياة بهمة عالية، اعتماد على أن الكفاح الحياتي هو من المسلمات الكونية التي لا فكاك منها، وهو ما يستلزم بالضرورة التعامل مع العالم المحيط بواقعية وفاعلية. وذلك من خلال مجموعة من الاستراتيجيات التي يحددها المؤلف تباعا عبر صفحات مؤلفه، حيث يحدثنا أولاً عن استراتيجيات الحرب على الذات، ثم الحرب المنظمة أي مع فريق العمل، والحرب الدفاعية وكذلك الهجومية وأخيراً عن الحرب غير التقليدية. علاقات مدمرة يتحدث جرين في البداية عن استراتيجيات الحرب على الذات، مستهلاً ذلك باستراتيجية التضاد، فيقول «إن الحياة معركة وكفاح وستجد نفسك باستمرار في مواجهة أوضاع سيئة، وعلاقات مدمرة، وارتباطات خطرة، والكيفية التي تواجه بها هذه الصعوبات هي التي تحدد مصيرك». يرى الكاتب أن الحياة معركة وصراع أبديان ولا يمكن للمرء القتال بفاعلية ما لم تحدد أعداءك؛ لأن البشر يميلون إلى المراوغة والتملص فيضمرون نواياهم الحقيقية ويزعمون أنهم يقفون في صفك. ولكن هذا ليس بالضرورة سلبياً، كما يقول الكاتب؛ لأن هذا هو واقع الحياة فكما يقوم القطبان المتضادان في المغناطيس بخلق الحركة، فإن أعداءك المضادين لك يمكن أن يشحنوك بالهدف والاتجاه، بوصفهم أشخاصاً يعترضون طريقك ويمثلون ما تكرهه وينبغي التحرك ضدهم فإنهم مصدر للطاقة بالنسبة إليك. ثم يعمد إلى الحديث عن استراتيجته الموازنة، بمعنى الحفاظ على التوازن الذهني في أقصى حالات الاضطراب، فيقول: «عليك أن تقاوم بفعالية الثقل العاطفي للحظة، وأن تبقى واثقاً من نفسك حاسماً وهجومياً أياً كان عدوك، فالحضور الذهني يحرر المرء من تأثير الظروف المحيطة ويبقيه على المسار الصحيح»، ضارباً المثل باللورد هورا ثيونلسون قائد الأسطول الإنجليزي في بدايات القرن التاسع عشر وبأن صلابة رأيه وقدرته على التماسك والتوازن والثبات النفسي في أحلك اللحظات، أدت لانتصارات عظيمة في تاريخ الإمبراطورية البريطانية، ورغم بنيانه الجسدي الضعيف، فقد عوض عن هذا الضعف بتصميم هائل وأجبر نفسه على أن يكون ثابت العزم أكثر من أي واحد من المحيطين به. أرض الموت ينتقل بنا الكاتب إلى استراتيجية أرض الموت، موضحاً أنه على المرء أن يخلق الإحساس بالإلحاح واليأس. فيقول: «إن الإنسان أسوأ عدو لنفسه؛ لأنه يضيع وقتاً ثميناً حالما بالمستقبل بدلاً من الانشغال بالواقع ومواجهته». ويضيف: الطريقة الوحيدة لتغير ذلك يتأتى عبر الحركة والضغط الخارجي وعلى المرء أن يضع نفسه في أوضاع، بحيث تكون خسارته كبيرة إذا ما أضاع الوقت والموارد، ويجب عليه الدخول إلى مناطق مجهولة يعتمد فيها على ذكاؤه وطاقته كي يجد ممزحاً أي عليه وضع نفسه في «أرض الموت»، حيث يضع ظهره إلى الجدار ويقاتل بكل شراسة كي يخرج من هناك حياً، متمثلاً في ذلك بالمستكشف هرنان كورتيز الذي رشى الربابنة الذين يعملون معه كي يحدثوا ثقوباً في كل السفن المصاحبة له عند الساحل الشرقي للمكسيك كي يمنع المتخاذلين والمتردين من أفراد القوة المصاحبة له «500 فرد» من التفكير في العودة إلى بلدهم الأصلية في كوبا، ويتقاعسوا عن غزو المكسيك وعدد سكانها آنذاك يربو على النصف مليون، وبعد ذلك اعترف كورتيز لرجاله بأنه مسؤول عن الكارثة وأمر بإغراق السفن؛ لأنه لم يكن هناك من نقطة عودة. فلم يكن أمامهم سوى الحرب بشراسة مطلقة؛ لأن الهزيمة كانت ستؤدي إلى الموت المريع، وكان الوضع ميئوساً منه، وبالفعل لم يكن أمام رجاله مجال للتذمر أو الرفض، وتفهموا الخطر المحدق به فقاتلوا بشراسة وبعد سنتين من تدمير سفنهم والحصار الذي فرضوه على حكام المكسيك آنذاك، تم له النصر وحققوا ما أرادوا». يدلف الكاتب إلى استراتيجيات الحرب مع فريق العمل وأولها: استراتيجية القيادة والسيطرة، لافتاً إلى «إنه عليك أن تخلق سلسلة قيادة لا يشعر الناس فيها أنهم مقيدون بسلطتك، لكنهم يتبعون قيادتك لهم، وأن تخلق إحساساً بالمشاركة وأن تجعل نفسك تبدو مثال الإنصاف، لكن لا تتخل أبداً عن وحدة القيادة؛ لأن نجاح أي حرب مرهون بالقيادة الناجحة والموحدة». فن الخداع يعرض جرين استراتيجيات الحرب الدفاعية، موضحاً أن القتال بطريقة دفاعية ليس علامة على الضعف، بل هو ذروة التفكير