ذات خميس شعري في بيروت الخمسينيات، رفع الشاعر الشاب مرساته وذهب باتجاه الأفق. مذّاك، صار جوالاً على هذه الأرض، يجوب البحار المأهولة بأسئلة الحياة والموت والمآل البشري. صار الشاعر الحارس الأبدي لنجمة الشعر. الساهر الأزلي عند شاطئها يحمل قناديله ويدور بحثاً عن نجمة الوجود. في بحثه المضني عرف مواطن الجمال الهَيْدِغِّري، ورشف رائق الشعر من ريلكة وغوتة وهولدرلن و... جرت مياه كثيرة في نهره الشعري. منذ “مرساة على الخليج” 1961، التي كشف فيها الشاعر فؤاد رفقة عن رغبته الحارقة في الكشف وارتياد المجهول، والسفر إلى تخوم الشعر وغاباته العالية، وحتى “مراكب العودة” التي آب فيها إلى أمه الأرض، هاتفاً بها أن تضمد شظاياه وأن تمد له السرير، ليرتاح، جاب الشاعر بحوراً وخلجاناً وشواطئ كثيرة. وها هو يعود متعَباً كأرجلٍ في نهاية سباق خاسر. على حافة شيخوخته، يعود الشاعر الجوال إلى بيته الأول.. يعود الولد الضال باحثاً عن شفاء روحه وقد أعياه التمزق الكياني بين قلق الوجود وقلق الشعر.. أعياه الترحال في مدن الله، بحثاً عن الحكمة والشعر والفلسفة. عاد يقطر روحه التي اختمرت بالأسى، يناول الأرض أسراره، يعتمر البوح، ويعد مسامير العزلة. الكاهن القتيل، حارس القناديل تحت خيمة نجمته الشعرية، سمير الأرق الذي يبدأ في العاشرة، يرقب من عين حزنه حادثات الشعر .. يبحث في منحنيات العمر ودهاليزه الخفية عن نكهة السنوات وطعمها اليابس فوق الشفاه. غنائم الشعر تقول السيرة التقليدية إن فؤاد رفقة ولد في العام 1930، بيد أن ولادته الحقيقية كانت في بلاد الألب على يد ريلكة وهَيْدِغِّر؛ الأول عمَّده في نهر الشعر والثاني أدخله إلى حقول الفلسفة، فوجد وطنه الفكري. كان الطائر غريباً في البدء، لكن الرغبة في التحدي والسير على طرقات سار عليها شعراء كبار وفلاسفة عظام، روضت نصف الغربة، وتكفل الزمن بنصفها الثاني. ولم تعد، توبِنْغِن، مدينة للدراسة فقط. صارت كشفاً فكرياً وشعرياً وروحياً انداحت آثاره في روح الشاعر. عرفته إلى كانط وفيشتِه وشيلِّنْغ وهيغل ونيتشه وديلتاي وسواهم، قبل الشروع في المغامرة الكبرى إلى “راعي الكينونة” في غابته السوداء، إلى مارتن هَيْدِغِّر. مرت الأعوام صعبة لكن الرحلة أثمرت أطروحة الدكتوراة عن “الجمال عند هَيْدِغِّر”، ولم تكن تلك سوى البداية لطريق طويلة صعبة، ستتفتح فيها دروب فلسفية لم يعرفها الشاعر سابقاً، سيمشي عليها، يتعثر، يبكي... سيرافق غوته حتى سقوط فاوست في الجحيم، وهُلدِرْلِن حتى جنونه المقدس، وريلْكِه حتى مراثي دوينو، وتراكل في هذيانه الأنقى من عيون ماء في الصخور، ونوفاليس في ترانيمه الليلية وفي هبوطه إلى رحم الأرض، إلى بيته الأول. سيصادقهم ويحاورهم ويشرب من أمطارهم، وسيعود من صداقاته الحميمة معهم بغنيمتين: ترجمات شعرية لأشعارهم تعتبر الأهم فيما ترجم من الشعر الألماني