في زمن هيمنت عليه السينما ذات الأبعاد الثلاثية، وتحولت فيه الأنماط الترفيهية كألعاب الفيديو والشخصيات الافتراضية في رسوم “الكوميكس” إلى وسيلة مبررة لاختراق الواقع من خلال قصص مستحيلة ومخلوقات أسطورية قادمة من المستقبل أو خارجة من فم الخرافة، ونورد هنا على سبيل المثال أفلام رأيناها مؤخرا مثل “أمير من بلاد فارس” و”صراع الجبابرة” و”الرجل الحديدي”، فمن تقلبات هذا الزمن المربك لعشاق السينما الواقعية بالذات، يأتي المخرج العتيد رومان بولانسكي (76 عاما) من منطقة مغايرة وحميمية، كي يقدم لنا سينما بلا شوائب، وكي يحاور زمنه الراهن والخاص، ويلتقط قفاز التحدي ليقول لنا وهو في كامل عدته الفنية والثقافية بأن سينما الحياة ذات الشحنة الذاتية والروائية ما زالت تنبض، وأن فيها أيضا ما يمكن أن يثير ويقلق ويطلق أسئلة حارة عن الأزمة الوجودية والإنسانية ومن دون تكلف ومبالغة وإبهار زائد ومفرغ من أصالته وقيمته. بعد أزمته المتجددة مع القضاء الأمريكي ومع الملاحقات القانونية المتتابعة والهروب الدائم من كابوس الاعتقال إثر تهمة التحرش الجنسي بفتاة قاصر في العام 1978، يقدم رومان بولانسكي في آخر أفلامه “الكاتب الخفي” the ghost writer ما يمكن أن نسميه “الجاذبية المرعبة للمطاردة”، فأن تكون مطاردا في دائرة مغلقة من الهواجس والشكوك يعني أيضا أن تبحث وتطيل التأمل في معنى الحصر النفسي و الرهاب الداخلي الذي يتحول تدريجيا إلى إدمان فطري على الخوف وإلى ما هو أغرب من ذلك: التودد لليأس ومغازلة المأساة وكأنها قدر ومصير!. قصة هذه المطاردة وهذا الهروب المكرر في أدغال الحياة يرويها بولانسكي في الفيلم ويعكسها بكل واقعيتاها ووحشيتها التي يغذيها الهوس بتعذيب الذات وتأنيب الضمير خلال حياتين تتقاطعان مع السيرة السياسية الحافلة بنجاحات عابرة وإخفاقات مقيمة ومقلقة ومليئة بالمؤامرات والشبهات، ومع سيرة أخرى لكاتب بديل تتمثل وظيفته الأساسية في تنقيح مذكرات المشاهير وإضافة البهارات الوصفية والأدبية إليها، مع الكثير من المكياج والزينة والتزويق السردي، بحيث يتحول هذا الكاتب في النهاية إلى شبح منسي يتقاضي قيمة العقد بعد انتهائه من انجاز الكتاب ويتبخر اسمه ومجهوده بعد ذلك في وليمة الإعلام، وفي أضواء الشهرة وحفلات التوقيع المحاطة بالزيف والخديعة والغياب المرّ والمتبدّل للحقيقة. فضول قاتل يجسد دور السياسي في الفيلم الممثل بيرس بروسنان الذي يتقمص دور رئيس الوزراء البريطاني آدم لانج الذي يعيش مع زوجته ومعاونيه في جزيرة أمريكية معزولة لا تبعد كثيرا عن مدينة نيويورك، يحاول هذا الوزير ـ الذي تتقاطع سيرته مع المحطات السياسية والشخصية لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ـ أن ينتهي من كتابة مذكراته الشخصية في الجزيرة برعاية إحدى دور النشر الكبرى في لندن، ولكنه في ذات الوقت يصارع اتهامات دولية وإعلامية حول تسليمه لإرهابيين مفترضين للحكومة الأمريكية من خلال تعاون مشبوه مع جهاز المخابرات الأمريكي (سي آي إيه) ومن دون إثباتات وبتجاوز واضح لسلطة القضاء البريطاني، وهناك اتهامات أخرى تلاحقه حول قراراه المتسرع في غزو العراق وتوريط الجنود البريطانيين في حرب عبثية أعادتهم إلى بلادهم في النهاية ولكن في توابيت مغلقة، أدت لخلق تداعيات مؤلمة ومأساوية لعائلاتهم. أما دور الكاتب الخفي أو الشبح الذي عليه أن يقابل هذا الوزير ويكتب سيرته بشكل احترافي فيجسده الممثل إيوان ماكروغر الذي يدخل ومنذ البداية في إشكالية تفسيرية مدوخة تتعلق بمصير الكاتب السابق الذي تصدى لكتابة سيرة الوزير ولكنه لم يستطع إنجاز مهمته، بسبب موته غرقا واكتشاف جثته على سواحل الجزيرة ذاتها التي يقطنها الوزير، هذه النهاية الغامضة تدفع بالكاتب الجديد للبحث عن ملابسات وظروف النهاية المفجعة لسلفه، ومن خلال إيقاع المونتاج الهادئ والمتدفق بسلاسة الذي ينتهجه رومان بولانسكي في أسلوبه الإخراجي، يتخلى الفيلم عن الإثارة الخارجية والمقحمة، ويعتمد عوضا عن ذلك على الإثارة العفوية التي تنبع وتتصاعد مع صعود التوتر السردي والبصري المتواصل مع تسلسل الأحداث وتداخلها، هذا التكنيك الإخراجي الذكي يكشف لنا تدريجيا عن خيوط المؤامرة التي أفضت إلى قتل الكاتب السابق، وليس إلى موته غرقا