الاستراتيجي الحكيم خصوصاً في ظل عالم يمقت العدوانية المفضوحة، وعن طريق تعلم فن الخداع يمكن تحويل الضعف والقوة المحدودة إلى قوة وانتصار، وهو ما يوضحه من خلال عدد من استراتيجيات الدفاع، ومنها استراتيجية الاقتصاد التام، حيث يشير إلى «أننا جميعاً نمتلك قدرات محدودة، ولا ينبغي تجاوز هذه القدرات حتى لو تم إغواؤنا بجائزة مهمة، وإذا لم يكن ممكناً تفادي المعركة فاجعله يقاتل وفقاً لمعاييرك أنت. واستهداف نقاط الضعف لديه، وأن تجعل الحرب مكلفة له ورخيصة لك، حين تقاتل باقتصاد تام يمكنك أن تستمر لفترة أطول حتى من أقوى الأعداء، واسترشد الكاتب بواقعة تاريخية إبان عهد الملكة إليزابيث الثانية (1533-1603) حينما أراد فيليب ملك إسبانيا بناء أسطول ضخم لاجتياح إنجلترا ونشر الكاثوليكية هناك وكانت قدرات إنجلترا في الوقت ذاته أضعف من أن تقف في مواجهة الملك فيليب وارتأت إليزابيث أنه إذا كانت حرب إسبانيا حتمية، فينبغي أن تتم وفقاً لشروطها هي، أي حرب تدمر إسبانيا مادياً وتبقى إنجلترا في أمان». فعلت إليزابيث كل ما في وسعها كي تحافظ على السلام مع إسبانيا رافضة استفزاز فيليب، وعمدت إلى كسب الوقت لإيجاد التمويل الكافي لإنشاء قوات بحرية بريطانية، وفي هذه الأثناء عملت سراً على إلحاق الضرر بالاقتصاد الإسباني، وبالفعل أوكلت إليزابيث، كما يقول الكاتب إلى»السير فرانسيس درايك»، أعظم قباطنها مهمة الانقضاض على السفن الإسبانية المحملة بالثروات وكأنه قرصان ولا تربطه أي صلة بالملكة، ومع كل سفينة يتمكن من الإمساك بها فإن معدل الفائدة على قروض فيليب يرتفع حتى صار المصرفيون الإسبان يزيدون الفائدة تدريجياً بسبب التهديد الذي يمثله درايك. شيئاً فشيئاً بدأت صدقية فيليب المالية تتأثر حتى أن بناء أسطوله تأخر كثيراً عما خطط له، وبالتالي تأجلت خطته لغزو إنجلترا من 1582 إلى 1588، وبالفعل تم تجهيز 128 سفينة منهم 10 سفن حربية ضخمة، وتحرك الأسطول الإسباني «الأرمادا» إلى ميناء كالي شمالي فرنسا انتظاراً لمجيء باقي القوات الإسبانية، وفي هذه الأثناء قام جواسيس إليزابيث بإخبارها عن خطط فيليب فسارعت بإرسال ثماني سفن ضخمة محملة بالمواد المشتعلة إلى كالي وعند اقترابها من الميناء بأقصى سرعة قام طواقمها بإشعال النيران فيهما وسارعوا بإخلائها، وكانت النتيجة دماراً هائلاً واشتعلت النيران في عشرات السفن الإسبانية ودمر الأسطول الإسباني في واحدة من أشهر معارك التاريخ «الأرمادا»، ورغم أنه كان انتصاراً عظيماً، إلا أن إليزابيث لم تضع وقتها في الشماتة، وتوفيراً للمال أوقفت عمل البحرية ورفضت الإصغاء لمستشاريها بإكمال نصرها ومهاجمة الإسبان؛ لأنها بالفعل حققت أهدافها وهي إنهاك فيليب وقدراته المادية، وأجبرته على التخلي عن أحلامه بالسيطرة الكاثوليكية وغزو إنجلترا. تركيع الأعداء يأخذنا الكاتب إلى الحديث عن الحرب الهجومية واستراتيجياتها، لافتاً إلى أنها «تقوم على مهاجمة الطرف الآخر أولاً، وضرب النقاط الهشة لديه وبهذا يمكنك خلق ظروفك الخاصة قبل أن يحدث أي احتكاك يؤدي إلى تخريب خططك وهذا يستلزم معرفة نقاط الضعف والقوة عند الطرف الآخر، بحيث تصوب ضرباتك نحو نقاط الضعف وكلما كانت خططك معضلة ساعد ذلك على تركيع الأعداء ويمنح هجومك زخماً لا يقاوم». ويضيف: «إن ديناميكية وآليات الحرب القذرة انسحبت على المجتمع والثقافة بصورة واسعة، سواء في السياسة أو الأعمال أو العلاقات الاجتماعية، فالضغوط المتزايدة للحروب اليومية التي يلاقيها البشر في حياتهم تجعل الاستراتيجيات القذرة أمراً لا مناص منه، حيث يصبح الناس باطنين يبدون لطفاء ومحترمين ولكنهم يستعملون أساليب مراوغة ومخادعة من وراء الكواليس». ومع استراتيجيات الحرب القذرة وغيرها من أساليب الحرب التي يعدها الكاتب أمراً ضرورياً في حياتنا هذه الأيام يستمر روبرت جرين في تفصيل وإيضاح كل استراتيجية على حدة، وكذا شرح الكيفية والزمان التي يمكن التعاطي بها مع هذه الاستراتيجيات، وهو ما نتعرف عليه بصورة موسعة عبر قراءة صفحات الكتاب. • هذا الكتاب من إصدارات «مشروع كلمة» التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث.