في البدء كان المسجد هو ''المدرسة'' و''المحكمة'' وساحة الاجتماعات العامة· ولكن سرعان ما أفردت لعملية تربية الصغار وتلقينهم مبادئ القراءة والكتابة منشآت خاصة بدأت أولاً بمكاتب تعليم الأطفال أو الكتاتيب كما تعرف في معظم بلدان الشرق العربي، ووفقاً للروايات التاريخية المبكرة فقد شهدت الكوفة والبصرة بواكير هذه الكتاتيب التي افتتحت في حجرات صغيرة يديرها المعلمون· وكانت نشأة المكاتب أو الكتاتيب ضرورة أملاها تزايد أعداد المسلمين جعلت من المتعذر الاعتماد على ''المسجد'' كمكان لتعليم الأطفال· والفضل في ازدهار عمران مكاتب الأطفال يعود الى نظام الوقف الإسلامي أو الأحباس، حيث كان أهل الخير يقومون بحبس ريع أراض زراعية أو منشآت تجارية للإنفاق منه على أنشطة خيرية ابتغاء ثواب الله· وأوجد نظام الوقف نوعاً جديداً من هذه ''المدارس الأولية''، إذ حرص كل واقف على أن يخص بأوقافه، أشد الناس حاجة ليكون له عظيم الأجر بمساعدة المحتاجين، وهكذا اقتصر ارتياد مكاتب الأوقاف على الأطفال الأيتام دون سواهم· ولم يكتف نظام الوقف الاسلامي بتأمين أجور المؤدبين وسواهم من الموظفين بالمكاتب كالحارس والكاتب، بل كثيراً ما نصت وقفيات بعض الكتاتيب على توفير نفقات كسوة الأطفال والتي كانت تشتمل تقليدياً على نعل جلدي وجلباب أو قميص وطاقية للرأس· وخلال عهد سلاطين دولة المماليك في مصر والشام ارتبطت مكاتب تعليم الأطفال بوصفها كياناً معمارياً بوحدة معمارية أخرى وهي أسبلة الماء وصار من الشائع إلحاق الكتاب بالسبيل حتى عرفت هذه الوحدة الثنائية الوظيفة باسم السبيل - الكتاب· وفي كل الأحوال، كان مكتب تعليم الأطفال يحتل الطابق العلوي تاركاً للمنشأة المائية بصهريجها الطابق الأرضي· وتكاد مكاتب تعليم الأطفال تكون متماثلة من حيث التكوين المعماري فهي تتخذ شكل المسقط الأفقي للسبيل، فإما تكون على هيئة مربع أو على شكل مربع ينتهي بنصف دائرة ويشيد لها سقف ينتهي برفرف خشبي لحماية الأطفال من أشعة الشمس، وقد تسدل ستائر من قماش سميك على واجهة الكتاب لحجب هذه الأشعة· وتشير كتب الأوقاف إلى صفات الفقيه أو المؤدب التي ينبغي أن يتحلى بها كالعلم والرأفة والأمانة وراتبه الشهري وكذلك عدد الأيتام· وقد عاين الرحالة الأجانب الذين توافدوا على الولايات العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين هذه الكتاتيب بعدما انهارت الأوقاف نتيجة للاعتداءات المستمرة عليها· وطبقاً لما ذكره عدد من الرحالة الأوروبيين الذين وفدوا إلى مصر في القرن التاسع عشر، فقد كان على أولياء الأمور أن يدفعوا جعلاً ولو بسيطاً لمؤدبي الصبيان في الكتاتيب التي كانت كثيرة العدد لا في القاهرة فحسب بل في كل مدينة كبيرة وقرية أيضاً· ويتقاضى الشيخ الذي يطلق عليه اسم الفقي ''الفقيه'' أجراً زهيداً لقاء تعليم الأطفال رغم انه من المفترض ان يحصل على راتبه من أوقاف الكتاب· أما العملية التعليمية ذاتها فكانت شديدة البساطة، إذ كان على الأطفال أن يكتبوا دروسهم على ألواح من الخشب المصبوغ بالأبيض ويعرف ''بالاردواز'' وتمسح الكتابة تلك بعد كل درس، وتعلم الكتابة ومبادئ الحساب أيضا على نفس اللوح· وحسبما سجل أحد الرحالة الأجانب فقد كانت العادة أن يجلس التلاميذ ومدرسهم على الأرض وكل تلميذ بيده لوحة أو نسخة من المصحف أو جزء من أجزائه الثلاثين ''توضع على كرسي من الجريد ويلقي الأولاد جميعهم درس القراءة أو ينشدونه بصوت واحد عال هازين رؤوسهم وأجسامهم هزاً لا ينقطع أماماً وخلفاً''· وأول ما كان يتعلمه الأطفال كان حروف الهجاء ثم الشكل ''الضم والكسر·· الخ'' ويتعلمون بعد ذلك القيمة العددية لكل حرف من حروف الهجاء طبقاً لحساب الجمل ''أبجد - هوز- حطي - كلمن·· الخ'' وعند انتهاء كل مرحلة كان ''الفقي'' يرسل إلى الأب باللوح الذي كتب عليه الطفل آخر الدروس ''كحروف الهجاء'' وقد زين اللوح باللون الأسود والأبيض والصبغ الأخضر فيعيده الأب إليه ومعه قرش أو قرشان مكافأة· وبعد إتقان حروف الهجاء يتعلم الأطفال كتابة الأسماء البسيطة ويشرعون في حفظ القرآن الكريم ابتداء بقصار السور· وقد يحضر الطفل بعد ذلك دروساً في الحساب والميزان على يد قباني وهو الشخص المنوط به وزن البضائع في السوق على القباني· وتتفق ملاحظات الرحالة حول ضحالة المستوى العلمي ''للفقي'' مع ما جاء في المصادر التاريخية والمأثورات الأدبية العربية· والحقيقة التي لا شك فيها أن المسلمين كانوا ينظرون إلى أطفال المكاتب بعد أن حصلوا على قسط من المعرفة وحفظ القرآن الكريم على أنهم من الذين يقبل دعاؤهم لأنهم لم يرتكبوا بعد اثماً أو يكسبوا خطيئة، ولذا كان على ''الفقيه'' أن يقودهم في الدعاء لدفع الأعداء أو لسقوط المطر أو حتى لرفع الوباء أو خطر المجاعة· وقد احتفظ لنا ادوارد لين بنص الدعاء أو الحزب الذي كان أطفال الكتاتيب بالقاهرة يتلونه قبل عودتهم الى منازلهم وقت العصر، فيما عدا الخميس حيث يتلونه ظهراً لانصرافهم مبكرين بسبب أجازة يوم الجمعة، ومما جاء في هذا الدعاء: ''أعوذ بالله من الشيطان الرجيم· بسم الله الرحمن الرحيم· اللهم عضد الإسلام وارفع كلمة الحق والايمان بصون عبدك وابن عبدك سلطان البرين وخاقان البحرين السلطان ابن السلطان محمود خان· اللهم اهلك الكفار والمشركين أعداءك أعداء الدين''