ليس هذا حواراً فحسب، بل هو أقرب إلى الاحتفال بصوت قصصي نسوي إماراتي جديد ومختلف، إنه صوت ذاتي تماما وفردي تماما، ربما لأنه، في العمق، صوت غير متحفظ وصريح، وينطوي على موهبة عالية تنتج نصا يكشف عن مواقف تجاه القضايا الإنسانية الكبرى كالكتابة الإبداعية وماهيتها، كما أن لها موقفا واضحا ورؤية فلسفية من العالم تقوم من خلالها باستبدال العلاقة بالبشر إلى العلاقة بالأشياء. خلال هذا العام والذي سبقه، أصدرت مريم الساعدي كتابين قصصين: “أبدو ذكية”، و”مريم والحظ السعيد”، يتأسس اختلافها، بوصفها قاصة، على البنية الشكلية للنص القصصي، حيث ترتبط هذه البنية بعلاقة الشخصيات بالحدث، فتجعل من هذه العلاقة المتوترة نوعا ما، لكنها متوالدة بحكم نسيجها السردي الذي يسمح للحكاية بأن تتناسل شخصياتُها من الحدث ذاته، مع أن هذه البنية قد توهم البعض بأن مريم الساعدي تقترب من أن تصبح روائية. أما الأمر الآخر، فيتمثل في مقدرة مريم الساعدي على أن تجعل لأي شيء أو حدث حكايةً تخلق منها، أو لها، شخصية ما كي تقول، هي، عن هذه الشخصية شيئا ما؛ لأن لديها رغبة عالية في البوح. فيما يلي الحوار: ? إن حضور الساردة بوصفها مريم الساعدي، كاتبة وقاصة، يبدو واضحا بدءا من عنوان كتابكِ “مريم والحظ السعيد”.. هل الواقع هو المادة الخام الذي تستمدين منه قصصك وحكاياك وأفكارك؟ ? أعتقد أن الواقع هو دوما ما نستمد منه القصص، حتى لو كانت قصصا من الخيال العلمي، لابد دوما أن تكون له مرجعية واقعية. فهذه حياتنا، وتلك أفكارنا، كلها تمتزج مع صراع الحياة الواقعية لتنتج فنا من نوع ما قصصا كان أو غير ذلك. فالواقع بكل ما فيه وبما ليس فيه أيضا هو المادة الخام، أنت تنظر للواقع وحين ترى ما يؤثر فيك، أو حين لا ترى ما تتمنى رؤيته، أو ما يكفيك لتشكل رؤية، توجده في قصة. وهذا ما أحب بشأن الأدب والفن عموما أنه دوما قادر على خلق واقع مختلف أكثر زخما ربما، وربما ورديا أكثر لو تريد. أيضا في الأدب أنت تشرّح الواقع، والتشريح يجعل الأمر مفهوما أكثر، وحين يكون مفهوما يصير ممكنا التعايش معه، يعني تصير قادرا على التعامل مع واقعك بكل ما فيه، تصير متحكما في موقفك منه، فلا تتركه يقتحمك ليلغيك ولا تضطر الانزواء بعيدا عنه لتنقذ نفسك، التعامل مع الواقع مهارة مهمة لاستمرارية الحياة بدون أن تكتسحك اضطراباتها. ومريم موجودة في قصصي لأنها قصصي ولأني أنا كاتبتها، لأن فيها انطباعاتي وأفكاري وتساؤلاتي ومحاولاتي المستمرة للوصول إلى شواطئ مختلفة من الإنسانية والفهم والتجلي، أنا لا أستطيع أن أنعزل عما أكتب وأكتب بحيادية، وكأن الأمر لا يعنيني، لأنه في الحقيقة يعنيني لذلك أنا أكتب منذ البداية، لأنك أنت، كإنسان، تعنيني بشكل شخصي جدا ولا أجد في ذلك ما يضير لكي أتخفى وراء السارد الغائب، فأنا هنا حاضرة وأريد استخدام صوتي، فأنا شخص وموجود ولدي حواس خمس وقلب وعقل وشعور وهذه العناصر هي ما تجعل للإنسان القدرة على التفكر والتفكير والنطق، وتكوين مخزون للأشياء الكثيرة التي يود التعبير عنها. ولكن ربما هذا ما أعتقده في هذه المرحلة فقط، ربما في مرحلة لاحقة، حين أكتفي من ممارسة وجودي الشخصي عبر الكتابة (أو عبر الحياة)، أستطيع الكتابة بشكل حيادي أكثر وتبني تقنية السارد الغائب. زاوية رؤية ? في هذا السياق، ماذا عن دور التجربة الشخصية في العيش والقراءة وكل المؤثرات الأخرى في إنتاج فعل “القص” أو فعل “الحكي”، بالتالي هل القصة إعادة تدوير للواقع؟ ? اقتنعت دوما أن الحياة ما هي إلا زاوية رؤية. وهذه الزاوية مستمدة أساسا من التجربة الشخصية. مكونات هذه التجربة هو ما يؤثر على هذه الرؤية ما يعني أن باختلاف الزاوية تختلف الرؤية ويتنوع موقفك من الحياة. الحياة قصص، مليئة بالقصص، ربما لم تقع لي أنا على وجه الخصوص، أي ليس بالضرورة أن كل ما أكتبه يعني أنه وقع لي أنا حتى لو استخدمت صيغة المتكلم المباشرة لكن فقط أحب تقمص الحالة لأنها تجعلني أقرب من الشخصية في القصة وأشعر كذلك أن صيغة المتكلم أقرب للقارئ أيضا إذ يبدو وكأنه حوار مباشر بين القاص والقارئ بدون وسائط، وهذه تقنية شائكة خاصة في مجتمعات لا تمارس قراءة الأدب كأسلوب حياة يومي؛ لذلك قد يحصل الخلط وسوء فهم ويُظن أن الكاتب يتحدث فعلا عن نفسه، حاولت تحاشي ذلك أحيانا، لكن غالبا أكتب كما أجده أقرب لنفسي فأنت تعيش لمرة واحده، ومن المهم أن تشعر أنك فعلت ما بوسعك لتقول كل ما كان يجب قوله. قد تأتيني الفكرة من كتاب قرأته مثلا، أو من لحن موسيقى يرفعني عن الأرض فأراها من أعلى، من لوحة تأخذني إلى حقول خضراء دون أن أتكلف سعر تذكرة سفر. أو باستمرار من مشاهد تحصل أمامي. القصة بالنسبة لي محاولة لفهم الحياة أكثر منها إعادة تدوير للواقع، لماذا قد أحتاج إعادة تدويرها أساسا، اخترع الإنسان تقنية إعادة التدوير ليستخدم الأشياء مرة أخرى، لكن الحياة تعاش فقط مرة واحدة، أحيانا تكون الأشياء أصعب من تقبلها، أو مبهمة تماما، أي مثلا قد أرى شخص يقسو على آخر أمامي، ولكن طبيعة العلاقة لا تسمح لي بالتدخل المباشر وسؤاله لماذا وماذا فعل وكيف، فأكتب نصا أحاول فيه أن أفهم مغزى القسوة وإحساسنا بالآخر وكيف أن الإنسان الأقوى هو حين يكون وردة، وربما أكتب شيئا آخر عن ملامحنا وكيف ما يعتمل في الداخل يغيرها ويشكلها ويلونها، وربما عن موقفنا من الوجود وخشيتنا على البقعة التي نقف عليها، أي موقف صغير مثل هذا يمكن أن يولد لدي الكثير من التساؤلات التي لا أرتاح حتى أعبر عنها، ولربما لو كان لدي صديق حقيقي واحد ومتفرغ كليا لما لجأت للكتابة، كنت ثرثرت طوال الوقت فقط في محاولات فهم لا تنتهي. وربما هذا هدفي من الكتابة أساسا؛ التواصل. السيف والوردة ? إذن ما الكتابة بالنسبة إليك، أهي موقف من المعرفة ومن العالم؟ وبالذات موقف من المجتمع ومبالغاته في القسوة؟ ? لا أدري عن مفردة “موقف” ربما لو سألتني هذا السؤال قبل سنوات لقلت بثقة نعم هي موقف؛ لأن الأشياء في كل البدايات تبدو واضحة أكثر، لكن، الآن اختلطت الأمور، أصبح العالم غير مفهوم إطلاقا، ولا تستطيع أن تتخذ موقفا في وضع لا تفهمه. يعني مثلا تتابع أخبار العالم فترى الخراب بكل أشكاله ومشاهد تدمي القلب لنسوة وأطفال وأشخاص مساكين لا حول لهم ولا قوة، يظهرون حفاة جوعى عراة ومشردين ولا تفهم لماذا يحل بهم هذا، وترى على وجوههم تساؤلات لم تعد تبحث عن أجوبة، فالأخ والغريب اجتمع عليهما، ثم تختلط المشاهد ولا تعرف من القاتل والقتيل، ثم لا تعد تدرك لمن تسمع، ومن أين يأتي الصدق ومن القائل إن الدنيا نفق مظلم في آخره ضوء. لأنك تيأس من رؤية ضوء. أي موقف يمكن أن يُتخذ وقد اختلطت ألوان قوس قزح فأصبحت لونا واحدا لا ينتمي لأي لون تعرفه. الكتابة، هنا تبدو مجرد محاولة للتصالح مع حقيقة وجودك ولممارسة الحياة والاحتفاء بأشيائها الصغيرة فقط، حين لا تستطيع أن تتدخل بشكل مباشر وتنزع السيف من يد الجلاد. فالسيف يتشكل أحيانا ليبدو وردة، والجلاد يتشكل أحيانا ليتخذ وجه أخيك، وفي هذا الهرج لا تملك إلا أن تسير مع الركب أو فقط تمسك بقلم تحك به قلبك وتكتب. لعل النفس تهدأ. ? إذن فما الجدوى من الكتابة؟ بل ما ضرورتها؟ ? تسألني أسئلة كبيرة. وما أنا إلا شخص يتلمس الطريق. لا أعرف صدقني، كما قلت سابقا أنا أكتب لأفهم، لأن الفهم يريحني، أي الجدوى هنا تبدو شخصية أكثر من كونها رسالة تدّعي القدرة على تغيير وجه الأرض. مرت أوقات كثيرة شككت في الجدوى، لذلك بلغت من العمر عتيا ولم أكتب إلا القليل، لكن ما يسعدني حقا، أو ربما يجعلني أشعر بالجدوى، حين أتلقى رسالة من أي إنسان في بقعة مختلفة من العالم ـ وشكرا للإنترنت ـ يخبرني أنه قرأ لي نصا ووجد فيه عذوبة تنسيه قسوة الحياة ولو للحظات. هل تعرف ما أقصد؟ أصبحت الكتابة وسيلة للمداواة، وكأنك تتحدث مع صديق حميم وتخبره بأنك تعرف تماما ما يحس به وبأنك معه لأنك تحس مثله. أصبحت مثل تشارك الإحساسات، فالبشر تحولوا إلى جزر منعزلة، والتواصل عبر نص يلمس شيئا فيهم هو الجسر الذي يصل بينهم. أعتقد أن هذا هو دور الأدب المهم والحقيقي، يحتاج عالمنا لجسور كثيرة من هذا النوع، فأنت حين تقرأ أدب منطقة غريبة تصير هذه المنطقة أقل غرابة، تصير الأسماء التي يصعب على لسانك نطقها مألوفة أكثر، ويصير شكل الأزياء الشعبية الغريبة لأي مجموعة بشرية منطقية أكثر، أي يتطور لديك الإحساس بتقدير الوجود الفولكلوري لكل القبائل البشرية مهما بدت مختلفة تماما عنك. لذلك يسعدني جدا توجه أبوظبي الجديد نحو الثقافة والأدب والفن، ربما هي البداية لكنها قوية وبالكثير من الجهود الجادة والصادقة يمكن أن تضعها في موقع مهم على خريطة التاريخ الإنساني. نحن نريد أن نقول كلمتنا، بأننا دعاة سلام، والأدب دعوة سلمية في النهاية، لأنه دعوة جمالية، والإحساس بالجمال لا يزدهر إلا في حالة سلم. فلو تمكن كل فرد في العالم من تقدير قيمة قطرات اللعاب الصافية المنسكبة من ثغر طفل يضحك وأمه تدغدغه، لفكر مرارا قبل أن يقدم على أي فعل من شأنه إحداث مأساة في أي بقعة من الأرض وشرخ في أي قلب. البوح والصراخ ? أشعر أن كتابة القصة لديك هي، بمعنى ما، نتاج رغبة عالية في البوح؟ أو حتى الصراخ؟ ? لكن أليس الفن عموما هو رغبة في البوح والصراخ؟ أنت لا تكون كاتبا أو فنانا؛ لأنك شخص بيروقراطي جل همه مصلحته الشخصية. أنت تصير كاتبا لأنك تتأثر، لأن لديك شحنات مضاعفة من الحلم ومن العاطفة، أنت تصير كاتبا لأنك لا تخجل من كل ذلك ولا تجد في التعبير عنه ما يعيب، لا تخجل أن تكون حالما بعالم أفضل أجمل خال من القسوة. حتى لو جعلك هذا موضع سخرية أصدقائك البيروقراطيين وتندرهم أحيانا. ? شعرت أن هناك خذلانا عند أغلب شخصياتك، أو أنها تشعر بنوع من الإحباط “المثقف”، إذا جاز التوصيف، أهو إحساس مريم الساعدي؟ ? تقصد إذا كنت أنا شخصيا مصابة بالخذلان؟ نعم، وبشدة. لكن ألا تشعر أنت كذلك أيضا؟ ألا يشعر الكثيرون كذلك؟ عندما كنت صغيرة كنت أعتقد وبشدة أن الخير ينتصر حتما، وأن النهاية السعيدة هي المشهد الأخير في كل قصة، ثم رأيت أن الأمر ليس بالضرورة هكذا، وحتى الآن لم أفهم لماذا. يخذلني العالم الصامت على الألم في حين بوسعه مع قليل من الاهتمام تخفيفه. هناك عدد كبير من الناس يعيش حالة الخذلان هذه لأنه تمنى أشياء مختلفة عما حصل عليه، أو لأنه لم يحصل على شيء إطلاقا، أو لأن قوة خارجية انتزعت منه الحياة والأحلام فقط لأنها تستطيع فعل ذلك أو لأنه بالنسبة لها غير مرئي ووجوده لا يهم. أريد أن أكتب بسعادة، لكن الواقع أن الحياة مليئة بالألم، كم من الناس السعداء؟ هناك أناس راضون، بمعنى مستسلمين، وتجدهم سريعي التأثر والدمع، هو حزن دفين يتعالون عليه. وهناك أشخاص كثيرون، أعداد مهولة من البشر تعيش تحت خط الفقر، وشباب كثيرون كان من الممكن أن تكون حياتهم أروع لو أكملوا تعليمهم مثلا أو وجدوا عملا يفجرون فيه طاقاتهم، بدل أن يتحولوا لكمّ مهمَل لا يأبه بالحياة ولا تأبه له الحياة. عليك الانتباه إلى أنني لا أتحدث فقط عن مجتمعي في الإمارات، اعتدت أن تكون نظرتي شمولية، اعتدت أن أرى العالم أجمع في كل بقاعه، وأعتقد أنك لا يمكن أن تكون كاتبا إن لم تكن كذلك، وأن هذا ما يجعل من أي شخص كاتبا؛ “الإحساس الفائض بالآخر”، الانشغال بالآخر، بالإنسان، يجعل منك شخصا مهموما والفن وسيلة للتعبير عن الهم، حتى لو قلنا هو أيضا وسيلة للتعبير عن الفرح فحتى هذه تعتبر وسيلة لطرد الخوف من الخسارة والفقد وهذا هو جوهر الهمّ، ربما تكون سعيدا، لكن بحذر لذلك تمارس أي شكل من أشكال الإبداع حتى لا يأخذك الشعور فتسكن فيه ويسكنك وتصير معرضا للهلع الذي يصيب البشر الغافلين. أنت لا تريد أن تكون غافلا لذلك تتناول كل ما يحصل في الحياة من ألم أو فرح بحذر والعمل الإبداعي وسيلة جيدة لفعل ذلك. حق الحلم ? في الوقت نفسه تبدو هذه الشخصيات “حالمة” ولديها دائما رغبات لم تتحقق، هل الحلم حالة تعويضية كي يتمكن المرء من احتمال العيش والاستمرار فيه؟ ? نعم هو كذلك، يلجأ الكثيرون للحلم. يقضي البعض عمره حالما، ليس من الضرورة أن تصفعهم بحقيقة أن عمرهم مضى، وأن عليهم الكف عن الحلم لأن الوقت قد فات لتحقيقه، وأن عليهم الالتفات إلى الواقع والعيش فيه بدلا من ذلك. لأن الحلم بالنسبة لهم هو قاعدة هذا الواقع، لذلك يسعون جاهدين لتحقيقه رغم انعدام الرؤية، لأنك لا يمكن أن تمتلك واقع دون قاعدة، سيسقط السقف على رأسك. هم لا يريدون أن يسمعوا مثل هذه النصائح لأنهم يعرفونها لكن فقط يتعالون عليها لأنهم لا يملكون غير ذلك، فهم يريدون فقط الاستمرار في الحياة بقلب منشرح قدر الإمكان. الإنسان هو حلمه، أعتقد هذا ما يحدد هويتنا الحقيقية، الحلم غير المتحقق هو المأساة في حياة الإنسان، والإنسان يكافح السقوط في هوّة المأساة إما باختراع أحلام بديلة، أو بمواصلة السعي لتحقيق الحلم الأصلي إلى آخر العمر. وكل هذه قصص تستحق التأمل بجدارة. ? أخيرا، أشعر أنك تتعاطفين مع شخصياتك، ألم تشعري مرة بضرورة القسوة عليها وتمزيق مصائرها التي قد تكون معدة سلفا من قِبَل الكاتبة؟ ? قسوة وتمزيق؟! ولكن لماذا؟ ألا تكفي قسوة العالم الواقع؟ لا يا عزيزي، القسوة مزقت العالم، يكفي قسوه، ربما يجب أن أتعاطف معها أكثر دوما وأبدا. فهذا ما نحتاجه حقا؛ كميات مضاعفه متتالية متكدسة متراصة شاهقة سامقة من التفهم والتسامح والتعاطف. لعل هذا التعاطف الأدبي يتحول لفايروس تنتقل عدواه إلى الحياة في الواقع فتُزهر لتصير جنة.. أو شيئا مثل ذلك.