يختلف قاموس إلياس سنبار سفير فلسطين لدى اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم) عن غيره من القواميس المعروفة، فهو لا يجنح إلى تعريف معنى الكلمة أو تصريفاتها النحوية بل يؤسس لمجموعة واسعة من المصطلحات والألفاظ والأحداث التي تتعلق بفلسطين تاريخاً وتراثاً وحضارة وقضية سياسية، وقد بذل فيه المؤلف جهداً واضحاً للتأصيل المفاهيمي لهذه المفردات وقام بتبويب مقالاته وفق الحروف الابجدية الفرنسية. أما الكتاب فيحمل عنوان: “قاموس محبّ لفلسطين - Dictionnaire amoureux de la Palestine». وأما الكاتب فهو باحث ومفكر فلسطيني ولد في حيفا عام1947 وغادر فلسطين مطرودا رفقة عائلته ولم يتجاوز عمره العام الواحد ليستقر في لبنان، وهناك انضم عام 1960 الى صفوف المناضلين الفلسطينيين ثم انتقل إلى فرنسا عام 1960 للدراسة. وهو مقيم بباريس منذ عقود، وقد أشرف على المجلّة الصّادرة باللّغة الفرنسيّة “مجلّة الدّراسات الفلسطينيّة - Revue d’études Palestiennes من 1980 إلى 2006 تاريخ تعيينه ممثلا لفلسطين لدى “اليونسكو”، كما ألّف عديد الكتب باللّغة الفرنسيّة من بينها “وجوه للفلسطينيين” وترجم ايضا العديد من القصائد لمحمود درويش الذي ربطته به صداقة متينة. نفي الهويّة بدأ سنبار قاموسه الجديد بكلمة Absence (الغياب)، ولمّا سئل عن رمزية هذه الكلمة أجاب: “لأنّ فلسطين وخلال ستّين عاما هي غائبة”، وفسّر ذلك بأنّ فلسطين لم تغب بسبب عمليّات عسكريّة ولكن بسبب فسخ ومحو اسمها، والاسم هو حامل الهويّة والوجود، مضيفا: “إنّ فلسطين قد تمّ احتلالها من العثمانيين والإنجليز لمدّة طويلة، ولكن ما حدث عام 1948 أمر مختلف، فقد تمّ استبدال شعب بشعب آخر، وأصبح الشّعب الأصلي غائبا”. وجاء في القاموس قول المؤلف:”ان فلسطين ليست بلدا محتلا بل هي بلد مختفية وغائبة”، واستشهد المؤلّف في معرض حديثه عن “المنفى” بمقولة قالها له صديقه الشّاعر الرّاحل محمود درويش الّذي أسرّ أنّ المنفى كان كريما معهما، وفسّر إلياس سنبار هذا القول بأنّ المنفى حتّى وإن كان مؤلما وموجعا فإنّه سمح لهما بـ “التّجاوز” وان تجربة المنفى لكليهما لم تكن سلبية بل فيها اثراء وتحرير لهما. وربط المؤلف معنى الغياب والمنفى بالغربة والاغتراب وخصص مقالا لتحليل ما سماه”غربة الفلسطيني عن ذاته”. ويشرح المؤلّف للقرّاء الأوروبيين أنّ البريطانيين أحصوا 800 مكان عبادة للمسلمين والنّصارى واليهود في فلسطين، وأنّ فلسطين رغم صغر حجمها الجغرافي عرفت وخلال قرون تعايشا وتسامحا بين الدّيانات السّماويّة الثّلاثة. ويؤكّد الكاتب، وهو فلسطيني مسيحي، أنّ 540 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفّة الغربيّة نجحوا في أن يجعلوا السّلم مستحيلا تقريبا، وإذا حصلت معجزة بإبرام إتّفاق سلام ولم يتمكّن تطبيقه على أرض الواقع لن يبق هناك إلاّ حلّين إثنين: إمّا طرد الفلسطينيين مثلما حصل عام 1948 لضمان التّجانس الإسرائيلي، وإمّا دولة مختلطة، وهذا الحلّ الأخير سيكون بمثابة الكابوس للمتطرّفين الإسرائيليين، ولذا يجب الدفاع بقوّة عن مبدأ تقاسم الأراضي، وهو الطّريق الوحيد نحو التّصالح. ذكرى وذاكرة تضمن الكتاب الذي جاء في 481 صفحة ذكريات عن طفولة المؤلف وصباه مع اهله وذويه، وحديثا عن شخصيات تعرّف عليها عن كثب على غرار الراحل ياسر عرفات ومحمود درويش الذي اورد شذرات من احاديث جرت بينهما عن الوطن والمنفى والسعادة ومنها ما قاله الشاعر لصديقه في جلسة: ? ماذا سنفعل انا وانت عندما يتقدم بنا العمر؟ فاجابه: سنجلس تحت شجرة تين بفناء منزل فلسطيني نتجاذب اطراف الحديث عن احوال الطقس ونتأمل في السحب”. كما تضمن الكتاب صفحات عن تاريخ فلسطين منذ الانتداب البريطاني وصولا الى الحروب العربية الاسرائيلية وحرب لبنان والانتفاضة الاولى والثانية، ومعلومات موثقة عن تاريخ القدس، وجغرافية فلسطين ومواقعها الاثرية والادب الفلسطيني والسينما ايضا، كما اورد المؤلف مقالات عن مآسي عائلات فلسطينية كثيرة معرجا على تاريخ عائلته، وعلى تاريخ حركة”فتح” واعلان الدولة الفلسطينية عام 1988 ومفاوضات اوسلو ومدريد، واستعرض الكاتب حقوق اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة ومسألة النمو الديمغرافي للاسرائيليين والفلسطينيين. وعالج المؤلف في قاموسه مواضيع لها صلة بالمجتمع الفلسطيني وعادات وتقاليد الناس، كما حلل مفهوم “الصداقة “ ومفهوم النضال، مستعرضا العلاقات بين الفلسطينيين والاسرائيليين ومتطرقا الى المسألة الدينية وما اسماه:”الهوية الدينية لفلسطين”، ولم يهمل صاحب هذا القاموس حتى فنون الطبخ الفلسطيني التي خصص لها مقالة كاملة، فجاء الكتاب شاملا حافظا لذاكرة ارض فلسطين وشعبها.