قال إبراهيم بن إسحق الموصلي: سألت الرشيد أن يهب لي يوماً في الجمعة لا يبعث فيه إليّ بوجه ولا بسبب لأخلو فيه بجواري وإخواني، فأذن لي في يوم السبت، وقال لي: هو يوم أستثقله، فاله فيه بما شئت؛ فأقمت يوم السبت بمنزلي وتقدمت في إصلاح طعامي وشرابي بما احتجت إليه، وأمرت بوابي فأغلق الأبواب، وتقدمت إليه ألا يأذن عليّ لأحد· فبينما أنا في مجلسي والخدم قد حفوا بي وجواري يترددن بين يدي، إذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال، عليه قميصان ناعمان وخفان قصيران، وعلى رأسه قلنسوة لاطئة، وبيده عكازة مقمعة بفضة، وروائح المسك تفوح منه حتى ملأ البيت والدار، فداخلني بدخوله عليّ - مع ما تقدمت فيه - غيظ ما تداخلني قط مثله وهممت بطرد بوابي ومن حجبني لأجله، فسلم عليّ أحسن سلام؛ فرددت عليه، وأمرته بالجلوس فجلس، ثم أخذ بي في أحاديث الناس وأيام العرب وأحاديثها وأشعارها حتى سلى ما بي من الغضب، وظننت أن غلماني تحروا مسرتي بإدخالهم مثله عليّ لأدبه وظرفه· فقلت: هل لك في الطعام، فقال: لا حاجة لي فيه، يا أبا إسحق؛ هل لك أن تعني لنا شيئاً من صنعتك وما قد نفقت به عند الخاص والعام؟ فغاظني قوله، ثم سهلت على نفسي أمره، فأخذت العود فجسسته ثم ضربت فغنيت، فقال: أحسنت يا إبراهيم! فازداد غيظي وقلت: ما رضي بما فعله من دخوله عليّ بغير إذن واقتراحه أن أغنيه حتى سماني ولم يكنني ولم يجمل مخاطبتي! ثم قال: هل لك أن تزيدنا؟ فتذممت فأخذت العود فغنيت، فقال: أجدت يا أبا إسحق! فأتم حتى نكافئك ونغنيك، فأخذت العود وتغنيت وتحفظت وقمت بما غنيته إياه قياماً تاماً ما تحفظت مثله، ولا قمت بغناء كما قمت به له بين يدي خليفة قط ولا غيره، لقوله لي: أكافئك، فطرب وقال: أحسنت يا سيدي، ثم قال: أتأذن لعبدك بالغناء؟ فقتل: شأنك، واستضعفت عقله في أن يغنيني بحضرتي بعد ما سمعه مني، فأخذ العود وجسّه فوالله لخلته ينطق بلسان عربي لحسن ما سمعته من صوته ثم تغنى: ولي كبد مقروحة من يبيعني بها كبداً ليست بذات قروح أباها عليّ الناس لا يشترونها ومن يشتري ذا علة بصحيح؟ أئن من الشوق الذي في جوانبي أنين غصيص بالشراب جريح قال إبراهيم: فوالله لقد ظننت الحيطان والأبواب وكل ما في البيت يجيبه ويغني معه من حسن غنائه، حتى خلت والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجاوبه؟ وبقيت مبهوتاً لا أستطيع الكلام ولا الجواب ولا الحركة لما خالط قلبي، ثم غنى: ألا يا حمامات اللوى عدن عودة فإني إلى أصواتكن حزين فعدن فلما عدن كدن يمتنني وكدت بأسراري لهن أبين دعون بترداد الهدير كأنما سقين حميا أو بهن جنون فلم تر عيني مثلهن حمائما بكين ولم تدمع لهن عيون فكاد، والله أعلم، عقلي أن يذهب طرباً وارتياحاً لما سمعت، ثم غنى: ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد لقد زادني مسراك وجداً على وجد أإن هتفت ورقاء في رونق الضحا على فنن غض النبات من الرند بكيت كما يبكي الحزين صبابة وذبت من الحزن المبرح والجهد وقد زعموا أن المحب إذا دنا يمل وأن النأي يشفي من الوجد بكل تداوينا فلم يشف ما بنا على أن قرب الدار خير من البعد على أن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من تهواه ليس بذي عهد ثم قال: يا إبراهيم؛ هذا الغناء فخذه وانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك، فقلت: أعده عليّ، فقال: لست تحتاج، قد أخذته وفرغت منه، ثم غاب من بين يدي، فارتعت وقمت إلى السيف فجردته، وعدت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أي شيء سمعتن عندي؟ فقلت: سمعنا أحسن غناء سمع قط، فخرجت متحيراً إلى باب الدار، فوجدته مغلقاً؛ فسألت البواب عن الشيخ· فقال لي: أي شيخ هو؟ والله ما دخل إليك اليوم أحد، فرجعت لأتأمل أمري، فإذا هو قد هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك يا أبا إسحق، أنا إبليس وأنا كنت جليسك ونديمك اليوم، فلا ترع· فركضت إلى الرشيد وقلت: لا أطرفه أبداً بطرفة مثل هذه، فدخلت إليه فحدثته بالحديث، فقال: ويحك! تأمل هذه الأصوات، هل أخذتها؟ فأخذت العود أمتحنها، فإذا هي راسخة في صدري كأنها لم تزل، فطرب الرشيد وجلس، وأمر لي بصلة وحملان وقال: الشيخ كان أعلم بما قال لك من أنك أخذتها وفرغت منها، فليته أمتعنا بنفسه يوماً واحداً كما أمتعك!