يبدو المسرح سؤالَ معرفة قبل أن يكون سؤالَ جرأة عند فريق عمل “الذي نسي أن يموت”، أولى عروض الدورة الرابعة لمهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما الذي تقيمه هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام بالتعاون مع فرقة مسرح دبا الحصن. تحمل مسرحية “الذي نسي أن يموت” لفرقة مسرح خورفكان للفنون توقيع حسن رجب مخرجا وإسماعيل عبد الله مؤلفا وجمعة علي مخرجا. بدءا فإن العمل قد بدا مفاجئا لجهة أنه غير مطروق من قبل على مستويي الشكل والمضمون، ومثيرا للجدل في أكثر من جانب من جوانبه كفكرة وتوظيف للسينوغرافيا وعلاقتها بالتمثيل. وربما ينبغي الإشارة أولا إلى أن “الذي نسي أن يموت” هي عمل مونودرامي ذو نزعة تجريبية يكاد ينتمي إلى المسرح الفقير فليس على الخشبة سوى خمسة أضواء (سبوت لايت) قابلة للحركة وطاولة مستطيلة لغسل الموتى وممثل، ليستغني المخرج حسن رجب بذلك عن الإضاءة عندما تأتي من الأعلى، على نحو ما هو مألوف، آخذين في عين الاعتبار أن الإضاءة هي أحد أهم عناصر السينوغرافيا تاركا هذه المهمة تأتي من الأسفل وبتدخل كبير من الممثل وخارجا بذلك على “القانون” المسرحي السائد حيث تأتي الإضاءة من الأعلى فتضيء الفعل المسرحي كله بتوتراته الدرامية دون أن يتدخل الممثل بها تصميما وتنفيذا لها مختصوها من مصممين ومنفذين. احتلت هذه المغامرة مساحة عالية من التجريب في العرض، حيث كان على الممثل جمعة علي أنْ يحمل دوره كممصمم للإضاءة ومنفذ لها إلى جانب أدائه الدرامي أثناء ما يسرد حكايته؛ حكاية غاسل الموتى الذي بدا أنه في مكان، بحسب الشباك ذي القضبان في خلفية المسرح، أوطأ من مستوى الأرض وأقرب إلى مستوى القبر، ما يجعل المرء يكتشف أثناء العرض أن غاسل الموتى ميت أيضا. بهذا المعنى، ينطوي العرض على العديد من الإشارات الثابتة والمتحولة تلك التي قام بإجرائها جمعة علي مستوى الملفوظ والأداء بما يتضمنه هذا الأداء من أن ينجح في ثلاثة أدوار دفعة واحدة: التمثيل وتصميم الإضاءة على الأرض مباشرة وتنفيذها بحيث تصبح عناصر المسرحية جميعا مرئية من قبل المشاهد فلا يمضي جهده كله وجهد المخرج وجهد المؤلف إلى العتمة. يناقش العرض فكرة إنسانية محضة بحياد إيديولوجي، إذا جاز التوصيف، هي الحال التي أوصلت المجتمعات العربية إلى حال التطرف والتعصب ومن ثم إلى الإرهاب مع انغلاق السبل أمام التعبير عن الذات، وذلك عبر شخصية الذي نجا من حادثة أمنية شابا فـ”نسي أن يموت” في تلك الحادثة لينتهي به الأمر غاسلا لموتى عاطلا عن العمل في إحدى القرى التي أقام فيها النسيان. وهنا، بدا العرض مسائِلا لمشاهده ومحاورا له، إذ أن هذه المسألة، بحسب مقولة العرض ودلالاته الكبرى تطرق جدران الوعي، ذلك أن الثلاثي، تمثيلا وإخراجا وتمثيلا، يتبنون هذه المقولة ويجري تبريرها إنسانيا عبر النص والملفوظ والأداء بتحميل القمع والتسلط والنشأة على الصمت والخوف في مجتمعات بطركية مجتمعة ذات صلة بالحال التي وصل إليها غاسل الموتى “ثائر” ومصيره العجيب. لقد بذل الممثل جمعة علي جهدا لافتا كي يبقى الجمهور لا متواصلا فحسب مع العرض، الذي فاض عن الخمسين دقيقة، بل ومتعاطفا مع شخصية إشكالية، يشعر المرء أنه أمام ممثل يمارس دوره بمخيلته وليس بأحاسيسه وأدواته فحسب. غير أن هناك ما ينبغي الإشارة إليه، فقد حدث أن الممثل، بالفعل، لم يتمكن المشاهد من متابعة ردّ الفعل الدرامي على وجهه، في بعض الأحيان، ربما بسبب مهامه الإضافية في الإضاءة. والأمر الآخر هو ذلك الهاتف، أو الصوت الذي جاء من خارج الخشبة ومن خارج جسد الممثل الوحيد، والذي حضر بجثة متقطعة لشخصية مرموقة ليدخل بذلك على “الخط” الدرامي مع الممثل فأحدث انعطافةً هامة في “السرد المسرحي”، وهو ما يخرج بالمونودراما عن فكرتها الأساسية التي تقوم على فعل درامي لشخصية واحدة تُحدِثُ تعددا في الأنا وانشطارات وشظايا تشير إلى “أنوات” بعدد المتفرجين في قاعة المسرح. وحقيقة الأمر، أن الفكرة تحتاج إلى الجرأة للتمكن من طرحها هكذا على الملأ، ليس لأنها تدخل في باب المحرّم أو المسكوت عنه في الثقافة العربية بل لأنها أيضا تمارس نوعا من الضغط على العصب الحساس للألم الإنساني، فقد بات ألما مهملا وعاديا ولا يجدر بالانتباه إليه مع أن مرجعياته قابلة للتحليل وفقا للمعنى السياسي والاجتماعي والتاريخي فضلا عن الثقافي. لكن، هل كان على العمل، وبالتالي فريق هذا العمل، أن يتبنى وجهة نظر إيديولوجية ما في صدد قضيتها الأساسية؟ أغلب الظن، أنْ لا، لأنه ببساطة، ليس مطلوبا من عمل فني من 55 دقيقة أن يعالج “ورطة” معرفية بهذا الحجم فيطرح حلا أو حلولا، كل ما بالإمكان للفن أن يفعله هو أن يشير إلى موضع ألم ويتسائل. وهذا ما يحسب لفريق العمل، حقا.