كما أشيع، يدخل الكاتب البديل إثر ذلك في دوامة من الشكوك والبحث الخطر عن مسببات هذه المؤامرة ودوافعها، ويجد نفسه منقادا لذات المنطقة الخطرة والمطاردات الخفية التي تتقاطع مع المصير والظرف والمكان التي تورط فيها الكاتب السابق. تمارين الخوف يتنامى حس الخطر أكثر لدي الكاتب الجديد عندما يبدأ في البحث عن إجابات حساسة حول سبب انضمام الوزير لانغ لحزب العمال وهو الذي لم يكن سوى طالبا شغوفا بالتمثيل على خشبة المسرح وبمطاردة الفتيات في الملاهي الليلية، تتكشف الحقائق الصادمة أمام الكاتب عندما يكتشف أن الوزير كان أشبه بكبش فداء تم تجنيده في الخفاء وتحويله إلى دمية أو روبوت يتحكم به صناع القرار في الحكومة الأمريكية بعد وضعه في المقعد المختار له سلفا، والخاص بأخطر منصب سياسي في بريطانيا، كما يكتشف الكاتب أن زوجة الوزير وكذلك أقرب أصدقائه ممن تربطهم علاقة وثيقة بالمخابرات الأمريكية كانوا هم الممهدين والمحركين الأوائل لهذه الدمية التي باتت تملك سلطة اتخاذ قرارات كبرى ومصيرية تخدم وبشكل أعمى المصالح الأمريكية حول العالم. ورغم هذا البعد السياسي الطاغي على الفيلم ورغم جو الإثارة والتوتر الذي يشيعه النسق السردي للرواية الأصلية التي كتبها روبرت هاريس وحملت عنوان الفيلم ذاته، إلا أن المعالجة السينمائية التي مارسها بولانسكي على الراوية لم تنتقص من التوازن الحذر بين متطلبات النص ومتطلبات الإخراج، فكان بولانسكي أثناء تنفيذه للعمل أمينا لأجوائه “الهتشكوكية” التي تحاور وبدقة الخوف الداخلي للشخوص، وترسل إشارات هذا الخوف إلى المتلقي بخفة ونفاذية لا يمكن صدها واعتراضها، وهذا الأسلوب الجوّاني في تمرير الشحنات الكابوسية نحو المتفرج، أطلقه بولانسكي أول مرة في فيلمه “قتلة مصاصي الدماء الجريئون” الذي قدمه في العام 1967 وألحقه في العام التالي بفيلمه الشهير “طفل روزماري” الذي أثار انتباه النقاد والوسط السينمائي العالمي، وأسس لمدرسة فنية خاصة في تقديم أفلام الرعب بأسلوب إبداعي يتخطى المجانية والمعالجة العشوائية والصارخة لهكذا أفلام، أسلوب يجمع بين التحليل النفسي والانعطاف السوريالي والعبثية المعتنى بها جيدا، وهو الأسلوب الذي طوره بولانسكي واستقاه أصلا من إرث (الجمال القبيح) للرواد والمحرضين الكبار على التمرد الفني أمثال لويس بونويل صاحب الفيلم السوريالي المدوّخ “كلب أندلسي”، وبيكيت الذي وضع (جودو) على حافة الغريزة الفاتنة والجنون الضاري للمبدعين من بعده، وهناك أيضا جان كوكتو وكافكا وهنري جورج والشاعر هارولد بنتر وعصابة الحالمين الذين وضعوا رومان بولانسكي في الحفرة الجحيمية ذاتها التي أطلقت بركان الصرخة الفنية المدوية في وجه العالم المتمدن والوحشي في ذات الوقت. سجون مفتوحة فيلم الكاتب الخفي لم يخل أيضا من خطابات ضمنية مؤلمة حول العزلة الاجتماعية التي تضع الفرد في مواجهة خاسرة مع المؤسسة التي تنعم بجبروتها بينما يظل الفرد هو الرقم الأحادي المعرّض للنفي والإقصاء والتصفية الكاملة لمجرد محاولته تفسير وجوده، والبحث عن إجابات مقنعة حول مصيره داخل هذه المؤسسة المهيمنة على كل شيء. ومن أجل ترجمة هذه العزلة الكافكاوية بامتياز، لجأ بولانسكي إلى تحويل الأمكنة والمناظر الشاسعة في الفيلم إلى سجن كبير وواسع، وتعمد التصوير في أجواء شتوية ماطرة وفي أراضي موحلة كي يضفي طابع الكآبة والسوداوية على المشاهد، وحتى منظر البحر الذي يجلب التأمل والسفر البصري، حوّله بولانسكي إلى منظر موحش، وإلى فخ ينتظر الغرقى وسط ضباب كالح يشي بالجريمة ولا يتصالح أبدا مع فكرة الرحمة. حفل الفيلم أيضا بالنوايا السوداء للأقدار والتي يمكن لها أن تقود الإنسان إلى الانهيار النفسي والعاطفي في لحظة هائجة وغير منتظرة، هذا المصير الداكن والمختل بدا واضحا في شخصية زوجة الوزير التي تعاني من الانفصام ومن الرغبة المكررة في الانتقام من ذاتها ومن المحيطين بها، وكذلك في شخصية الكاتب الذي قادته الظروف والمصادفات نحو درب مهلك لا مفر من الاستمرار فيه حتى النهاية، وهي ذات النهاية التي استثمرها المخرج رومان بولانسكي جيدا، وحوّلها إلى منطقة تمتزج فيها جماليات المشهد الختامي مع السوداوية المطلقة للقدر، والتي يمكن وصفها وبأقل الكلمات بأنها: اللون الزاهي للموت!