إلى العربية، وشعور غامر بروعة التجربة وبأن فرحة المسير إلى الينابيع كانت طافحة.. وفي الليالي الليلاء، وهو يشارف على الثمانين، سوف يتعكَّز على تجربته تلك، مع رفاقه، رفاق دربه إلى نجمة الوجود. حاملاً “سلة الشيخ درويش” سيبدأ الشاعر من “حنين العتبة” رحلة “الشعر والموت” باحثاً عن “العشب الذي لا يموت”.. سيقطف “قصائد هندي أحمر” ويروي “يوميات حطاب” ويمر “بأنهار برية” في بحثه المضني عن “علامات الزمن الأخير”.. سيعرف معنى التيه في “وادي الطقوس” وربما يجرب أن يبتل بـ “أمطار قديمة” لعلها تكتب معه “خربشات في جسد الوقت” أو تردد معه “مرثية طائر القطا” أو تطل على سحرية الحياة التي عرفها في “شاعر في رارونا”.. وفي المراكب العائدة سوف يحصي خساراته ويحسب بيدره متوسداً “غنائمه الصغيرة” التي منحتها له الرحلة الطويلة، أعني “كتبه” التي وضعتها بين قوسين. بين الجرح والمزار - “في جبال الأرز عيناه على سحب الرّين. في ظلال الرَّين عيناه على شموس الأرز. بينهما تتقاذفه رياح لا تهدأ”.. هكذا كتبت ذات مرة عن مكوِّنين أساسيين يفعلان في فكرك وكينونتك، هل هو الحنين إلى “موطنك الفكري” كما وصفت الحضارة الألمانية ذات مرة؟ - ربما هو العطش الدائم إلى الجمال. أنا مقيم حالياً في بيروت لكن ألمانيا تدعوني الى حفلات عشق لطبيعتها وهوائها وغيومها في شواهق الألب. دائماً يتملك الشاعر، خصوصاً من عاش في أفياء ثقافتين واقترب منهما اقتراب العارف، هذا النوع من العطش. أما عن علاقتي بألمانيا على الصعيد الحضاري فيصعب توصيفها في كلمات. كان أثر الثقافة الألمانية عليَّ هائلاً، وقد قلت أكثر من مرة، إن الحضارة الألمانية أحدثت زلزالاً في أعماقي، هزتني، أنارتني، وأرَتْني من مفاتن المعرفة ما جعل شاباً مثلي يتسع أكثر مما يطيق سنّه وعمره. الثقافة الألمانية أغنت وجودي بكل ما تحمله هذه الكملة من معنى. - رغم ذلك، كتبت تقول في طريق العودة إلى بيروت: رائعة هنا البحيرات، رائعة هنا شواهق الألب وأودية الرَّين، رائعة حتى الدمع. ولكن هناك، في اتجاه الشروق، في اتجاه الأراضي الجريحة، يستريح الجريح، يستريح ويشفى. مم طلبت أن تشفيك بيروت؟ - (تنساب دموعه من عينيه ويتهدج صوته) وهو يقول: عاد الجريح إلى بلاده لأنها كانت في حرب. الوطن كان مدمراً والحياة أيضاً. كتبت هذه الكلمات في توبِنْغِن؛ هذه المدينة التي تشكل بالنسبة إلي مزاراً حقيقياً، فقد كانت نقطة التحول في حياتي ومن الصعب وصف الأثر الذي تركته في نفسي. كنت شاعراً ناشئاً حين بدأت الدراسة فيها فأعطتني طريقي، وقدمت لي جمالاً استثنائياً. ولأن الجمال كان عميقاً، غنياً كما لا يمكن وصفه، شعرت بالحزن على بلادي التي تفتقد أقل القليل من هذا الجمال. شعرت أنه لا يحق لي كشاعر أن أعيش في أحضان هذه التجربة الجمالية والفكرية العميقة والفرح الداخلي الغامر وفي بلادي شعب يتعذب. لهذا