حجبت الدموع رؤيتي، سادت ضبابية المكان ومسير حياتي، صرت تائهة، لا معنى لما أحيى، أنتظر انقضاء أيام طالت، وخوفي يزيد يوما بعد آخر، لا أدري لم عاكسني جهدي، وخرّت طاقتي فجأة، ساد البياض تفكيري، يقولون إنها عارضة وستمر، لكنها طالت معي زمناً غير قصير في مجال يتخذ الإنتاج ركاباً، حاولت تلوين البياض وقهره، لكنه انساب وامتد ليغوص في أعماقي ويشملني. غُصت بدواخلي أفتش نوراً يسدل نوره على طريقي، فما وجدت إلا بقع خوف امتدت في جوانحي، خوف كان قاسياً، سيطر علي ولم أستطع فك قبضته من حول رقبتي، جرى مدمعي ليالي ومازال يجري، فجأة عذابات الغربة طفت على سطح حياتي، فجأة أصابني الهلع من رنات هاتفي، خوفاً من حمل أثقال خبر غير ملائم، ونائبات لا أستطيع تحملها، هكذا أصبح يبيت مقفلاً لئلا يحمل نبأ وفاة أو أي مصاب خاصة عن والدتي. هذا الشعور غذاه ما بات يعلق بشكل دوري على باب مصعد العمل من تعازٍ «تعزية في والد زميل»، وأخرى في «والدة آخر»، وكثير منهم فجعوا في آبائهم وأمهاتهم في ظروف متقاربة، وعددهم غير قليل، وكان آخر خبر نشر عن وفاة أب في المطار حين قدم لاستقبال ولده بعد سفر طويل، ورغم عُتي سنه أصر على استقباله في مطار القاهرة، ليعانقه بعد ظهوره من سفر طويل، فسقط بعد ذلك من أدراج الحياة ميتاً، هذه الحوادث تجعل الإنسان يراجع مسيرات حياته وخطواتها تباعاً. فأن يربي الأهل، ويتنفسون عشقاً بأولادهم، ويهيمون بهم ولهم في الحياة، يتمنون ابتساماتهم الأولى، وينشدون أغرودة الحياة لهم، يفرحون بنطقهم أول كلمة، ويسعدون بابتساماتهم الأولى، يعانقون الصعاب ويركبون مخاطر الحياة ويعتركونها ليكون الأبناء في مسرح الحياة، وحين يشتد العود والساعد، كل تقذف به الحياة في مكان، ليظل الأهل يرقبون ويتقلبون في أوجاعهم ينتظرون قدومهم أو عدمه، فكيف يحتسب العمر دون برهم وودهم والنوم في أحضانهم؟ ولا سبيل لصد الخوف الساكن في جوانحنا عليهم، حين قدومنا نعانقهم، وحين نغادر نخاف أن لا نراهم مرة ثانية. المرض إعلان بتقبل المفاجأة وبداية لها، لكن للموت أحكام، وللغربة أحكام أخرى، أن تحضر المرض وتتهيأ نفسياً له أهون من تقبل الفاجعة بعد فراق طويل، تمارس بنوتك من خلف الأسلاك الهاتفية فهذا شيء قاس، لا يشعر به إلا من يعيش الخوف يومياً على والده أو والدته ينهل منهما المرض ويحتف بهم إلى نهايتهما. يصاحبني خوف رحيلها أبداً، أخاف أن لا أرى وجهها مرة أخرى، أخاف أن لا تجيبني على اتصالاتي اليومية، وأخاف أشياء كثيرة، بعثرني هذا التشاؤم وقطع قلبي أشلاء، فتضرج وجهي حمرة خوفاً وحزناً واعتصرت ألماً، أبكيها بحرقة شديدة، إذ فجأة تخطف المنايا الناس، ولا تعطي فرصة للعناق وقطع حبل الشوق. المحررة | lakbira.to nsi@admedia.ae