على رغم أن «قمة الحزام والطريق» التي حضرتها وفود رفيعة المستوى من دول العالم كافة، قد اختتمت في العاصمة الصينية بكين منذ أسبوعين، إلا أن النقاش الذي أطلقته، سيستمر لفترة طويلة، خصوصاً في دول مثل الولايات المتحدة، يمكن وصف الآراء فيها بشأن تلك المبادرة، بأنها متضاربة، في أفضل الأحوال. وكي أكون منصفاً، ينبغي التأكيد على أن الولايات المتحدة أرسلت وفداً رفيع المستوى إلى القمة، برئاسة «مات بوتينجر» المساعد الخاص للرئيس دونالد ترامب، والمدير الأقدم لشؤون شرق آسيا في مجلس الأمن القومي الأميركي. وخلال جلسات القمة، أبدى «بوتينجر» موقفاً داعماً لمبادرة الحزام والطريق (BRI)، وهو ما كان واضحاً في تصريحاته خلال المؤتمر، ومنها التصريح الذي قال فيه إن الشركات الأميركية مهتمة بالانضمام لمشروعات «الحزام والطريق». ولكن كان من الطبيعي، مع ذلك، أن يثير «بوتينجر» أيضاً بعض دواعي القلق المعتادة بشأن المبادرة مثل الشفافية، وأعباء الديون، والقضايا البيئية. ولكن موقف الولايات المتحدة تجاه المبادرة تعرض للنقد، فيما بعد، في الساحة الداخلية الأميركية. فالمنتقدون للمبادرة، يعتقدون أن ترامب يقدم تنازلات غير ضرورية للجانب الصيني، وهو ما يرجع، في رأيهم، لطريقته في التعامل مع الشؤون الدولية الذي يقوم على نهج تبادل الصفقات، خصوصاً أن ترامب يحتاج إلى مساعدة الصين، في التعامل مع التحدي النووي الكوري الشمالي. ويميل بعض الاستراتيجيين الأميركيين كذلك للاعتقاد بأن مبادرة الحزام والطريق، هي في الجوهر استراتيجية جيوبوليتيكية صينية كبرى، أكثر من كونها مجرد مبادرة للتجارة والتنمية. ونظراً لاقتناع الاستراتيجيين الأميركيين بأن الصين ستستغل مبادرتها هذه في توسيع نفوذها الجيوبوليتيكي، في مختلف مناطق العالم، فهم لا يترددون في إبداء قلقهم، بخصوص احتمال تقديم أي تنازل للصين عن راية القيادة العالمية. وعلى رغم أن مثل هذا الرأي، قد يكون مفهوماً من منظور المصالح القومية الضيق، إلى أنه أيضاً خطأ في تقديري، وهو ما يرجع لثلاثة أسباب محددة: الأول، عدم وجود منافسة استراتيجية بين الصين والولايات المتحدة، عندما يتعلق الأمر بالبلدان التي يمر بها الحزام والطريق. فمعظم الدول الواقعة على امتداد طريقي الحرير -البري والبحري- بعيدة كل البعد عن الولايات المتحدة، ما يجعل من احتمالات المنافسة المباشرة، بل وحتى المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، غير قابلة للتصديق. فإذا ما أخذنا دول وسط آسيا، على سبيل المثال، فإنه حتى إذا افترضنا أن النفوذ الصيني الاقتصادي والسياسي آخذ في الازدياد في هذه المنطقة، فإن ذلك لا يعني أيضاً بالضرورة أن نفوذ الولايات المتحدة في هذه المنطقة سيتقلص حتماً نتيجة لذلك، لأنها تمتلك في واقع الأمر علاقات وثيقة مع الكثير من اللاعبين الإقليميين هناك. والأمر نفسه ينطبق على منطقة جنوب شرق آسيا، حيث تتداخل المصالح الصينية والمصالح الأميركية بدرجة معينة. وعلى الرغم من أنه قد يكون من المغري في هذا السياق القول إن الصين والولايات المتحدة يمكن أن تتصادما في هذه المنطقة، بسبب هذا التداخل وتضارب المصالح، إلا أن ما حدث في واقع الأمر، هو أنهما كانتا حريصتين للغاية، حتى الآن، على عدم الدخول في منافسة استراتيجية جادة، اعتقاداً منهما بأن أي صراع بينهما كقوتين عظميين، يمكن أن يدمر ازدهار المنطقة، وسلامها لعقود طويلة قادمة. والسبب الثاني، كما أشار «بوتينجر» عن حق، هو أن الشركات والمؤسسات الأميركية، يمكن أن تجد فرصاً عملية جيدة لها في مشروعات الحزام والطريق التي تشمل البنية التحتية، والتمويل، والبيئة، ومبادرات الطاقة. فمن المعروف أن الولايات المتحدة من القوى الرائدة في مجال الطاقة، والخدمات المالية، ما يجعل الشركات الأميركية العاملة في هذين المجالين تحديداً تتمتع بميزات نوعية في تولي مشروعات الحزام والطريق، طالما أن هذه المشروعات مفتوحة، وشفافة، وتتيح فرصاً متساوية لجميع الشركات الأجنبية. وفي وقت يتعافى الاقتصاد الأميركي ببطء، ويعاني نقص الطلب المحلي، فإن استراتيجية «الذهاب إلى الخارج» ستوفر المزيد من الحوافز للنمو المستدام لهذا الاقتصاد. ويضاف إلى ذلك أيضاً أن مشروعات البنية التحتية الأميركية الداخلية، يمكن أن تتحسن من خلال التعاون مع شركات الصين ورؤوس أموالها، بشرط أن تتبع تلك الشركات ورؤوس الأموال قواعد الاستثمار، والشروط البيئة الأميركية الداخلية. والسبب الثالث يتمثل في أن العلاقات الأميركية الصينية يمكن أن تتحسن أكثر، وتزداد متانة مع مشاركة الولايات المتحدة في مبادرة الحزام والطريق. فمن المفهوم في هذا السياق، أن القلق سيظل يراود البعض في الولايات المتحدة من الجزء الخاص بالاستراتيجية الكبرى في مبادرة الحزام والطريق، بصرف النظر عن الطريقة التي تفسر بها الصين وتنفذ تلك المشروعات. ولكن من المهم، مع ذلك، أن يتم التركيز في المقام الأول على التأثيرات الإيجابية لمشروعات الحزام والطريق، وانعكاساتها على الصورة الكلية للعلاقات الأميركية- الصينية. فبالانضمام لهذه المشروعات، ستكون الولايات المتحدة في وضع أفضل يسمح لها بمراقبة ممارسات الصين، وتوجيه انتقادات بناءة لها عندما يستلزم الأمر ذلك، وهو ما سيساهم في مجمله في جعل المبادرة أكثر فعالية، وشفافية في المدى الطويل. وخلاصة القول، إن الولايات المتحدة يمكن أن تحقق استفادة هائلة من المشاركة في مبادرة الحزام والطريق، ومحصلة ذلك هي أنه يمكننا، بناء عليه، أن نتوقع المزيد من العلاقات الصينية- الأميركية الأكثر نضجاً وعافية، وهو أمر في غاية الأهمية لمصالح قارة آسيوية مستقرة، وسلمية، ومزدهرة. * أستاذ غير مقيم في معهد السياسة العالمية العامة في برلين، وأستاذ مساعد مادة الدراسات الحكومية والإدارة العامة في جامعة مكاو ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»