السبب قررت أن أعود لأعيش مع الناس آلامهم، ربما أشعر ببعض الراحة. لقد شعرت - يتابع وهو يمسح الدمع من عينيه - بتأنيب الضمير. ليس من القداسة في شيء أن يتنعم الإنسان لوحده فيما شعبه يتألم... حضارة ألمانيا وجمالها فتحا عينيَّ على اتساعهما على بشاعة الحرب التي كانت تحرق كل شيء في وطني. الشعر والفلسفة.. قرابة فاتنة - ثمة انطباع بوجود فراق بين الشعر والفلسفة، الشعر بحرارته الانفعالية والفلسفة ببرودتها الفكرية، إلا أن التجربة الألمانية تجسد أعلى حالات اللقاء بينهما وأغناها، في هذا اللقاء أيهما الرابح: الشعر أم الفلسفة؟ - هذا انطباع عام يشيع في الأجواء الإنجلوأميركية التي ترى الشعر انفجاراً عاطفياً لا يؤدي إلى المعرفة ولا يغني الوجود الإنساني أو العقل البشري. لكن الأمر على النقيض في ألمانيا، حيث الصداقة حميمة بين الشعر والفلسفة. إنهما أقنومان لا ينفصلان سواء لدى الشاعر أو لدى الفيلسوف، وهناك علامات قرابة فاتنة في هذا السياق؛ يكفي أن تتذكر ما قاله هَيْدِغِّر: “كل ما كتبته في كتابي “الكينونة والزمان” موجود في شعر ريلكه”. أما هُلْدِرْلِن فيؤكد أن “ما يبقى يؤسّسه الشعراء”. الشعر يغذي الفلسفة والفلسفة تغذي الشعر. أكثر من ذلك، بعض الفلاسفة الألمان مثل شلّينج يعتبرون الشعر أهم من الفلسفة كطريق للحقيقة، وكذا عندما يتحدث هَيْدِغِّر ونيتشة عن الفن اليوناني. شيلّينغ، هايدغر، دلتاي وآخرون كثر اعتمدوا على العبارة الشعرية ركيزةً لمواقفهم. كذلك نلاحظ وجود عناصر فلسفية في شعر نوفاليس، وغوته، وهولدرلن، وتراكل وغيرهم الكثير. كان نيتشه مثلاً فيلسوفًا، ولكنه كان شاعرًا في الوقت عينه. في ألمانيا احترام هائل للشعر، وله حيز معتبر وموقع مقدر في الفلسفة. لهذا السبب، ولأنني معنيُّ بالشعر والفكر معاً، عثرت على ضالتي في الحضارة الألمانية ووجدت فيها بيتي وخلاصي وإنقاذي. - لعل هذا التوائم نابع من كونك واحدا من “عصبة” مجلة “شعر” التي بذرت مبكراً بذور الحداثة وتحدثت عن شعراء رؤيويون، كيف تنظر الآن إلى تلك التجربة، وما الذي بقي منها؟ - لم تكن مجلة شعر حركة شعرية فقط، كانت حركة ثورية تجديدية على الصعيد الثقافي. يومها تبنت تفجير القوالب الشعرية المتوارثة والانتقال من القصيدة الخليلية الى التفعيلة وفي مرحلة تالية الى قصيدة النثر. كنا ننطلق من قناعة انه لا قوالب مسبقة على الصعيد الشعري، فالتجربة الشعرية يمكن التعبير عنها في أي شكل حتى في اللغة المحكية. المهم أن تكون القصيدة تتحرك في جو شعري. أن تكون شعرية كيانية تعبر عن قضايا كبيرة في الحياة. كان الشعر مناسباتياً، وجاءت “شعر” لتقول إن الشعر تجربة كيانية وجودية مثله مثل الفلسفة والدين وليس فعلا تسْلَويا على طريقة “هاتِ أنشدنا بيتاً”. ولهذا طالبت بالانفتاح على العالم، وقمنا بترجمة الشعر من معظم لغات العالم الحية. مجلة شعر هي نقطة تحول في التجربة الشعرية العربية, وشعراؤها ما زالوا فاعلين في الحياة الثقافية العربية ولهم حضورهم. المترجم يخون مرتين! - صرفت الكثير من الوقت والجهد لترجمة الشعر الألماني إلى العربية، رغم ما يقال عن كون الترجمة عملية أقل أهمية من الإبداع، لماذا هذه العناية بالترجمة؟ - هذه النظرة تعكس قصوراً مريعاً في فهم ما يمكن أن تقدمه الترجمة. عني، لم أعرف شاعراً مهماً إلا وعمل في الترجمة. الترجمة الشعرية مهمة لأنها أولاً تعبر عن الشاعر وتحقق وجوده وتتيح له مشاركة الآخرين تجاربهم والاستفادة من هذه التجارب، ولأنها ثانياً تفيد شعوب اللغة التي يترجم إليها الشاعر. وأنا شخصياً استفدت كثيراً من ترجمة الشعر الألماني. الترجمة تنقل تجارب الشعوب فيما بينها، ونحن حالياً في أمس الحاجة إلى الحوار الحضاري وليس الصراع الحضاري، وليس أفضل من معرفة الآخر، وهو الدور الذي تقوم به الترجمة، لتحقيق هذه الغاية، فالحوار الحضاري يقوم بدرجة أساسية على تبادل الفكر والمعتقدات لا على العلاقات السياسية ولا الاقتصادية ولا العسكرية. الثقافة تبقى أما السياسة فتتغير وتتبدل وترتهن إلى الوقتي والزائل. - ما دمنا في الترجمة، أثارت ترجمة حسن حلمي لـ هولدرلن أخيراً جدلاً واسعاً بين عبدو وازن وعدد من المثقفين العرب، تمحور حول صدقية الترجمة من لغة وسيطة، والخيانة التي يرتكبها المترجم في هذه الحال، ما رأيك في الترجمة من لغة وسيطة؟ وهل الخيانة هنا “خيانة مضاعفة”؟ - الترجمة في العمق، هي نقل حضارة أو تجربة شعرية تنتمي إلى حضارة ما إلى حضارة ثانية، وهذا أمر يصعب إنجازه بدقة واكتمال لأسباب تتعلق باللغة والمترجم وتاريخية المفردات وعلاقتها بالثقافة. أما ترجمة الشعر فتتأتى صعوبتها، من مطرح آخر. إنها طبيعة الشعر وألغازه الوجودية التي يصعب على الشاعر نفسه التعبير عنها فكيف بمن ينقل أو يترجم؟. الشاعر يفسر الإشارات الكونية أو يقترح تفسيرات لتلك المبهمات الوجودية، والمترجم يقوم بترجمة هذه التفسيرات فكيف إذا قام بترجمتها عن لغة غير اللغة التي كتبت بها، أظن أنه سيكون بعيداً عن النص مرتين أو يرتكب خيانتين. بيد أن ذلك لا يعني أن نترك الترجمة أو نكف عنها، بالعكس، ينبغي أن نترجم قدر ما نستطيع لأنها الوسيلة الوحيدة لتواصل الشعوب والثقافات. حصاد أقلّْ - تتردد في شعرك، خاصة “مراكب العودة”، نغمة رثائية عن الحصاد البائس، وعن نجوم بعيدة تظل بعيدة، هل الصيد أقل من الحلم بالنسبة إليك؟ - أعتقد أنني لم أحقق كل أحلامي الشعرية، الشاعر أصلاً هو جوال أبدي على هذه الأرض. بحّار عينه على الأفق وكلما اقترب من الأفق ابتعد عنه. هكذا أرى وجودي الشعري الذي لم أقدر على استيعابه وتجسيده بالكامل. فالشاعر يستحيل عليه اكتشاف الحقيقة كلها وتجسيدها بالكلمة. الشاعر يلمح الحقيقة بين وقت وآخر تبرق كالبرق فيلتقط جزءا منها ويجسده في الشعر. لا يوجد شاعر، أتحدث عن الشاعر بالمعنى الشمولي، إلا ويشعر أنه في بداية الطريق. نحن دائماً على الطريق إلى نجمة الشعر، مرتحلون أبداً في الطريق الى نجمة الوجود، ولا سبيل إلى القبض عليها. - لماذا إذن هذا الرحيل السيزيفي إلى نجمة لا تسلمك قيادها.. إلى قصيدة تستعصي على المجيء؟ - الطريق إلى نجمة الشعر هو المهم، التجربة بحد ذاتها هي المبتغى لأنها تحقق لي وجودي. المغامرة مهمة لا الحصاد ولا الفوز. الشاعر يمضي في مغامرته من دون أن يعرف إلى أين سينتهي، هو يكتفي بأنه يحقق وجوده ومتعته ورغائبه بهذه المغامرة. هموم الشاعر الحقيقي أبدا ودائما تنحصر في الإصغاء الى همسات الكينونة وتفسيرها. انه حارس الكينونة وراعيها. في فضاء قلبه دائماً يتجمع الغيم، ويسقط المطر، وحين ينعدم الغيم في سمائه، لا برق، لا رعود، ولا رياح، يتحول الشاعر إلى حكواتي، إلى نجمة تضيء المسرح، إلى مسرحية للتسلية. حياة الشاعر سفر مستمر إلى الأبعد من البصر، من الأفق. لن يصل. لا بأس. المهم هو السفر، لا النتيجة. النتائج كلها خاسرة. تماماً مثل المغامر الذي يتسلق الجبال ليصل إلى القمة.. قد يصل وقد يموت في الطريق لكنه يحقق وجوده. التجربة هي ما يستحق لأن الطريق الى الشعر لن يوصل الشاعر إلى نجمته. نحن دائماً في ضوء نجمة الشعر. ربما يراها الشاعر وسط الغيوم، يطلبها فلا تأتي. لهذا عليه أن ينتظر ويصبر ويمعن في الترقب. إنه حارس الأفق وعليه أن يجلس منتظراً نجمته، في العتمة، والضباب، والرياح، عليه أن ينتظر البرق الآتي. الشاعر حارس الكلمة، حارس التحولات، الساهر الأبدي لتحقيق هذه التجربة البرقية بالكلمة. هذا الشعر يتخطى بالطبع شعر المناسبات والأيديولوجيات والالتزام، وهي كلها أشياء لحظوية مرتهنة لزمنها المحدود. للأسف بعض الشعراء يعتقدون أنهم أدركوا الشعر، ومن المحزن أن بعض الشعراء الذين يجسدون الآنوي واللحظوي يرتفعون كثيراً في بلادنا، عبر الإعلام والملتقيات والجوائز وغيرها مما لا علاقة له بالشعر من قريب أو بعيد. صحيح أن الشاعر ابن بيئته ومحيطه، وهو غير مستقل عنهما، ويتأثر بهما في الكتابة لكنه الأثر غير المرئي، غير المباشر، الذي يتم إنجازه خارج الفجاجة الشعاراتية والصراخ والصخب. وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت الرؤية التي تحكمه شمولية كونية، بحيث يخرج من تجربة بعينها، كالحرب مثلاً، بقصيدة شمولية، فالقصيدة لكي تبقى قصيدة شعر يجب أن تكون شمولية كونية مثلها مثل أي نظرية فلسفية، مع اختلاف الأدوات وطريقة التعبير بين الشعر والفلسفة. لهذا السبب كتبت في نهاية الكتاب: “رائعة كانت البحار تحت الشمس رغم الصواعق”، أي رائعة كانت المغامرة الشعرية، في ليالي الشعر والسهر الوجودي التي تتخطى كل ما هو زائل ووقتي وآفل. لم يخذلني الشعر - من تلك البحار الرائعة خرجت بلآلئ عديدة، منها “خربشات في جسد الوقت” الذي قلت في أحد خربشاته: “كلَّ مساء يقول في نفسه: إنها المرة الأخيرة، لا كتابة بعد الآن. وفي الصباح يتناول القلم ويكتب”، هل هو اليأس من جدوى الشعر، أم الحالة الشعرية التي غالباً ما تهزمها سطوة الكتابة؟ - لا.. ولا مرة فقدت إيماني بالشعر. أظن أن الشاعر الحقيقي مثل الأرض تتنفس باستمرار وفي كل الفصول، كذلك الشاعر يظل يتنفس الشعر إلى آخر حياته. لكن تمر على الشاعر أوقات يعتقد فيها أنه يكتب آخر قصائده، أو آخر نصوصه، وأنه لن يكتب بعدها. ثم فجأة، كما يطلع الضباب من بطن الوادي ثم يرتفع ويتكاثف ويغطي التلال، ينبت ضباب القصيدة في داخله ويكبر ويتكثف ثم يسقط ندى من الكلمات. من أين تأتي هذه؟ لا أعرف. على صعيد التحليل الفرويدي لا أستطيع أن افهم كيف تأتي هذه الغطيطة من الداخل لتبحث عن جسدها في الكلمات. لا تفسير لديّْ. - مع ذلك، لم تتوقف عن الكتابة وأصدرت “مرثية طائر القطا” و”عودة المراكب” و”شاعر في رارون” في أقل من عام، تراها الرغبة في استدراك ما فات أم الخشية من ذهاب الوقت؟ - ربما أفسر ذلك بأن كتابة الشعر ليست بيد الشاعر. إنها مفروضة عليه. أحيانا تأتي البروق وراء بعضها وأحياناً تختفي. أشعر على نحو عجيب وغريب أن لديَّ الكثير مما أريد قوله، وأتمنى أن يكون في العمر متسع لقوله. الموت.. الموت - تعكس قصائدك بالجملة ذلك القلق الذي يلفُّ الشاعر، ويبرز فيها حزن وجودي، ما قصة هذا الشجن العميق في نصوصك؟ هل هي وحشة الطريق أم الموت؟ - الحزن تجربة كيانية من تجارب الإنسان، وله أسباب عديدة، لكن الحزن الذي تتحدثين عنه سببه مشكلة وجودية وفلسفية هي الزوال أو الموت إن شئت. يحزنني أننا زائلون، وأننا عاجزون عن تأبيد اللحظة أو تجميدها.. نحن عابرون، ننتهي إلى لا شيء. أعتقد أن مشكلة الإنسان الكبرى تتمثل في كيف يواجه الموت. هناك من يواجه هذا السؤال المصيري بالإيمان، وهناك من يلجأ إلى العبث والاستهتار، وهناك من يبحث في الأعمال الخالدة عن الخلود. وكل ما نقوم به عن وعي أو غير وعي هو محاولة لتخطي الموت، لكن من يستطيع أن يتخطى الموت في النهاية؟. - ... وماذا عن الإيمان؟ - لا عداوة بين الفلسفة والإيمان في نهاية المطاف. ثمة فلاسفة كانوا مؤمنين، وهناك مؤمنون فلاسفة. - غامرت كثيراً في البحر، سافرت في أكثر من مدينة: من دمشق الى بيروت الى ألمانيا تعددت مرتحلاتك الشعرية والجغرافية، وتوزعت الروح، فأين الشاعر؟ هل يكون الشعر مدينة الشاعر الأخيرة؟ - لا يتحقق فرحي بغير الشعر، إن وجودي الشعري سرّ غبطتي. وإن شئت الدقة، أنا في حقيقتي الداخلية شاعر يفكر ومفكر يشعر. بهذا المعنى، أظن أنني أشبه المعري أو أكمل خطه الشعري أو خط التصوف في الإسلام. إنني أشعر بالفعل خارج الوجود الشعري بأنني سمكة خارج الماء. الشعر مائي وهوائي ومدينتي وبيتي ولهذا قضيت حياتي أكتب الشعر أو أترجمه وفي الحالتين كنت مع الشعر.